رسائل الأدباء رسالة من محمد عبده إلى القس إسحق طيلر

كتابي إلى الملهم بالحق، الناطق بالصدق، حضرة القس المحترم إسحاق طيلر، أيده الله في مقصده، ووفاه المذخور من موعده.

وصل إلينا من خطابتك من ألقيته في المحفل الديني بمدينة "لوندره" متعلقًا بالدين الإسلامي، فإذا للحق نور يلمع من خلال كلامك، تعرفه البصائر الباصرة، وتشيمه أعين العقول النيرة، رَفَعَتْكَ هداية الله إلى مقام الإنصاف، فرأيت الإسلام في طبيعته السليمة، ووقفت عليه في مزاجه الصحيح، فأدركت أثره في النفوس البشرية، وعلمت أنه أفضل ما يُعِدُّ الروح الإنسانية إلى بلوغ ذروة الكمال الأعلى من الإيمان، ودافعت عنه دفاع العارف به، وجليته للغافلين في أجمل صورة يمكن أن يلمحوها بأبصارهم، ويتصفحوا دقائقها بأنظارهم، ثم دعوت أبناء ملتك إلى كلمة السواء بينهم وبين المسلمين، وصدقتهم النصيحة أن لا يحنقوا المسلمين بتكذيب نبيهم، ولا تكفيرهم في الاعتقاد بدينهم، ووعدتهم إن قبلوا نصحك بإصابة المسيحية في الإسلام، ووجود محمد  آخذًا بعضد المسيح، بإعلاء كلمة دينه الصحيح، فهذه أشعة نور أفاضه الله على قلبك، وآيات حق ساقه الله إليك، وإنَّا لنهنئك على هذه البركة العظمى التي اختصك الله بها من بين قومك، ونستبشر بقرب الوقت الذي يسطع فيه نور العرفان الكامل، فتهزم له ظلمات الغفلة، فتصبح الملتان العظيمتان المسيحية والإسلام، وقد تعرفت كل منهما إلى الأخرى، وتصافحنا مصافحة الوداد، وتعانقنا معانقة الألفة، فتغمد عند ذلك سيوف الحرب التي طالما انزعجت لها أرواح الملتين.

أنت أول رئيس ديني صدع بالحق في أهل ملته، وإنك لتجد لك مؤيدين، وإن كثيرًا من ذوي الألباب ليجدون في قولك مواقع للصواب، وإن هذا الأمر الذي قمت به لعظيم الفوائد، جم العوائد، نحس منه تحرك نفوس أهل الملتين إلى الملاقاة على صراط الوحدة الحقيقية، وإنك إن كنت واحدًا فكل شيء مبدؤه بالواحد، ثم يكثر حتى لا يحصر، وإن كان هذا الغرس الطيب قد أخرج اليوم شطْأه فسيؤازره السعي حتى يغلظ ويستوي على سوقه فيعجب الزراع، وإنا نرى التوراة والإنجيل والقرآن ستصبح كتبًا متوافقة، وصحفًا متصادقة، يدرسها أبناء الملتين، ويوقرها أرباب الدينين، فيتم نور الله في أرضه، ويظهر دينه الحق على الدين كله، وإني لا أشك في أن لك الرغبة التامة في نشر مذهبك هذا وترويجه بين الأمم الشرقية والغربية، وقد سعينا في ترجمة خطابك ونشره في الجرائد العربية، فإن كان عندك مقالات أخرى فنرجو إرسالها، لنعمل على ترجمتها ونشرها بين أهل المشرق من العرب والترك وغيرهم. ولكن تمام العمل إتمام يكون بإرسال رجال ممن وافقوك في المشرب الصحيح لينشئوا مدارس في البلاد المشرقية، خصوصًا بلاد سوريا، وليطبعوا هذا الرسم الشريف في النفوس الصافية من أبناء الطوائف المختلفة، فتنمو بركته، وتجزل ثمرته، وإنني –على عجزي- مستعد لمساعدتك فيما تقصد من تقريب ما بين الملتين بكل ما يمكنني، والسلام على من اتبع الهدى.
رسالة ثانية إلى القسم إسحق طيلر

عزيزي حضرة خطيب السلام القس إسحق طيلر..

كنت في القدس الشريف لزيارة المواطن المقدسة التي أجمع على تعظيمها أهل الأديان الثلاثة، وفيها يرى الزائر كأن دوحة واحدة هي الدين الحق تفرعت عنها أغصان متعددة، لا يضر بوحدة نوعها وشخصها وفردانية منبعها ما يرى في اختلاف أوراقها وفرج انشعابها، ثم يحكم بأن تشابه الثمرة، ووحدة لونها وطعمها، قد انحصر في الدين الإسلامي، الذي يستقي من جميع عروقها وجذورها، فهو فذلكتها، والغاية التي قد انتهى إليها سيرها، لأنه يُصدِّق الكل، ويُعظِّم الجميع، ويدعو إلى التوحيد المحض، والفردانية الصرفة، التي إليها مرجع الخلائق وإن بلغ اختلافها إلى ما يفوت الحصر ويتجاوز حدود النهايات.

وبعد رجوعي من بيروت رأيت من جنابكم مكتوبًا بعث بواسطة صديقي جمال الدين بك، ووجدتكم تذكرون أمورًا كالطلاق، وتعدد الزوجات، والرق، وتظنون أنها أهم ما عليه اختلاف أهل الدينين، مع أن أمثال هذه المسائل لا يَعُدُّها المسلمون من أصول الدين، ولو اطلعتم على مذاهب المسلمين لوجدتم خير ما تحبون من ذلك بدون حاجة إلى فتوى شيخ الإسلام، وللمسلمين فيما دُوِّنَ في كتبهم ما ليس لهم في فتوى شيخ الإسلام فهذا أمر لا مقام له في موضوع بحثنا وبحثكم.

أما أصول الدين الإسلامي فهي: الإيمان بالله، وأن محمدًا رسول الله، وأن القرآن كلام الله، فأعظم شيء تتشوق إليه نفوس المسلمين الصادقين أن يسمعوا التصريح من حضرتكم بقبول ذلك، والتصديق به –كما أشرتم إليه في خطابكم المتعلق بمسلمي أفريقيا- وأن يروا علامات التصديق في الأقوال والأفعال وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ]]، وكل ما تظنه من المصاعب يذلل، وما تتصوره من الموانع يزول، ولا أظن يومًا مر أو يمر على الإنكليز يكون أسعد من ذلك اليوم الذي يؤمنون فيه بدين محمد، إذ يصبح العالم خادمًا لهم، وجند الله الأعظم ناصرًا لأهله منهم، ويتم لهم ما أرادوا من إقرار عين العبيد، وإرضاء قلوب النساء، وهما مما يدعو إليهما الدين الإسلامي على أتم الوجوه وأكملها. فهلم بنا يا عزيزي إلى الاتفاق على الأصول ليتيسر لنا الوفاق على الفروع، والاتحاد في الأب ليتسنى لنا الاتحاد في الابن، فإنما تؤتى النتائج من مقدماتها، ولا تؤتى المقدمات من نتائجها، وقد سرني كل السرور ما بلغني من أنكم استحسنتم ما وصل إليكم من صديقنا "مرزا باقر"، وإن شاء الله تجدون ما يسركم إذا داومتم مكاتبته، إن شاء الله، والسلام على أهل السلام.
رسالة إلى تولستوي

عين شمس بضواحي القاهرة، في ١٨ إبريل سنة ١٩٠٤.

أيها الحكيم الجليل، موسيو تولستوي..

لم نحظ بمعرفة شخصك، ولكنا لم نُحْرَم التعارف بروحك، سطع علينا نور من أفكارك، أشرقت في آفاقنا شموس من آرائك، ألفت بين نفوس العقلاء ونفسك. هداك الله إلى معرفة سر الفطرة التي فَطَر الناس عليها، ووفَّقَك على الغاية التي هدى البشر إليها، فأدركتَ أن الإنسان جاء إلى هذا الوجود لينبت بالعلم، ويثمر بالعمل، ولأن تكون ثمرته تعبًا ترتاح به نفسه، وسعيًا يبقى به ويرقى به جنسه، وشعرتَ بالشقاء الذي نزل بالناس لما انحرفوا عن سنة الفطرة، واستعملوا قواهم –التي لم يمنحوها إلا ليسعدوا بها- فيما كَدَّر راحتهم، وزعزع طمأنينتهم.

نظرت نظرة في الدين مزَّقت حجب التقاليد، وَوَصَلْتَ بها إلى حقيقة التوحيد، ورفعت صوتك تدعو الناس إلى ما هداك الله إليه، وتقدمت أمامهم بالعمل لتحمل نفوسهم عليه، فكما كنتَ بقولك هاديًا للعقول، كنتَ بعملك حاثًا للعزائم والهمم، وكما كانت آراؤك ضياء يهتدي به الضالون، كان مثالك في العمل إمام يقتدي به المسترشدون، وكما كان وجودك توبيخًا من الله للأغنياء، كان مَدَدًا من عنايته للفقراء، وإنَّ أرفع مجد بلغته، وأعظم جزاء نلته على متاعبك في النصح والإرشاد، هو هذا الذي سموه "بالحرمان" و"الإبعاد"، فليس ما كان إليك من رؤساء الدين سوى اعتراف منهم أعلنوه للناس بأنك لست من القوم الضالين، فاحمد الله على أن فارقوك بأقوالهم، كما كنتَ فارقتهم في عقائدهم وأعمالهم.

وهذا وإن نفوسنا لشيقة إلى ما يتجدد من آثار قلمك، فيما تستقبل من أيام عمرك، وإنا نسألك الله أن يمد في حياتك، ويحفظ عليك قواك، ويفتح أبواب القلوب لفهم ما تقول، ويسوق النفوس إلى الاقتداء بك فيما تعمل، والسلام.

مفتي الديار المصرية

محمد عبده

إذا تفضل الحكيم بالجواب فليكن باللغة الفرنسية فإني لا أعرف من اللغات الأوروبية سواها. محمد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى