تَتشَكَّلُ ثروةُ الأُمَمِ بقوَّتِهاَ الناعمة، وبمدى يقظة مثقفيها، وسموقهم، وفرادتهم، وفى مجموعته القصصية عدة أسباب للقسوة يمكن أن نُشَبِّهَ /عبد الحميد البسيونى – هنا - بعصفور العزلة المذبوح على عتبة سيميائية الواقع ،يريد الخروج من قفص الغربة والحزن والجنون ؛ فيسقط في الصورة والظل، ويحاول أن يعبر جسر الحياة وحيداً ، فتتقاذفه شعرية الجنون،عبرمخيال المثاقفة تارة، وعبر الإندغام في عجينة الواقع، فيقع بين المطرقة والسندان؛ لتتشكل مجموعته الباذخة : " عدة أسباب للقسوة " .
لقد رفد مبدعنا المكتبة العربية برواية وحيدة: " أن تكون في نجريللى الصادرة عن مركز الإهرام 2015م ، والتي لاقت رواجاً نقدياً ؛وإعلاميا آنذاك ، كما أصدرعدة مجموعات قصصية منها : " أصوات في الليل " 1979م، " أخطاء صغيرة 2003م، " ،" عدة أسباب للقسوة " 2020م .
يعيد لنا كاتبنا / عبدالحميد البسيونى – منذ البداية – زمن القصة القصيرة الجميل؛ بعد أن كدت أفقد الثقة في القصة القصيرة بصفة عامة، أمام طوفان الرواية الهادر، وأمام شلال الشعر السادر؛ لكننى عندما قرأت مجموعته : " عدة أسباب للقسوة" وقفت كالمذهول، وأنا المتابع لإبداعات القصة المصرية والعربية؛وقفت بكل جوارحى وكأنى أعود إلى محراب الكبار السامقين؛ من كتاب القصة القصيرة والرواية : محمود تيمور، يحيى حقى ، يوسف السباعى، يوسف إدريس، نجيب محفوظ ، يحيى الطاهر عبدالله، احسان عبدالقدوس، اسماعيل ولى الدين، عبدالفتاح الجمل، محمد البساطى، محمد الراوى،فؤادحجازى ، وغيرهم.
ولعل البسيونىيتماهى،ويتماسّمعهم؛من خلال الواقعية السحرية التى تتدفق في هارموني السرد السيموطيقىالنورانى المكتنز لديه،والذى يحيلنا عبر التعالقات السياقية إلى إندغام رؤى وتجارب أخرى عالمية في نصوصه القصصية، فنراها تصنع لها أفقاً سيمولوجيا جديداً، ومعانٍ تتماسّ مع فضاء السرد: المتلاحق،السريع،الإحالى،فنستنطق ما هو خلف ظاهر السياقات،ونتواشجمعه،عبرتثاقفيته – التى يوظفها برؤية عارف لمسار القصّ، ونهر الإبداعية الباذخة ،والسامقة، والجميلة كذلك .
والبسيونى؛ هنا، - كما أراه – يزيح تجارب الكبار الذين تَحدَّثت عنهم – آنفاً – ليشق له مكانة خاصة بينهم تارة، ومرتفعاً عنهم بما استجد من مخصوصيات السرد الحداثى كذلك، فنراه يماهينا بالواقعية السحرية، ثم يدخلنا إلى فضاءات التأويل،عبر أبستمولوجيا السرد الطازج، البكر، والمتلاحق، والمكثف والرامز،والمخاتل . ولعمرى ؛ لم أجد قاصاً سوى ماركيز - يسبقه في تلاحقاتالأحداث،وتعدديةالمشاهد،وأناقة وجمالية المسرود عنهم، فهو يبتنى معمارية السياق على أساس جمالى تارة، وأسطورى تارة أخرى؛ أىأسطورى مرتبط بالواقع، ولا أقول أسطرة الحدث، بل نراه يموسق الوصف السارد للمواقف، عبر لغة تتمكيج؛ بين حبر مداد قلمه الشهىِّ ، لتزقزق في أرواحنا، وتَخُشُّ إليها – دون استئذان، فلا نجد مندوحةً؛ سوى الوقوف أمام شموخ الوصف، وبراعته، وتراتبيته ، عبر الصور التى يصنعها من مخياليكوثر الجمال على شفة الحروف، ويعطر الوصف بعبق شهى، وكأننا أمام إيروتيكا – غير ماجنة، أو خارجة عن سياق دراما الحكى،ليحيلنا إلى تشاركية عبر قارىء محايد، ومنحاز له كذلك؛ إذ هو لا يستطيع أن يلحق بتلابيب مسرودياته، بل يتوقف ليعيد القراءة ،ببطء أكثر .
كما يخاتلنا البسيونى – بمهارة – عبر كثرة التفاصيل إلى عالمه المخاتل ؛وكأنه لا يقدم قصة أو متتالية قصصية، او نوستالجيا ، بل نراه يزيح الواصفات الدلالية؛ ليعبر بالحكايا من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى أزمنة تخاتلية، فيماهى بالسرد ليحكى ذاته، ويماهىالقارىء ليطال غائية موضوعة القصّ،عبر تراتبية البناء التكثيفى،والترميز الذى ينمنم حوافه؛ويماهى به القارىء ؛ ليجعله لا ينفك أبداً من ترك المجموعة ، إلا بعد أن يجهز عليها، ولعل ماركيز وباولو كويليو قد نجحا في هذا السياق، إلا أن التغايرية عند البسيونى عنهما تنبع من أنه يطبِّقُ ذلك على القصّة، لا الرواية، فنقف أمام سرد روائى ، في قالب قصصى بديع، ويماهى بسياق مسروديات الرواية ليتوقف فجأة، عبر قطع المشهدية للحدث، ليحيلنا إلى حكايات جديدة، ثم يعود ليربط أجزاء الأنساق المتناثرة مرة أخرى، وكأنه ساحر يخرج لنا حيلاً أسلوبية تتعالق، وتتساوق، وتتشاكل ، ليهرب من الموضوع المراد سرده، ثم يفاجئنا بالدخول إليه مرة أخرى؛ وكأنه يعود إليه ؛من باب خلفى، أو خلف ظاهر السرد المكتنز .
ويبدو ذلكً متحققا في متتاليته القصصية :" حكاية العضلة القابضة " ، فنراه يدخلنا مباشرة في قلب الأحداث،دون مقدمات كلاسيكية، أو واصفاتٍ؛ لم يعد لها أى مكان في ذاكرة السرد الحداثى، يقول : " هاهى البنت الجميلة إذن، جاءت فانتعشت الأشياء حولى، تفجرت الحياة في نسغ الشجيرات الجافة المحيطة ، وازدهرت الحدائق : جاءت ... فجلست إلى جوارى ، كنت أسند ظهرى إلى جذع شجرة عجوز ). ولعلنا نلمح تشكيل الصورة البصرية، فهو يشكِّل المشهد ببراعة،ودونتمهيد،ويدخلنا إلى الأحداث بهدوء، ويرسم الصورة البصرية التشكيلية بتمايزية، ولغة تقطر فرادة، وبساطة كذلك، لكنها تعبر إلى الجوهر، ثم تتنقّل كعصفور حائر، من شجرة إلى أخرى : يركب الأتوبيس، يجلس عند تمثال، في ميدان التحرير،قبالة المتحف المصرى تُضَمِّدَهُ فتاةٌ بعد أن جرحه العسكرى ببندقيته في قدمه، ثم يخبرنا بالزمان؛ من خلال وصفه للمجتمع الإشتراكىالمصرىآنذاك،وإبَّان، وبعد توغل الفكر الماركسىالشيوعي، وتنامى خطر المثقفين على السلطة ، في عهد الرئيس / أنور السادات، فنراه يصور ذلك المجتمع ، ليدلل إلى الزمانية ،دون أن يحدد زمناً،ويصف الأماكن والشوارع والأزقة والحارات والمساجد في شوارع القاهرة ، ثم الأسكندرية، ثم من عمان إلى العراق، ويعود بنا إلى مصر عبر حكاياته الخاصة : شربه للبيرة كالمثقفين في المقاهى والمحال المخصوصة ، ثم النزق مع فتاته، أو مع مارقاتٍ يتحذلقن في كيفية العبث بمشاعر الآخر، وهو المثقف الثورى ، لا يأبه لكل ذلك، يراقصها التانجو، ويصف حالة العضلة القابضة ،وهى تنتفض منتصبة لدى جلوسه مع امرأة، أو فتاة مُدربة على التلذذ بالرجال، لكن الشخصيات لديه مهزومة طوال الوقت ؛ بما يرمز عبر المعادل الموضوعىالضمنى، والمعادل السياقىالفنى إلى حالة الإنكسارالمصرىوالعربى- آنذاك - بعد هزيمة 1967م ،وغياب الحلم العربى تحت عجلات البطولة الزائفة، والزعامات التى علت بالواقع، ثم سقطت به إلى القاع، والإنكسار والهزيمة، فغدا مجتمعاً غائباً عن الوعى، مخموراً طوال الوقت ؛ينتظر الخلاص والتطهر، والثورة ، والإنتفاض : " ارفع رأسك فوق إنتمصرى .. إنتعربى .. " عبر قيم الواقع،واقتصاديات السوق، والطبقية، وتخالطية سكان القاهرة والأسكندرية مع الأروام واليونانيين وغيرهم ، من المٍلَل والنِّحَلِ الأخرى ،ومع ذلك رأيناه يسرد لنا تفاصيل الواقع المصرمنذ نهاية الستينات وبدايات السبعينات وما بعدها، ويتناغم السرد لديه، ويتهادى عبر جدول نهر ممتد؛دون أن نشعر بأنه يسرد تفاصيلاً سياسية، أو يشير إلى واقع اقتصادى، أو ينتقد الوضع العام المهزوم – آنذاك – لكنه يعبر بالذات إلى الحلم،عبرفوضويته، ومجونه، ولا تراتيبته كذلك .
كما يتميز / عبدالحميد البسيونى بقدرته المائزة على استخدام مثاقفة السرد وتحويلها إلى حوارية ضمن سياق السرد/ النص السردى، الروائى/ القصصى، عبر المتتالية التىيماهينا بها ليقف في مكان متميز بين القصة والرواية، وهو مكان جديد نستطيع أن نلحظه عبر سرعة الحكى،وكثافته : عبر التراكم والإزاحة،وعبر لعبة الإيهام التىيجيدها،وكأنه يستعير من الشعرية العربية بعض ثيماتها، وسماتها الفيزيائية، ليشكل كيمياء عجينة السرد الباذخ ،بمهارة واقتدار شدين،وبحذق ؛ ولا تَوقُعِيَّةٍ مطلقاً ، فهو يعبر مسيرة السرد التراتبى، إلى السرد السحرى، عبر لغة استطاع أن يطوّعها ليعبر بها جسر الأماكن والأزمنة ؛دون أن نشعر معه سوى بجمالية الإنتقالالبديع،والسريع، والمتلاحق للتفاصيل الكثيرة التى يجيد اللعب عليها طوال الوقت،والتي أُخْتُصَّ بها كُتَّابٌ قليلون في العالم، ليعبر البسيونىبالذاتى إلى الكونى، وباللازمانى؛ إلى اللامكانى،وكأنه يسبح في عالم ما بعد حداثى: متأنق تارة، وتخالفى، وتواشجى، متنافر، ومتتابع، ومنظم ومرتبك في الوقت ذاته.
، وكأنه يُذكِّرنا بالوصف الساحر الفيزيائى؛ لإمرىء القيس في وصف حصانه ومهارته حين قال : " مكر مفر ، مقبل مدبر معاً "،وكأن هذا ينطبق على لغة عبدالحميد البسيونى؛ لِنُقَرِّبَ الواصفةَ النقدية إلى أذهان الجمهور، والقارىء ، ولندلل على ذلك بتلاحقات الأماكن عبر السرد المخاتل ،الذى يمازج فيه بين الفصيح والعامى، والدرامىبالتراجيدى ، والساخر كذلك ،يقول :
( ابتسمت تلك الشيطانة، وقالت لك: مش واخدة بالى، بعدها ونحن سائران في " صفية زغلول " متوجهان إلى " الإيليت " تمكنت من القبض على كفك، كنت في الحقيقة أقبض على عالمك الدسم ، حيث تركض قصائد النثر قاصدة الطلوع، وعندما أمسكت كفك في عنف وقبضت عليه فجأة كنت أقبض بالضبط على موهبتك المشرقة ،هذا الشىء الذى وضعه الله فيك مثل إسطوانة من الذهب. .. هل لذلك علاقة بالسواد الذائب في عينيك، مثل جدل لا ينتهى بين فصائل الظلمة؟ لماذا تكون القصيدة تتمة لجسدك المهرول؟ مثل ذراع زائدة أو نهد يقفز تحت قميصك الجينز الكاكى،الذى رأيتك تلبسينه في المرة الأولى. أعرف أن سماء الأسكندرية زرقاء فعلاً، ولا تحتاج لأن تدهننيها بالأزرق. المتوسط الذى يحتاج إلى عنايتك مثلما أحتاج أنا إلى لحمك لكى أصنع روايتىالتى حدثتك عنها، مهلاً أيتها السلحفاة: لماذا يُفَضِّلُ " مارك " السفر في شارع الفراعنة ؟ ) .
كما أود أن أشير إلى أنه يستخدم المثاقفة، والتّنَاصية مع نصوص مصرية وعربية وعالمية، لا ليحيلنا إلى صور حسية، أو مخيالية تتماس مع الصور التى يصنعها، فحسب ، بل رأيناه يجعلها تتحرك وتندغم في نسيج السرد لديه، وكأنها شخصيات تخص السرد ذاته، وتتفاعل مع الأحداث فهو الذى يستنطق القاص / عبدالفتاح الجمل ليدخله في الأحداث وتناميها، ويستدعى صلاح عبدالصبور،ماركيز،سارتر، ادوارد الخراط،، المنسى قنديل، يوسف إدريس، بل يستخدم عناوين بعض الروايات ويدخلها في سياق الأحداث ويبدأ في تحريك مساراتها القديمة ليضيف لها امتداداً عبر المخيالالذاتى لديه، وليست كما في سياقها الروائى لدى الآخرين، بل يستدعى فنانين ليدخلهم في سياق الأحداث ، ثم يتنقل من عمان، إلى الريف،إلى العراق، إلى الأسكندريةوالقاهرة،ليعود إلى الإسماعيلية – مكانه الأخير، ومستقر سكنه،فهنا الزوجة والعشيقة والأولاد والجيران،ومن يصادفهم في الشوارع،وفىالأتوبيس،كلهن يمارس معهم لغة الللامبالاةوالإنكسار، فهو عاجز مهزوم رغم مجاهرته بأنه روميو القرن الواحد والعشرين، وهو المبدع الذى يقوم بكل ذلك عبر التماهى،عبر الحلم ، عبر الواقع السحرى الذى صتعه، وعشنا معه فيه، ليعود بنا دون أن نشعر، ليقول عبر الإهداء المخاتل : " إلى أرواح الموتى من عشيرتى، حتى يكفوا عن زيارتى ليلياً " ؛ إذن هو يماهينا بالواقع ليهرب من الصدمة / الهزيمة / نكسة العرب/ ، خيباته المتكررة ،حتى مع الزوجة التى بدأت تعايره بوحدته، وعزوفه، وانقطاعه عنها وأولاده إلى الكتب، لكنه كان في الواقع يطارد الأشباح من أقاربه/ الشعب/ هموم المجتمع ، الذين يمثلون لديه الكابوس،ككابوس النكسة التى منيت بها مصر،وهى هزيمة للواقع/ الحلم / الإرادة إلى أن تحقق الحلم، وعادت الأغنيات الثورية والملحمية من جديد مع غناء عبدالحليم وأم كلثوم وشادية ، بإنتصارات 1973م، وتحقق الحلم العربى الكبير/ حلمه/ حلم الشاعر الذى يصنع من القصائد مدفعاً، ودبابة تنطلق بالإرادة، لتهزم بارليف، وديان ، ولتمحو هزيمة عرابى ،وعبدالناصر، وهزيمته هو أيضاً.
وفى قصته : " أغنية على الممر "، وهى من القصص العالمىة، الكونية التى تُجَسِّد حالته النفسية من جهة، وواقعه المجتمعىوإنكساراته، ورهبوت القوة الغاشمة المتمثلة في سيارات الشرطة والقسم، وخوفه، وهرولته إلى المحبوبة القديمة التى تشبه بوسى زوجة الفنان نور الشريف، وقد كانت تعشقه، فرآها بنقاب ،ولم تُسَلِّمْ عليه ، بل قالت له : حرام . ثم نرى هرولته إلى مقهى الممر وتلفته إلى بائع الصحف ، حيث رأى صوراً لرجال بلحى ، وعمائم، وصورة لفتاة الغلاف تتصدره امرأة غاية في الجمال، فاردة شعرها، فلما عبر الطريق وجلس في المقهى وجد فتاة الغلاف متجسدة أمامه بلحم طرى حقيقى، فأصبح كالمذهول ، وكأن مَسَّاً أصابه، فتداعت له الأحداث أمام عقله في صور متلاحقة ، وكأنه يسرد الواقع – بعد الثورة – دون أن يذكر سوى إشارات تدلل إلى الواقع الذى نحياه، ثم نراه في فنتازيا ، وخلط للحلم بالواقع، بما هو معتمل في الذاكرة - يتحسس فتاة الغلاف، التى كانت قبالته تماماً ، يقول : ( وجدتها تجلس أمامى، المرأة فوق غلاف المجلة، هل هذا حلم ؟ مددت ذراعى كاملة، فبوغتت أصابعى بالليونة وطراوة اللحم ، وأحسست بطعم الدفء ، وشعر الحياة، تمسكت أصابعى بلحم الذراع ،كانت الأشياء تسرى: مشاهد الجمال المصفى في سينما العالم،الموناليزا، وزهرة الخشخاش، سيمفونية بيتهوفن الثانية .. أم كلثوم والسنباطى .. أدونيس .. ماركيز ، كونديراوحلمى سالم . ، ثم ينهى القصة بعد أن وقف كالمخطوف : "ركضت في شارع السكة الحديد تجاه الثلاثينى ، كنت أتعثر في الجثث الملقاة في الشارع، جثث أحلام الشهداء، بينما – في البعيد – تتكاثر سحب الدخان، تلف الشارع والمدينة، كتل من السواد ، فلقد كان هناك سواد.. كان سواد ) .
لقد اختلطت الأمور لديه، كواقعنا المعيش، واختلط المعقول باللامعقول، والحلم بالواقع، وفتاة الغلاف مع المرأة قبالته، فاستدعى ذاكرته للهروب عن طريق بيتهوفن وكونديرا وغيرهم، لكنه الخوف الذى جسَّد أمامه صور أجساد القتلى / الشهداء، ولم تكن هناك سوى مناظر لجثث رآها من قبل أمامه عبر الثورة في ميدان التحرير، أو عبر الحلم ، ورؤية أشباح أقاربه الذين يأتونه يومياً ، وهو الغائب الحاضر، يقطن بيتاً؛ ولديه زوجة وأطفال، وكأن يعيش معهم ، ولا يعيش بينهم، ويصادق آخرين وأخريات كالحقوقية ؛ التى طلب منها أن ترفع قضية على امرأة اختلت به، وأرغمته على مواقعتها بالقوة، وفعلت به الأفاعيل ، وكلها ترهاتٌ عبر الواقع المعكوس، والصورة المقلوبة للمجتمع والكون ، والعالم والحياة .
إنه البطل؛ الذى قام بكل هذه المواقف، ولم يقم بها، وكان منكسراً كشخصياته المهزومة المأزومة طوال الوقت، بفعل فاعل، وكأننا سنماهيه، ونخاتله لنسأله : عمن سرق المشار إليه في النص- على حد قول رولان بارت -، وفى حكاياته مع النسوة، والكعكة الحجرية، والعضلة القابضة التى لم يجرؤ كذلك حتى الحديث عنها، لإنها مهزومة، ضعيفة، منكسرة، بفعل الحرب، والهزيمة، النكسة، غياب الحلم،عبر الواقع المُشَوِّه للمرايا المتعاكسة الظلال، لذا كل هذا يجعلنا نعود إلى العنوان ونقول في حيرة : أليست كل هذه الأمور هى أسباب تدعو للقسوة – كما جاء في العنوان الشديد الغموض، والترميز، والجمال كذلك ؟! .
يظل / عبدالحميد البسيونى في هذه المجموعة " ماركيز عصره" المجدد في مسيرة السرد المصرىوالعربى، عبر سرد وأسلوبية أقرب إلى الشاعرية، وإلى المشتهى الروحىوالجمالى للغة يمكيج حروفها بأحمر شفاه شخصيات قصصه الكثيرات، وهو فوق ذلك يقف في مساحة خاصة، ونقطة تُفَرِّقُ بين القَصِّ والرواية، وبين السرد والحكاية، وبين الشعر والنثر، صورة مخاتلة، سيميائية، سيموطيقية، تعبر بنا إلى الحلم، وتستنطق إنكسارات الواقع ،وأسباب القسوة التى جاءت عبر شعرية العنوان الشاهق الباذخ ، الجميل أيضاً .
يظل / عبدالحميد البسيونى قاصاً مائزاً ،مُتَفَرِّداً في أسلوبيته، عبر مخيالالسيموطيقا، وجماليات السرد الشهٍىِّ ، وعبر مخيالٍترميزىٍّمُحَايثٍ، ومُتشَاكِلٍ، طَازَجٍ، و مُتَفَرِّدٍ ، وجميلٍ أيضاً .
حاتم عبدالهادى السيد
لقد رفد مبدعنا المكتبة العربية برواية وحيدة: " أن تكون في نجريللى الصادرة عن مركز الإهرام 2015م ، والتي لاقت رواجاً نقدياً ؛وإعلاميا آنذاك ، كما أصدرعدة مجموعات قصصية منها : " أصوات في الليل " 1979م، " أخطاء صغيرة 2003م، " ،" عدة أسباب للقسوة " 2020م .
يعيد لنا كاتبنا / عبدالحميد البسيونى – منذ البداية – زمن القصة القصيرة الجميل؛ بعد أن كدت أفقد الثقة في القصة القصيرة بصفة عامة، أمام طوفان الرواية الهادر، وأمام شلال الشعر السادر؛ لكننى عندما قرأت مجموعته : " عدة أسباب للقسوة" وقفت كالمذهول، وأنا المتابع لإبداعات القصة المصرية والعربية؛وقفت بكل جوارحى وكأنى أعود إلى محراب الكبار السامقين؛ من كتاب القصة القصيرة والرواية : محمود تيمور، يحيى حقى ، يوسف السباعى، يوسف إدريس، نجيب محفوظ ، يحيى الطاهر عبدالله، احسان عبدالقدوس، اسماعيل ولى الدين، عبدالفتاح الجمل، محمد البساطى، محمد الراوى،فؤادحجازى ، وغيرهم.
ولعل البسيونىيتماهى،ويتماسّمعهم؛من خلال الواقعية السحرية التى تتدفق في هارموني السرد السيموطيقىالنورانى المكتنز لديه،والذى يحيلنا عبر التعالقات السياقية إلى إندغام رؤى وتجارب أخرى عالمية في نصوصه القصصية، فنراها تصنع لها أفقاً سيمولوجيا جديداً، ومعانٍ تتماسّ مع فضاء السرد: المتلاحق،السريع،الإحالى،فنستنطق ما هو خلف ظاهر السياقات،ونتواشجمعه،عبرتثاقفيته – التى يوظفها برؤية عارف لمسار القصّ، ونهر الإبداعية الباذخة ،والسامقة، والجميلة كذلك .
والبسيونى؛ هنا، - كما أراه – يزيح تجارب الكبار الذين تَحدَّثت عنهم – آنفاً – ليشق له مكانة خاصة بينهم تارة، ومرتفعاً عنهم بما استجد من مخصوصيات السرد الحداثى كذلك، فنراه يماهينا بالواقعية السحرية، ثم يدخلنا إلى فضاءات التأويل،عبر أبستمولوجيا السرد الطازج، البكر، والمتلاحق، والمكثف والرامز،والمخاتل . ولعمرى ؛ لم أجد قاصاً سوى ماركيز - يسبقه في تلاحقاتالأحداث،وتعدديةالمشاهد،وأناقة وجمالية المسرود عنهم، فهو يبتنى معمارية السياق على أساس جمالى تارة، وأسطورى تارة أخرى؛ أىأسطورى مرتبط بالواقع، ولا أقول أسطرة الحدث، بل نراه يموسق الوصف السارد للمواقف، عبر لغة تتمكيج؛ بين حبر مداد قلمه الشهىِّ ، لتزقزق في أرواحنا، وتَخُشُّ إليها – دون استئذان، فلا نجد مندوحةً؛ سوى الوقوف أمام شموخ الوصف، وبراعته، وتراتبيته ، عبر الصور التى يصنعها من مخياليكوثر الجمال على شفة الحروف، ويعطر الوصف بعبق شهى، وكأننا أمام إيروتيكا – غير ماجنة، أو خارجة عن سياق دراما الحكى،ليحيلنا إلى تشاركية عبر قارىء محايد، ومنحاز له كذلك؛ إذ هو لا يستطيع أن يلحق بتلابيب مسرودياته، بل يتوقف ليعيد القراءة ،ببطء أكثر .
كما يخاتلنا البسيونى – بمهارة – عبر كثرة التفاصيل إلى عالمه المخاتل ؛وكأنه لا يقدم قصة أو متتالية قصصية، او نوستالجيا ، بل نراه يزيح الواصفات الدلالية؛ ليعبر بالحكايا من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى أزمنة تخاتلية، فيماهى بالسرد ليحكى ذاته، ويماهىالقارىء ليطال غائية موضوعة القصّ،عبر تراتبية البناء التكثيفى،والترميز الذى ينمنم حوافه؛ويماهى به القارىء ؛ ليجعله لا ينفك أبداً من ترك المجموعة ، إلا بعد أن يجهز عليها، ولعل ماركيز وباولو كويليو قد نجحا في هذا السياق، إلا أن التغايرية عند البسيونى عنهما تنبع من أنه يطبِّقُ ذلك على القصّة، لا الرواية، فنقف أمام سرد روائى ، في قالب قصصى بديع، ويماهى بسياق مسروديات الرواية ليتوقف فجأة، عبر قطع المشهدية للحدث، ليحيلنا إلى حكايات جديدة، ثم يعود ليربط أجزاء الأنساق المتناثرة مرة أخرى، وكأنه ساحر يخرج لنا حيلاً أسلوبية تتعالق، وتتساوق، وتتشاكل ، ليهرب من الموضوع المراد سرده، ثم يفاجئنا بالدخول إليه مرة أخرى؛ وكأنه يعود إليه ؛من باب خلفى، أو خلف ظاهر السرد المكتنز .
ويبدو ذلكً متحققا في متتاليته القصصية :" حكاية العضلة القابضة " ، فنراه يدخلنا مباشرة في قلب الأحداث،دون مقدمات كلاسيكية، أو واصفاتٍ؛ لم يعد لها أى مكان في ذاكرة السرد الحداثى، يقول : " هاهى البنت الجميلة إذن، جاءت فانتعشت الأشياء حولى، تفجرت الحياة في نسغ الشجيرات الجافة المحيطة ، وازدهرت الحدائق : جاءت ... فجلست إلى جوارى ، كنت أسند ظهرى إلى جذع شجرة عجوز ). ولعلنا نلمح تشكيل الصورة البصرية، فهو يشكِّل المشهد ببراعة،ودونتمهيد،ويدخلنا إلى الأحداث بهدوء، ويرسم الصورة البصرية التشكيلية بتمايزية، ولغة تقطر فرادة، وبساطة كذلك، لكنها تعبر إلى الجوهر، ثم تتنقّل كعصفور حائر، من شجرة إلى أخرى : يركب الأتوبيس، يجلس عند تمثال، في ميدان التحرير،قبالة المتحف المصرى تُضَمِّدَهُ فتاةٌ بعد أن جرحه العسكرى ببندقيته في قدمه، ثم يخبرنا بالزمان؛ من خلال وصفه للمجتمع الإشتراكىالمصرىآنذاك،وإبَّان، وبعد توغل الفكر الماركسىالشيوعي، وتنامى خطر المثقفين على السلطة ، في عهد الرئيس / أنور السادات، فنراه يصور ذلك المجتمع ، ليدلل إلى الزمانية ،دون أن يحدد زمناً،ويصف الأماكن والشوارع والأزقة والحارات والمساجد في شوارع القاهرة ، ثم الأسكندرية، ثم من عمان إلى العراق، ويعود بنا إلى مصر عبر حكاياته الخاصة : شربه للبيرة كالمثقفين في المقاهى والمحال المخصوصة ، ثم النزق مع فتاته، أو مع مارقاتٍ يتحذلقن في كيفية العبث بمشاعر الآخر، وهو المثقف الثورى ، لا يأبه لكل ذلك، يراقصها التانجو، ويصف حالة العضلة القابضة ،وهى تنتفض منتصبة لدى جلوسه مع امرأة، أو فتاة مُدربة على التلذذ بالرجال، لكن الشخصيات لديه مهزومة طوال الوقت ؛ بما يرمز عبر المعادل الموضوعىالضمنى، والمعادل السياقىالفنى إلى حالة الإنكسارالمصرىوالعربى- آنذاك - بعد هزيمة 1967م ،وغياب الحلم العربى تحت عجلات البطولة الزائفة، والزعامات التى علت بالواقع، ثم سقطت به إلى القاع، والإنكسار والهزيمة، فغدا مجتمعاً غائباً عن الوعى، مخموراً طوال الوقت ؛ينتظر الخلاص والتطهر، والثورة ، والإنتفاض : " ارفع رأسك فوق إنتمصرى .. إنتعربى .. " عبر قيم الواقع،واقتصاديات السوق، والطبقية، وتخالطية سكان القاهرة والأسكندرية مع الأروام واليونانيين وغيرهم ، من المٍلَل والنِّحَلِ الأخرى ،ومع ذلك رأيناه يسرد لنا تفاصيل الواقع المصرمنذ نهاية الستينات وبدايات السبعينات وما بعدها، ويتناغم السرد لديه، ويتهادى عبر جدول نهر ممتد؛دون أن نشعر بأنه يسرد تفاصيلاً سياسية، أو يشير إلى واقع اقتصادى، أو ينتقد الوضع العام المهزوم – آنذاك – لكنه يعبر بالذات إلى الحلم،عبرفوضويته، ومجونه، ولا تراتيبته كذلك .
كما يتميز / عبدالحميد البسيونى بقدرته المائزة على استخدام مثاقفة السرد وتحويلها إلى حوارية ضمن سياق السرد/ النص السردى، الروائى/ القصصى، عبر المتتالية التىيماهينا بها ليقف في مكان متميز بين القصة والرواية، وهو مكان جديد نستطيع أن نلحظه عبر سرعة الحكى،وكثافته : عبر التراكم والإزاحة،وعبر لعبة الإيهام التىيجيدها،وكأنه يستعير من الشعرية العربية بعض ثيماتها، وسماتها الفيزيائية، ليشكل كيمياء عجينة السرد الباذخ ،بمهارة واقتدار شدين،وبحذق ؛ ولا تَوقُعِيَّةٍ مطلقاً ، فهو يعبر مسيرة السرد التراتبى، إلى السرد السحرى، عبر لغة استطاع أن يطوّعها ليعبر بها جسر الأماكن والأزمنة ؛دون أن نشعر معه سوى بجمالية الإنتقالالبديع،والسريع، والمتلاحق للتفاصيل الكثيرة التى يجيد اللعب عليها طوال الوقت،والتي أُخْتُصَّ بها كُتَّابٌ قليلون في العالم، ليعبر البسيونىبالذاتى إلى الكونى، وباللازمانى؛ إلى اللامكانى،وكأنه يسبح في عالم ما بعد حداثى: متأنق تارة، وتخالفى، وتواشجى، متنافر، ومتتابع، ومنظم ومرتبك في الوقت ذاته.
، وكأنه يُذكِّرنا بالوصف الساحر الفيزيائى؛ لإمرىء القيس في وصف حصانه ومهارته حين قال : " مكر مفر ، مقبل مدبر معاً "،وكأن هذا ينطبق على لغة عبدالحميد البسيونى؛ لِنُقَرِّبَ الواصفةَ النقدية إلى أذهان الجمهور، والقارىء ، ولندلل على ذلك بتلاحقات الأماكن عبر السرد المخاتل ،الذى يمازج فيه بين الفصيح والعامى، والدرامىبالتراجيدى ، والساخر كذلك ،يقول :
( ابتسمت تلك الشيطانة، وقالت لك: مش واخدة بالى، بعدها ونحن سائران في " صفية زغلول " متوجهان إلى " الإيليت " تمكنت من القبض على كفك، كنت في الحقيقة أقبض على عالمك الدسم ، حيث تركض قصائد النثر قاصدة الطلوع، وعندما أمسكت كفك في عنف وقبضت عليه فجأة كنت أقبض بالضبط على موهبتك المشرقة ،هذا الشىء الذى وضعه الله فيك مثل إسطوانة من الذهب. .. هل لذلك علاقة بالسواد الذائب في عينيك، مثل جدل لا ينتهى بين فصائل الظلمة؟ لماذا تكون القصيدة تتمة لجسدك المهرول؟ مثل ذراع زائدة أو نهد يقفز تحت قميصك الجينز الكاكى،الذى رأيتك تلبسينه في المرة الأولى. أعرف أن سماء الأسكندرية زرقاء فعلاً، ولا تحتاج لأن تدهننيها بالأزرق. المتوسط الذى يحتاج إلى عنايتك مثلما أحتاج أنا إلى لحمك لكى أصنع روايتىالتى حدثتك عنها، مهلاً أيتها السلحفاة: لماذا يُفَضِّلُ " مارك " السفر في شارع الفراعنة ؟ ) .
كما أود أن أشير إلى أنه يستخدم المثاقفة، والتّنَاصية مع نصوص مصرية وعربية وعالمية، لا ليحيلنا إلى صور حسية، أو مخيالية تتماس مع الصور التى يصنعها، فحسب ، بل رأيناه يجعلها تتحرك وتندغم في نسيج السرد لديه، وكأنها شخصيات تخص السرد ذاته، وتتفاعل مع الأحداث فهو الذى يستنطق القاص / عبدالفتاح الجمل ليدخله في الأحداث وتناميها، ويستدعى صلاح عبدالصبور،ماركيز،سارتر، ادوارد الخراط،، المنسى قنديل، يوسف إدريس، بل يستخدم عناوين بعض الروايات ويدخلها في سياق الأحداث ويبدأ في تحريك مساراتها القديمة ليضيف لها امتداداً عبر المخيالالذاتى لديه، وليست كما في سياقها الروائى لدى الآخرين، بل يستدعى فنانين ليدخلهم في سياق الأحداث ، ثم يتنقل من عمان، إلى الريف،إلى العراق، إلى الأسكندريةوالقاهرة،ليعود إلى الإسماعيلية – مكانه الأخير، ومستقر سكنه،فهنا الزوجة والعشيقة والأولاد والجيران،ومن يصادفهم في الشوارع،وفىالأتوبيس،كلهن يمارس معهم لغة الللامبالاةوالإنكسار، فهو عاجز مهزوم رغم مجاهرته بأنه روميو القرن الواحد والعشرين، وهو المبدع الذى يقوم بكل ذلك عبر التماهى،عبر الحلم ، عبر الواقع السحرى الذى صتعه، وعشنا معه فيه، ليعود بنا دون أن نشعر، ليقول عبر الإهداء المخاتل : " إلى أرواح الموتى من عشيرتى، حتى يكفوا عن زيارتى ليلياً " ؛ إذن هو يماهينا بالواقع ليهرب من الصدمة / الهزيمة / نكسة العرب/ ، خيباته المتكررة ،حتى مع الزوجة التى بدأت تعايره بوحدته، وعزوفه، وانقطاعه عنها وأولاده إلى الكتب، لكنه كان في الواقع يطارد الأشباح من أقاربه/ الشعب/ هموم المجتمع ، الذين يمثلون لديه الكابوس،ككابوس النكسة التى منيت بها مصر،وهى هزيمة للواقع/ الحلم / الإرادة إلى أن تحقق الحلم، وعادت الأغنيات الثورية والملحمية من جديد مع غناء عبدالحليم وأم كلثوم وشادية ، بإنتصارات 1973م، وتحقق الحلم العربى الكبير/ حلمه/ حلم الشاعر الذى يصنع من القصائد مدفعاً، ودبابة تنطلق بالإرادة، لتهزم بارليف، وديان ، ولتمحو هزيمة عرابى ،وعبدالناصر، وهزيمته هو أيضاً.
وفى قصته : " أغنية على الممر "، وهى من القصص العالمىة، الكونية التى تُجَسِّد حالته النفسية من جهة، وواقعه المجتمعىوإنكساراته، ورهبوت القوة الغاشمة المتمثلة في سيارات الشرطة والقسم، وخوفه، وهرولته إلى المحبوبة القديمة التى تشبه بوسى زوجة الفنان نور الشريف، وقد كانت تعشقه، فرآها بنقاب ،ولم تُسَلِّمْ عليه ، بل قالت له : حرام . ثم نرى هرولته إلى مقهى الممر وتلفته إلى بائع الصحف ، حيث رأى صوراً لرجال بلحى ، وعمائم، وصورة لفتاة الغلاف تتصدره امرأة غاية في الجمال، فاردة شعرها، فلما عبر الطريق وجلس في المقهى وجد فتاة الغلاف متجسدة أمامه بلحم طرى حقيقى، فأصبح كالمذهول ، وكأن مَسَّاً أصابه، فتداعت له الأحداث أمام عقله في صور متلاحقة ، وكأنه يسرد الواقع – بعد الثورة – دون أن يذكر سوى إشارات تدلل إلى الواقع الذى نحياه، ثم نراه في فنتازيا ، وخلط للحلم بالواقع، بما هو معتمل في الذاكرة - يتحسس فتاة الغلاف، التى كانت قبالته تماماً ، يقول : ( وجدتها تجلس أمامى، المرأة فوق غلاف المجلة، هل هذا حلم ؟ مددت ذراعى كاملة، فبوغتت أصابعى بالليونة وطراوة اللحم ، وأحسست بطعم الدفء ، وشعر الحياة، تمسكت أصابعى بلحم الذراع ،كانت الأشياء تسرى: مشاهد الجمال المصفى في سينما العالم،الموناليزا، وزهرة الخشخاش، سيمفونية بيتهوفن الثانية .. أم كلثوم والسنباطى .. أدونيس .. ماركيز ، كونديراوحلمى سالم . ، ثم ينهى القصة بعد أن وقف كالمخطوف : "ركضت في شارع السكة الحديد تجاه الثلاثينى ، كنت أتعثر في الجثث الملقاة في الشارع، جثث أحلام الشهداء، بينما – في البعيد – تتكاثر سحب الدخان، تلف الشارع والمدينة، كتل من السواد ، فلقد كان هناك سواد.. كان سواد ) .
لقد اختلطت الأمور لديه، كواقعنا المعيش، واختلط المعقول باللامعقول، والحلم بالواقع، وفتاة الغلاف مع المرأة قبالته، فاستدعى ذاكرته للهروب عن طريق بيتهوفن وكونديرا وغيرهم، لكنه الخوف الذى جسَّد أمامه صور أجساد القتلى / الشهداء، ولم تكن هناك سوى مناظر لجثث رآها من قبل أمامه عبر الثورة في ميدان التحرير، أو عبر الحلم ، ورؤية أشباح أقاربه الذين يأتونه يومياً ، وهو الغائب الحاضر، يقطن بيتاً؛ ولديه زوجة وأطفال، وكأن يعيش معهم ، ولا يعيش بينهم، ويصادق آخرين وأخريات كالحقوقية ؛ التى طلب منها أن ترفع قضية على امرأة اختلت به، وأرغمته على مواقعتها بالقوة، وفعلت به الأفاعيل ، وكلها ترهاتٌ عبر الواقع المعكوس، والصورة المقلوبة للمجتمع والكون ، والعالم والحياة .
إنه البطل؛ الذى قام بكل هذه المواقف، ولم يقم بها، وكان منكسراً كشخصياته المهزومة المأزومة طوال الوقت، بفعل فاعل، وكأننا سنماهيه، ونخاتله لنسأله : عمن سرق المشار إليه في النص- على حد قول رولان بارت -، وفى حكاياته مع النسوة، والكعكة الحجرية، والعضلة القابضة التى لم يجرؤ كذلك حتى الحديث عنها، لإنها مهزومة، ضعيفة، منكسرة، بفعل الحرب، والهزيمة، النكسة، غياب الحلم،عبر الواقع المُشَوِّه للمرايا المتعاكسة الظلال، لذا كل هذا يجعلنا نعود إلى العنوان ونقول في حيرة : أليست كل هذه الأمور هى أسباب تدعو للقسوة – كما جاء في العنوان الشديد الغموض، والترميز، والجمال كذلك ؟! .
يظل / عبدالحميد البسيونى في هذه المجموعة " ماركيز عصره" المجدد في مسيرة السرد المصرىوالعربى، عبر سرد وأسلوبية أقرب إلى الشاعرية، وإلى المشتهى الروحىوالجمالى للغة يمكيج حروفها بأحمر شفاه شخصيات قصصه الكثيرات، وهو فوق ذلك يقف في مساحة خاصة، ونقطة تُفَرِّقُ بين القَصِّ والرواية، وبين السرد والحكاية، وبين الشعر والنثر، صورة مخاتلة، سيميائية، سيموطيقية، تعبر بنا إلى الحلم، وتستنطق إنكسارات الواقع ،وأسباب القسوة التى جاءت عبر شعرية العنوان الشاهق الباذخ ، الجميل أيضاً .
يظل / عبدالحميد البسيونى قاصاً مائزاً ،مُتَفَرِّداً في أسلوبيته، عبر مخيالالسيموطيقا، وجماليات السرد الشهٍىِّ ، وعبر مخيالٍترميزىٍّمُحَايثٍ، ومُتشَاكِلٍ، طَازَجٍ، و مُتَفَرِّدٍ ، وجميلٍ أيضاً .
حاتم عبدالهادى السيد