رسائل الأدباء رسالة من محمد عبده إلى أحد العلماء

حضرة الهمام الفاضل، بقية الأفاضل، وتذكرة الأوائل، العالم الفاضل، مولوي محمد واصل.

لم يسبق لي شرف معرفتك، ولا فضل مكاتبتك، ولكن تجلت لي أوصافك العلية، وفضائلك القدسية، في قول أصدق الناس لسانًا وأثبتهم بيانًا حضرة أستاذي السيد جمال الدين، أيده الله بعنايته، فكنت بذلك أشد الناس تعلقًا بمزاياك، وأشوقهم لنيل الحظ من مرآك، وقد كنت حفظ الله كتبت إلى "عارف أفندي أبي تراب" تسأله عن اختياري في زيارة البلاد الهندية، وأظنه كتب إليك بميلي إلى ذلك، وترقب الفرصة للمسير إليه، ورجائي أن يسعدني التوفيق الإلهي ببلوغ الغاية لما أرتقب، ولو لم يكن لي في بلاد الهند سوى رؤية مثلك، والأخذ بالنصيب من معرفتك، لكان ذلك أقوى باعث على السعي إليها، وأحث داع للإقبال عليها، وقد يلوح بخاطري أن أهيء نفسي لذلك في الخريف الآتي من هذه السنة، فمتى عقدت العزيمة بعثت إليك بالخبر، إن شاء الله.

إن ما دعوتني إليه في كتابك "لعارف أفندي" من كتابة رسائل في تنبيه الأمة الإسلامية إلى تلافي أمرها، ومبادرتها إلى جمع كلمتها، صوتًا لنفسها عن التهلكة، وحفظًا لما بقي لها من غول الفناء، فذلك عملي إن شاء الله، وقد رأيت أن أتقدم لك برسالة تبين حال العرب في الجاهلين، على وجه الإجمال، ثم ما ساق الله إليها زمن فيض الخير ببعثه النبي ، ثم أتقدم بعد ذلك إلى ذكر سيرة النبي وخلفائه الأربعة، ثم أختم الكلام، وبعد هذا نأخذ في نشر رسائل ندعو بها إلى الألفة، ونزعج بها عن الخلفة، ورجاؤنا في كل ذلك نجاح أعمالنا، وصلاح أحوالنا، إن شاء الله.

ورسالة "النيشرية" قد نقلناها إلى اللغة العربية، وبدأنا في طبعها، وقد ترجمنا كتابكم إلى السيد، وكتاب السيد إليكم، وقدمناهما في صدر الرسالة، ومتى تمت نبعث بها إليكم، إن شاء الله.

"ونهج البلاغة" قد تم والحمد لله طبعه، وسيرسل إليكم مائة نسخة على حسب طلبكم، نبعث بها إلى "بومباي"، ثم ترسل من "بومباي" إلى "حيد آباد" وثمنها يرسل إلينا، مائتان وخمسون روبية ورق "بنك نوط" هندي، حيث إنه لا يتيسر الإرسال بطريقة أخرى، ثم ليكن في علم حضرتكم أن أثمان هذا الكتاب مخصصة للإنفاق في طريق خيري، والإعانة على أمر عام إسلامي، لا نريد منها ربحًا، ولا نطلب كسبًا، والله الموفق ونرجو من حضرتكم دوام المواصلة، بتواتر المراسلة، والله يتولى رعايتكم، والسلام.
رسالة إلى أحد علماء الشام

أنصفني قومك إذ سُرُّوا بتناولي منصب الإفتاء، ولعل ذلك لشعورهم بأنني أغْيَرُ الناس على دين الله، وأحراهم بالدفاع عن حماه، وأدراهم بوجوه الفُرَص عند سنوحها، وأحذقهم في انتهازها، لإبلاغ الحق أمله، أو يبلغ الكتاب أجله، على أنهم مني بحيث لا يفسد نفوسهم الحسد، ولا يتقاذف بأهوائهم اللدد، وكل ذي دين يشتهي أن يرى لدينا مثل ما أحثُّ إليه عزيمتي، وأخلص في العمل لتحقيق نيتي، خصوصًا أن كُفِيَ فيه القتال، ولم يُكَلَّف بشد رحال، ولا بذل أموال.

أما قومي فأبعدُهم عني أشدهم قربًا مني –وما أبعد الإنصاف منهم- يظنون بين الظنون، بل يتربصون بي ريب المنون، تسرعًا منهم في الأحكام، وذهابًا مع الأوهام، وولعًا بكثرة الكلام، وتلذذًا بلوك الملام، أقول فلا يسمعون، وأدعو فلا يستجيبون، وأعمل فلا يهتدون، وأريهم مصالحهم فلا يبصرون، وأضع أيديهم عليها فلا يحسون، بل يفرون إلى حيث يهلكون، شأنهم الصياح والعويل، والصخب والتهويل، حتى إذا جاء حين العمل صدق فيهم قول القائل في مثلهم:

لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد


ليسوا من الشر في شيء وإن هانا

وأقول ولا من الخير.

وإنما مَثَلي فيهم مَثَل أخ جَهِلَه إخوته، أو أب عَقَّته ذريته، أو ابن لم يحن عليه أبواه وعمومته، مع حاجة الجميع إليه، وقيام عُمُدهم عليه، يهدمون منافعهم بإيذائه، ولو شاءوا لاستبقوها باستبقائه، وهو يسعى ويدأب، ليطعم من يلهو ويلعب.

على أني أحمد الله على الصبر، وسعة الصدر إذا ضاق الأمر، وقوة العزم، وثبات الحلم، وإن كنت في خوف من حلول الأجل، قبل بلوغ الأمل، خصوصًا عندما أرى أن العمل في أرض ميتة، لو ذابت عليها السماء مطرًا لما أنبتت زرعًا، ولا أطلعت شجرًا، أفزع لذكرى ذلك وأجزع، ويكاد قلبي ينقطع، ثم أرجع إلى الله فأعلم أنه مع الصابرين، وأنه لا يضيع أجر العاملين، فيثلج صدري، وأمضي في جهادي الدائم، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا.

ممن أشتكي؟ لو أن ما ألقى كان من لغط العامة، ولقلقة الجاهلين، لهان الأمر، وتيسر المخرج، ولكنه البلاء كل البلاء أن أشد الناس عداوة لأنفسهم هم أولئك المعمَّمون، الذين يبعدون عن الدين مدعين أنهم دعاته، ويمزقون أحشاءه زاعمين أنهم حماته، وما منهم إلا أحد شخصين: شخص ركب هواه فأعماه، فهو يرى الحق باطلًا، والصواب خطًأ، وآخر غرَّته دنياه، وأضله جشعه، فران على قلبه ما يكسب، وامتنع عليه معرفة الصدق من كثرة ما يكذب، ولم يعد للحق إلى قلبه سبيل.

ليتني كنت أشكو إلى الله جهل العالمين وحمق المُعمَّمين في مثل الجاهلين التي بُعِثَ النبي  لمحو أحكامها، وإزالة أيامها، تلك جاهلية كان الضلال فيها بعيدًا، ولكن كان فهم القوم حديدًا، لذلك عندما لاح لهم ضوء الهدى أبصروه، وعندما قرع أسماعهم صوت الداعي أجابوه، كان القرآن يصدع أفئدتهم فيُلَيِّن من شدتهم، ويَفُلَّ من شرتهم، ويُفَجِّر من صخر القسوة ينابيع الحنان والرحمة، وما كان أهل العناد فيهم إلا قليلًا، عرفوا الحق فأنكروه، وطائفة كانوا يفرون منه خوف أن يعرفوه، ولو سمعوا لفهموا، ثم لم يجدوا بدًا من أن ينصروه. وإن الجحود مع الفهم كاليقين في العلم، كلاهما قليل في بني آدم، أما اليوم فإنما أشكو من قلة الفهم، وضعف العقل، واختلال نظام الإدراك، وفساد الشعور عند الخاصة، فلا تجذبهم فصاحة، ولا تبلغ منهم بلاغة، وغاية ما يطلبون أن يُحْمَدوا بما لم يفعلوا، وأن يوصفوا بالعلم وإن لم يعقلوا، وأن تُقْضَى حاجاتُهم إذا سألوا، وأن تُرفَع مكاناتهم وإن تنزلوا، وإنَّ استعداد السامع للفهم يستدر المقال، ويسدد الفكر للنضال في الجدال، أما عيشك فيمن لا يفهم، فإن يُنْضِب منك ينبوع الكلام، ويطمس عين الفكر، ويزهق روح العقل.

جعلني الشيخ "عبد الرزاق البيطار" ثالث الرجلين، وما أنا في شيء من أمرهما، إلا نزر من الهمة، وكثير من معرفة قدرهما.

الحمد لله لا أحصي ثناء عليه، وأشكره وأشكر نعمة مرجعها إليه، وأذكر من نِعَمِه أكبر نعمة أمدني بها، وأكرمني بأسبابها، إحسانه إليَّ بعطف قلب الأستاذ عَليَّ، وتقريبي من فؤاده، وإحلالي مكانًا من وداده، كَرُمَتْ نفسُ الأستاذ فَكَرُمَ فيها مثالي، وكملت سجاياه فتخيل منها كمالي، نسب إلي الشيخ الجليل شئونًا كلها من سرائره، وألبسني من الأوصاف ثوبًا نسجته مظاهره، جعل لي السيد من حسن ظنه معينًا؛ وأفادني بثقته ركنًا ركينًا، وسندًا أمينًا، فأسأل الله تحقيق ظنونه، وأن يمدني دائمًا بدقائق فنونه، وأن ينصرني بولائه، وأن يسلكني في عقد أوليائه، والسلام.
رسالة إلى مناضل سوري

ولدنا الفاضل..

تمنيت لو تمتعت بقربك، كما قُدِّر لي المتاع بأدبك، ولكن أحمد الله الذي يرينا ما نختار، في غير ما يقع عليه الاختيار، فأنت حيث أنت أنفع ما تكون لقومك، تجعل لهم حظًا من عمل يومك، تزحزح عن أبصارهم حجب الغفلة، وتعظهم بما أوتيت من الحكمة، وتهيء نفوسهم لقبول الحق إذا أقبل، وتُعدُّها لمدافعة الباطل إذا أظل، وأسأل الله أن يشد أزرك، ويخفف من ذلك وزرك، ويرفع بعملك قدرك، وأما صلتنا فصلة آمال وأعمال، وهي خير صلة وأوفقها عند الرجال، بارك الله لك في أيامك، ورزقك الخير والسعادة في أعوامك، والسلام؟.

كلمات

* هلاك العامة فيما ألفت.
* إنما بقاء الباطل في غفلة الحق عنه.
* من عرف الحق عز عليه أن يراه مهضومًا.
* لا يكون أحد صادقًا ومخلصًا حتى يكون شجاعًا.
* الذل يميت الإرادة.
* من لا صديق له فهو عدو نفسه وعدو الناس.
* الشباب يحمل ما حمل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى