ناجح المعموري - السرد الشعبي مرآة الجماعات

ينطوي السرد الشعبي على الطرفة والنادرة وبوجودهما يمنح حضوره صفة تاريخية تومئ لأصله المبكر في الحياة العربية، وقد ذكرته المصادر باعتباره من مزاولات الإعراب، لكن دخول الأفراد والجماعات الشعبية جعلت من النكتة نصّاً شعبوياً وتشاركه مع الأكذوبة كما ذكرت، فتح أمامها إمكانات قراءة أعمق تشارك بين المروية السردية الساخرة / وبين التكاذيب حسب مصطلح الغذامي وكلاهما ينتميان للسرد، وهذا هو المهم، وذهب عبد الله الغذامي الى اعتبار التكاذيب جنساً أدبياً، لأنها ساهمت بتكوين أو تغذية الشعر والسرد للإطلاع عبد الله الغذامي / جماليات الكذب / مجلة فصول / العدد 68/2006/ص195.

وتأسست علاقة عضوية فيما بين الكذب وفن الرواية، وتعززت هذه الصلة في أدب أمريكا اللاتينية، حيث في السرد يأتي متشابهاً تمام الشبه مع الأكاذيب، ويبرز الشاعر والناقد الأرجنتيني بورخيس بابتكاره لجنسي ادبي هو ( ) وهي حكايات على شكل "مقالة قصصية" نعتمد على تكليف الوهم والحلم البشري وتبنى تهكمياً تمتزج فيه السخرية بالعبرة... وتتكاثف الحاجة الإنسانية الى تصور عالم تخيلي فانتازي مرغوب ومستحيل، يعمد في هذا العالم الى أحداث تعايش داخلي فيما بين الفانتازيا والمحسوس / ن.م / ص195//منقولات د. عبد الله الغذامي مصدر جيد، مساعد لإيضاح المشترك بين التكاذيب والسرد والشعر والتحقق أفضى الى نشوء جنس أدبي بورخس. وأنا اذهب للإعلان عن وجود دور حيوي للأكاذيب في النكتة والنادرة ، لأنها لم تكن حقيقية ولا تعبر عن حدث إلا ما ندر، لأن حصول ذلك يفقد النكتة فاعلية ما تضمره وما توحي به وتومئ إليه .
انا اعتقد بأن ظاهرة العودة للذاكرة وتسجيل مرويات عاشت عقوداً عديدة ونشرها، ينطوي على اغتراب بالدور الذي أداه العقل الشفاهي، في مراحل النظام ضد الإقطاع. كما يشير هذا الجهد المكلف مادياً الى وجود حاجات عديدة، منها اجتماسياسي وثقافي واقتصادي لإيقاظ الذاكرة والعناية بالمرويات التي اختبرها الزمان الطويل، وحافظ على جوهرها، لما فرض حضوراً جديداً قادراً على بث أكثر من رسالة، أهمها تحريض الأفراد والجماعات على قبول ما كان متداولاً والتعلم منه للتصدي للسائد من مؤسسات فاسدة. مضافاً لذلك، أنا أجد حضور نسق داخلي في المرويات السردية الكثيرة، والمتنوعة، ومن بينها النكتة والأكاذيب وهذا النسق المضمر احتجاجي / معارض ومقاوم تقوده الأفراد والجماعات المهمشة والقادرة على أفعال ملاحقة للنخب المتعالية المتهمة بالفساد المالي والإداري، وهي مالكة لبلاغة اللسان والقادرة على الكتابة والتدوين وتسجيل كل شيء بطريقة مزورة ومشوهة. وهذا التخويل الجمعي فوضها بدور سياسي بارز وكبير وحققت تأهلاً لها بحكم مكانتها المجتمعية التي وفرت لها إمكانات ليست قليلة للتعلم والتحصيل الدراسي، قادها لاحقاً / الآن للتحكم بكل ما موجود في الحياة. وأشار لذلك د. عبد الله الغذامي حينما قال "بأن اختراع الكتابة أتاح ظهور النخبة العالمة، فإنه في المقابل قد أدى الى ظهور جماعات لا تحصى من المهمشين الذين لا يملكون قدرة على التعبير عن أنفسهم وليست لديهم وسيلة الى ذلك، هم الأبناء الفاسقون، والفاسق لعبة هو الخارج قياساً على فوق التمرة من قشرتها أي انسلالها وخروجها... وتتسع قواعد الأميين المهمشين ثقافياً وليس لهم دور في صناعة ثقافة ولا استقبالها، وصارت لهم ثقافتهم الخاصة المضطهدة مثلهم، وهي شفاهية بالضرورة، وفي المقابل نخب ذات اقلية عددية لكنها تملك المفاتيح السحرية لإدارة الكون وتقرير المصائر / د. عبد الله الغذامي / الثقافة التلفزيونية / سقوط النخبة وبروز الشعبي / المركز الثقافي العربي / بيروت / 2004/ ص50.
شيوع النكتة وسيادتها مع ما تنطوي عليه مخاطر كبيرة، في زمن النظام السابق ليست لإمتاع الآخر وإضحاكه والترويح عن متاعبه والتقليل من قلقه ومخاوفه، هذا ما كان يشاع عن بعض الأسماء اللامعة في مجال صناعة النكتة في محافظة بابل واتهمت بالعمالة للنظام. بل الحقيقي هو ما نهضت به من دور كبير ثقافياً كذلك لها وظيفة ايديولوجية، وتحولت الى مركز للعمل ضد السائد بهدوء واستطاعت التحول الى نوع من الكبريت، قدم كثيراً من الأفعال في مراحل العنف والانتفاض. الكوميديا هي الطاقة المضمونة في السرد المروي بحدود ضيقة، ويخشى الراوي بث رسالته مع شخص واحد والسخرية الضاحكة تسربت الى أنظمة الثقافة الشعبية مثل الإذاعة والتلفزيون. ولابد من الانتباه لموسم الصوم ونوع البرامج المتنوعة التي تبثها عشرات الفضائيات وقد تحضرت لها منذ فترة قديمة. وكلنا نتذكر بأن أكثر البرامج بكل تعددها وتنوعاتها ذات مسحة كوميدية متوترة بالسخرية والنقد اللاذع وإشاعة الترميزات الجارحة وتوظيف اللغة، لأنها منتجة الخطاب الذي يتمظهر عن رسالة تستهدف السلطة أو يمرق مجاوراً لها.
وذكر د. عبد الله الغذامي، أن إدارة البحوث والإفتاء أصدرت فتوى تحريم مسلسل "طاش طاش" لأسباب خمسة، أربعة منها تنطوي على إشارة صريحة، لأن المسلسل ينطوي على سخرية / للاطلاع : د. عبد الله الغذامي ص 79.
والسبب جوهري هو تقربنا أكثر من سردية النكتة والكذبة، لأنها ذات وظيفة مركزية فاعلة ومؤثرة: إنها السخرية والإضحاك وتحفيز الفرد والجماعات على طرح الأسئلة ومواجهة الإشكالات الكبرى في الحياة، وأكثر المواجهات حضوراً هي السياسية التي شهدت تمركزاً للمرويات الساخرة المطاردة للسلطة وقمعها وما ترتب على الحرب من خسارات الفقدان والاستشهاد وغرائب المواقف بالتعاون مع الأبناء والتضحية بهم مقابل إغراءات السلطة.
من مرويات مرحلة الحرب، نموذج تداولته الجماعات في الحلة، وسرد على أحد الأصدقاء معرفة أجهزة الأمن بهذه النكتة وصمتت، لأنها تريد في لحظات الانهيار العسكري أو الأمن إلهاء الجماعات بما ينسيها الكوارث الحاصلة في جبهات القتال.
و "قصيدة للشاعر محمد علي القصاب، مكتفية بإيضاح يرسم حدود العلاقة مع رأس السلطة آنذاك وما تعنيه المديح له:
قيل للملا محمد علي القصاب: (ليش متسوي قصيدة تمدح بها صدام وتحصل فلوس مثل الشعراء) فرد عليه الملا: (شوف هذا البطران شيحجي) فقال له: (ملا . ليش بطران مو ذوله الشعراء ماعد يمدحو ويحصلون فلوس وهدايا) فرد عليه الملا بقوله: (شوف إذا سويت قصيدة ومدحت فيها صدام هاي إيران تعيف صدام وتجلب بيه) صلاح اللبان / طرائف وحكايات حلية / جمعية الرواد الثقافية المستقلة / بابل / 2016/ص73.
تمثل هذه الطرفة نوعاً متكرراً في كتاب الشاعر صلاح اللبان وهي طويلة جداً وفيها زوائد ، والمروية الساخرة / المتهكمة لا تحبذ الامتداد، بل تحبذ التركيز مثلما ذكرت. ولمعرفتي للأخ اللبان الذي يتميز ويجيد رواية النكات ممسرحاً لها في أحيان عديدة تهيمن عليه الموضوعة ويتشارك في إخضاعها لعدم الاكتمال فيضيف عليها، وهذا أنموذج على ذلك. كما أنها المروية، تختصر الاجتما ـ ثقافي والسياسي والاقتصادي الذي جعل من مداحين وتفاصيل الحكاية معروفة للجميع. وما أراده الملا محمد علي منها، هو تنبيه الشعراء لخطأ فادح في الحياة الثقافية التي تردت كثيراً ، وصار الشعراء صوتاً للمديح، بينما يفترض أن يكونوا لساناً للأفراد والجماعات. كما أن هذه المروية تكشف نسقاً مضمراً على خواتيم محتملة للحرب بين البلدين والإشارة واضحة وصريحة، دالة على ذلك المروية السردية المركزة، المماثلة لما نتجه البارع لطيف بربن، تعبير عن الطاقة المخبوءة في اللغة، بحيث (صارت الى تخييلي له وظيفة إنشائية إبداعية تعتمد على المهارة والفطنة والذكاء، فهي إذن، تماثل الشعر، كما يعرفه الجرجاني في انه (علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية، ثم تكون للدربة ولابد أنها أيضاً شروط التكذيب مما يجعلها جنساً ادبياً وهو فن أدبي مثل المقامات وهو فن يقوم على الكذب والحيلة اللغويةـ والحبكة الظريفة والبديعة، ويكون التكذيب جنساً مثل هذه الأجناس تغذي الأجناس ولا تذوب فيها. وإن لكل جنس وظيفة، حسب مفهوم ابرز عن وظيفة الإشارة مما يسبب وجودها، فإن التكاذيب تحمل وظيفتها وسبب نشوئها من حيث أنها نص يفصح ويكشف، وفي الوقت ذاته نصٌ يعبر عن حاجة إنسانية للإبداع والتجلي من خلال اللغة استنطاقاً للمسكوت عنه وتشجيعاً للنفس المكسورة كي تصلح كسرها بالنص / د. عبد الله الغذامي ص191/197.


ناجح المعموري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى