«لا أخشى شيئاً من الشيطان، ولا من الجحيم .. آه لو أن تكشف الأسرار التي أجهلها»
غوته
لعل أجمل وصف للعقل العربي، هو أنه الورقة الأخيرة لتحرير هذه الشعوب من العبودية والانحطاط، لأنه يحمل الأمل، الذي يمكن تعميمه من خلال التنوير والنقد، ولن يبقى تأثيره محصوراً في دور المصلح للأعطاب السياسية والتأويلات المتشددة للعقيدة، بل ينبغي أن يكتشف قارة العلم الحديث، والفلسفة الحديثة، لأنه بدون هذا الاكتشاف سيظل العقل العربي هو نفسه يتمتع بأحلام اليقظة، ويطول أمده في النوم الدوغمائي، لكن أي عقل نتحدث عنه الآن؟ وبأي معنى من المعاني يدرك وجوده؟ وكيف يتأمل مستقبله؟
إنها أسئلة قلقة لا تسعى إلى من يجيب عنها، بقدر ما تريد أن تنصهر في ذلك القدر الحزين الذي رافق هذا العقل منذ ولادته، وما دام أنه لم يستنشق هواء الحداثة الفلسفية والنظرية النقدية، فإنه سيظل في سباته الدوغمائي إلى الأبد، ومن أجل أن تكون الشعوب في أمس الحاجة إلى هذا العقل التنويري، ولكنها لا تدرك كيف تدافع عنه، ولذلك يجد نفسه وحيداً في مواجهة التيار الظلامي.
ولم يعد من الضروري أن يضحي الفيلسوف بحياته من أجل أمة تعتز بجهلها، وإدارة ظهرها للعقل، إلى درجة أن ركام الكتب الصفراء تعلن عن أخلاق اللاهوت الحزين الذي قام بنبذ التيار العقلاني، وتأسيس المجتمع العلمي على الحنين إلى التراث، مما عجل بظهور بؤس العالم، واغتراب التنوير، هكذا وجهت كتب الفلاسفة والفكر العلمي العقلاني إلى الجحيم، وأبعد العلماء الذين يدافعون عن العلم، لأن العقل مرعب للسلطة المقدسة التي تدافع عن تخدير الإدراك بالعقيدة والأسطورة لأن ما يهمها هو تحويل الأرواح إلى كهوف مظلمة، تجبرك على التفكير في الكلمات قبل أن تسقط إلى الأرض، مما يجعلك مضطراً على أن تقول بصعوبة ما تعرفه عن العقل والعقلانية، ومع ذلك ستتهم بالجنون: «فلسفة، هيهات، يكتب غوته، القانون، الطب، وأنت أيضاً أيها اللاهوت الحزين.. لقد درست كثيراً، وبجهد وصبر، والآن ها أنا هنا، فقير مجنون، بعدما كنت حكيماً من قبل» (غوته، فاوست)
نعم لا أخشى أن أتهم بالفقر والجنون، ما دام أن المعرفة هي أثمن هدية تترك آثارها الروحية، وتحرك تلك الأفراح الأبدية، سواء كانت هذه المعرفة فلسفة، أو قانونا، أو طبا، فإنها تنتزع الروح من السحر واللاهوت الحزين، لأن ما ينقص الروح هو هذه البذور الأبدية، التي تقودها إلى النجوم الفضية، وتظل مستيقظة كل الليل تبحث عن العقل في هذا الركام من المعرفة.
لكن مع التنوير سيأتي الخلاص من المعرفة الحزينة، ويبشرها طلوع الشمس بميلاد عهد جديد، وعقل حديث، ومعرفة علمية، إنها ثلاثية تؤدي إلى ربط الروح بالحقيقة، ولذلك يتعين علينا أن نجعلها شعار النهضة الفكرية، بعيداً عن اللبس وتعتيم النظر، لأنه لا معرفة ولا نهضة فكرية بدون ولادة العقل العلمي التنويري، ذلك أن المعرفة الحقيقية، وقول الحقيقة، وممارسة الحقيقة، لن يأخد مجراه الطبيعي إلا بعد تحرير الذات العربية من التراث الخرافي، وفتح أبواب التراث العقلاني أمامها، الذي يجعل منها علاقة مع معرفة العالم، ولعل هذا الباب ظل مغلقاً في الاجتهاد، فما هي الذات الفاعلة؟ وما الذي يجب أن تقوم به؟ وهل بإمكانها أن تكون حرة ومفكرة؟ وهل تستطيع أن تؤسس المجتمع العلمي؟ وما علاقة هذا المجتمع بالمجتمع السياسي؟ بل أكثر من ذلك من ماذا يتكون المجتمع السياسي العربي؟ وهل يسمح بقول الحقيقة؟
بما أن المجتمع السياسي يستمد مرجعيته من التراث المقدس، فإنه سيقوم بهدم كل خطاب يسيء إلى بناء الحقيقة العلمية، فالحقيقة أبدية، يتسلمها المتقدم عن المتأخر، ولذلك فإن الأخلاق الانضباطية تمارس طقوس العبادة في التربية والتعليم والسياسة، مما يحكم على الفكر بالتوجه نحو أركيولوجيا الصمت. فقول الحقيقة أصبح نمط وجود للذات العارفة خارج الفضاء الشقي، وتمرينا على الزهد والعزلة، من أجل القراءة والكتابة، أو بالأحرى مخاطبة الذات لذاتها. لأنه في حميمية هذا الحوار الذاتي، ينبغي أن نتعرف على المفكرين، الذين لا يجدون قراء إلا بعد سنوات.
لأن الإنسان عندنا يخضع إلى تربية على السمع منذ حداثة سنه، وعلى الرغم من أن الاستماع هو الأكثر سلبية من الحواس الأخرى، فإن الروح تحولت إلى استماع: « إننا لا نستطيع إلا أن نسمع ما يقال حولنا، إننا نستطيع ألا ننظر لأننا نغمض أعيننا، نستطيع ألا نلمس شيئاً، وألا نتدوق شيئاً، ولكننا لا نستطيع ألا نسمع، وهذا ما يثبت سلبية الاستماع»، (بلوتارخوس، في الاستماع). هكذا يعظم مقام الخطباء بجميع أصنافهم، لأنهم يجدون صدى الكلمات في الروح، وبإمكاننا توجيهها إلى دروب الاغتراب عن الحقيقة والعقل.
ولعل هذا بالذات هو السبب الرئيسي في تأخر عودة العقل العربي من منفاه، وربما أنه سيعود لو أن الإنسان العربي توجه نحو حاسة النظر، ولعل حاسة السمع، ولو لزمن قصير، لأن النظر يستقبل العقل، أكثر من الحواس الأخرى، ولذلك يتعين عليه أن يجمع كل يوم ثماراً، لكي يعود إلى نفسه وهو مستيقظ، بدلاً من أن يقضي حياته في هذا السبات العميق. فالعقل لا يمكن أن يدخل إلى الروح إلا عبر الأذن: «سواء شاء أم لم يشأ السمع، فإن العقل سيفعل فعله مهما كان نوع هذا الفعل على الروح.. نتعلم الفضيلة بالسمع.. نتعلم الحقيقة بالسمع والنظر». ( فوكو)
هكذا نصاب بمحبة الحكمة عندما نبحث عنها، سواء من خلال الاستماع إلى المحاضرات، أو من خلال القراءة، باعتبارهما بذوراً لتنمية الروح، إذ أن هناك في كل روح عاقلة بذور الفضيلة والحقيقة. ومن طبيعة العقل أن يتعرف عليها، لأنه يتوفر على ملكة التمييز، بين الخطأ والصواب، بين الحقيقة والوهم.
والحال أن الأمة التي ترفض العقل، إنها أمة تحاصر الحقيقة، ولا تريد أن تتركها تتسلل إلى الأرواح، وبفعلها هذا تقوم بمحاصرة الفضيلة الفلسفية، على الرغم من أنها في حقيقتها وصفة علاجية لأخطر مرض وهو الجهل. إلا إذا كان الجهل مفخرة لهذه الأمة، ولذلك لا تريد لأبنائها أن يصبحوا فلاسفة، أو علماء، فالمدرسة الفلسفية مستوصف لعلاج روح الأمة.
وبما أن كلمات الحقيقة تزرع في روح الأمة بذور الفضيلة، فيجب على العقل أن يحصد ثمارها، فالحصاد يكون وافراً كلما كانت دروس الحقيقة والفضيلة أقوى من دروس الخطابة والسفسطة، ولذلك فإن عظمة الأمة تقاس بالمحصول السنوي في مجال العلوم والمعارف. وكلما كانت هزيلة، كانت العيوب والنقائص والشرور هي حصيلة الموسم. فمن أجل محصول وافر ينبغي أن تكون هناك مهارة علمية ومقدرة عقلية، ذلك أن العقل يبدع الوجود، وكلما اختفى في الأمة اختفت معه هذه المهارة وهذه القدرة. فالاهتمام بالروح هو اهتمام بالحقيقة، والحقيقة لا تأتي عن طريق الثرثرة، بل عن طريق التأمل والصمت، ولذلك يجب تعميم الصمت، وإرغام الخطباء على الالتزام به: «يجعل بلوتارخوس من تعلم الصمت عنصراً أساسياً في التربية الجيدة».
ذلك أن الصمت شيء عميق ومقنع، فالروح ترتاح إلى الصمت أكثر ما ترتاح إلى الثرثرة، فالثرثار مريض، لا يمكن معالجته، إلا إذا أراد أن يصمت: «إنه إناء فارغ على الدوام» لا يحتفظ بالعقل، فبأي مقياس يجب قياس عظمة الروح ؟ هل بمقياس العقل؟، أم بمقياس اللذة الحسية والوجدان المشتعلة؟
كان أملنا هو أن نجعل العقل يواجه الإنسان العربي ويدفعه إلى الاستيقاظ من الجمود والعبودية، ويحرضه على ثورات الحرية والمساواة والكرامة، لأنه بدلا من أن يتحرك الإنسان تجاه العقل ويجعله يستيقظ من سباته الدوغمائي، أضحى العقل هو الذي يصارع من أجل الإنسان، فما هو يا ترى الحل لهذا الإشكال؟ وبعبارة أخرى من يملك الآخر الإنسان أم العقل؟ ومن سيحرر الآخر؟ سنترك هذه الأسئلة هي الأخرى تواجه قدرها، لأنه من العبث أن نبحث لهذه الأسئلة عن إجابات في هذا العصر المضطرب، خاصة أنه عصر اللاعقل بامتياز.
٭ أكاديمي مغربي