د. عادل الاسطة - الطريق إلى البيت.. الطربق إلى رام الله

" مدن تبنى على عجل " سطر شعري لمحمود درويش قاله في إحدى قصائده التي أتى فيها على رام الله ، فالشاعر الذي أقام في المدينة لم ينسجم فيها كثيرا ، وقد رأى أن حاضره فيها دون ماض. " لا ماضي له فيها سواك " كتب ، ويقصد سوى حضور بعض الشخصيات فيها ممن انتسبوا إليها وكان لهم فيها ماض ، ومنهم سليمان النجاب الذي رثاه الشاعر .
ولا أعرف ماذا كان سيقول في المدينة لو كان عاش فيها في عقود الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات وحتى التسعينات ، وكان يسافر منها ويعود إليها يوميا أو في نهايات الأسبوع وبداياته ؛ من نابلس إلى رام الله وبالعكس ، أو من رام الله إلى القدس وبالعكس .
كانت الطريق من رام الله إلى القدس أو إلى نابلس ، وبالعكس أيضا ، تستغرق مدة قصيرة لا يشعر المرء فيها بضجر أو ملل ، وإذا ما كان السائق يصغي إلى أم كلثوم فإن الراكب لا يستمع إلى الأغنية كاملة ، وهذا ما لم يعد الآن قائما .
مع انتفاضة الأقصى صار التنقل من رام الله وإليها أمرا صعبا يسهل أمامه السفر من مطار اللد إلى مطار فرانكفورت . لقد غدا الوصول إلى رام الله مغامرة يجب التفكير فيها جيدا.
عندما بدأت أكتب زاوية " دفاتر الأيام " الأسبوعية في 2003 مرت سبعة أشهر تقريبا دون ان أستلم خلالها المكافأة . ومرة طلبت مني الجريدة مقالا عن رمز أدبي لمناسبة رحيله ، وأظنه الشاعرة فدوى طوقان التي توفيت في أوج الحصار ، وعلى هامش الطلب سئلت عن السبب الذي لا يجعلني استلم المكافأة ، فأجبت بأنني بسبب الحصار والحواجز لا آتي إلى رام الله .
في حينه كانت زيارة رام الله ، لمن يرغب في زيارتها لمجرد الزيارة ، أمرا يفكر فيه ، فقد كانت السفر مغامرة ، ولمن يرغب في قراءة نص عن إشكالية الوصول إليها ، فليس له إلا أن يعود إلى الأدبيات التي صورت معاناة الناس في تلك الأيام . ومن الأدبيات كتاب مريد البرغوثي " ولدت هناك ..ولدت هنا " وقصة أكرم هنية " زمن حسان " من مجموعة " دروب جميلة " .
كان الوصول إلى رام الله مغامرة ويتطلب وقتا طويلا ، قد يستغرق ساعات ، وربما صار الناس ، وهم يسافرون ، يكررون المثل الشعبي " يوم الطحان يوم " . فهل انتهى الأمر مع انتهاء الانتفاضة؟
في الأسابيع الثلاثة الأخيرة زرت القدس من رام الله ، وقد أنفقت في الطريق ذهابا وقتا أكثر مما أنفقت في القدس . ولم يختلف الأمر إيابا ، وقد توصلت إلى أن زيارة القدس تحتاج إلى سروة مبكرة ورواح مبكر أيضا .
الخميس الماضي زرت رام الله وأنفقت فيها بضع ساعات وفي الثالثة عصرا عدت إلى نابلس .
المسافة من رام الله إلى نابلس كانت تستغرق في الزمن الغابر أربعين دقيقة ، وحين لا تكون هناك أزمة في زمننا الحاضر لا تستغرق أكثر من أربعين دقيقة أيضا ، فكم احتجنا إلى وقت في يوم الخميس حتى نصل إلى نابلس؟
في الثالثة عصرا ذهبت إلى مجمع السيارات فلم تكن هناك سيارات . كان هناك ركاب ينتظرون ، وكان هناك ، لأول مرة ، مراقب يوزع بطاقات عليها أرقام لتنظيم حركة الصعود . غادرت المجمع ذاهبا إلى مجمع الباصات فلعل الاكتظاظ هناك أقل ، ولم يكن الأمر مختلفا .
في الثالثة والربع غادر الباص رام الله إلى نابلس ، وكانت الطريق حتى حاجز زعترة ميسرة ، ولكنها من الحاجز حتى المدينة لم تكن كذلك . لقد كان السير سيرا بطيئا وكان على الحافلات أن تسير كما تسير السلحفاة .
الطريق التي تستغرق أربعين إلى ستين دقيقة استغرقت ساعتين ونصف . هل ستبنى في قادم القرون في المدن في فلسطين مطارات ليتم السفر بواسطتها بين المدن .
في الأدبيات الفلسطينية التي كتبت بعد أوسلو رصد لافت لما ألم بمدننا من تغيرات ، والآن على ما يبدو تحتاج الطرق العامة بين المدن في فلسطين إلى رصد التغيرات التي طرأت عليها ، ويتبع هذا رصد نفسيات المسافرين وأحاديثهم وكيف ينفقون وقتهم في الحافلات .
كان المتنبي قال :
" وخير جليس في الزمان كتاب "
وصار الأوروبيون ، وهم يتنقلون في القطارات من مدينة إلى مدينة ، ومن بلد إلى بلد ، يصطحبون معهم الكتب. في زماننا صار المحمول كتاب العصر ، ومع ذلك فإن ثمة حكايات وقصصا يرويها المسافرون تحكي ذكرياتهم عن المكان وفيه .
قبل ثلاثة أسابيع عدت من القدس في الرابعة عصرا إلى رام الله ، ووصلت إلى رام الله في الخامسة والنصف . وفي أثناء العودة ، من القدس إلى معبر قلندية حكى أحد الركاب سيرة حياته . عرفت مثلا عن عمله السابق والحالي ، وعرفت عن سكنه في بيت حنينا ثم تغيير مكان السفر إلى كفر عقب ، وعرفت عن أجور البيوت في المكانين ، ولم يترك الراكب مكانا أو شارعا مررنا به دون أن يحكي عنه .
وفي الطريق من نابلس إلى رام الله جلس إلى جانبي شاب من مخيم عسكر القديم يدرس الأدب الإنجليزي في كلية المعلمين التابعة لوكالة الغوث ، ولما كان الحديث ذا شجون ، فقد عرفت من هم أعمامه وأخواله واسترجعت معه قصة جده وجدته وأهله وتاريخ المخيم والناس وحكى لي عن أحلامه وطموحاته و .. و .. .
حقا هل سيفكر الفلسطينيون بإقامة سكك قطارات للتنقل بين المدن أم أن القرون القادمة ستشهد بناء مطارات ؟
كل شيء ممكن و " عالمنا تغير كله " .
( بدأت الكتابة بذكر محمود درويش وفي المرتين كان من أسباب سفري الحصول على كتابين صدرا مؤخرا عنه ؛ أولهما لزياد عبد الفتاح وثانيهما لحسن خضر ) .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى