محمد اليعقابي ـ بين الجابري وطرابيشي : 4 ـ العقل المستقيل في الإسلام؟

يشتمل هذا الكتاب (الطبعة الثانية) على خمسة فصول.

الفصل الأول: "الإبستيولوجيا الجغرافية"

"العقل المستقيل في الإسلام؟""لا يمثل الغرب والشرق في مشروع الجابري مقولتين جغرافيتين، بل هما مرفوعتان عنده إلى مقولتين ابستيمولوجيتين، أي مقولتين تحددان النظام المعرفي للعقل بما هو كذلك..." (ص 11)

"ولا شك أن الجديد الذي تضيفه الإبستيمولوجيا الجابرية إلى (...) التصنيف الثلاثي لأنظمة المعرفة ليس حصره بثلاثة: بيان وعرفان وبرهان. فالجابري نفسه اضطر في نهاية المطاف إلى الإقرار بأن هذا التصنيف الثلاثي "كان حاضرا في وعي وكتابات المفكرين القدماء" ("التراث والحداثة" ص 128). أما إضافة الجابري النوعية فتتمثل في إصراره على أن "يؤقنم" هذا التصنيف التراثي و"يجوهره" من منظور قومي جغرافي: بيان عربي مشرقي وعرفان فارسي وبرهان يوناني مغربي". (ص 12)

- "أفلاطونيتان محدثتان: مغربية ومشرقية"

يدعي الجابري أن الأفلاطونية المحدثة في صيغتها المشرقية (الحرانية الفارسية) الوثنية "انتشرت في سوريا والعراق وشمال إيران وخراسان". أما في صيغتها المغربية (الاسكندرانية – المسيحية) فقد "انتشرت في روما والإسكندرية والمدارس المتفرعة عنها، والتي من بينها المدارس السريانية التي انشغلت مثلها مثل مدرسة الإسكندرية ومدرسة أفلوطين ب"التوفيق" بين الفلسفة اليونانية والعقيدة المسيحية من جهة، وبين أفلاطون وأرسطو من جهة ثانية". ويعزز الجابري هذه القرينة بإضافة القول: "ما يميز هاتين الصيغتين من الأفلاطونية الجديدة هو، في نظرنا، الكيفية التي وظفت بها كل منهما فكرة الفيض، و"التوظيف المشرقي" لهذه الفكرة كان لا بد أن يخضع في حران بالخصوص للديانة المحلية التي تعتبر الكواكب آلهة، ومن هنا نظرية العقول العشرة. أما "التوظيف المغربي" فقد كان لا بد أن يخضع هو الآخر لمعطيات العقيدة المسيحية، خاصة في روما مع أفلوطين وأتباعه، وبالتالي كان لا بد أن تنحصر الفيوضات في هذه الصيغة في ثلاثة: التثليث المسيحي". ( "نحن والتراث" ص 188) (ص 17)

"بديهي أن الجابري لا ينكر أن أفلوطين شخصية مركزية في الأفلاطونية المحدثة، لكنه يرى أن إبراز دور هذه الشخصية، مع إغفال دور السابقين واللاحقين، إنما هو "عملية أيديولوجية" في إطار "تاريخ الفلسفة الأوروباوي النزعة " تستهدف إقامة الجسر الضروري لربط العالم الروماني بالفكر اليوناني من جهة، والمسيحية بالفلسفة من جهة ثانية، وذلك من أجل إثبات استمرارية موهومة في التاريخ الأوروبي السياسي والفكري، تلك الاستمرارية التي ستتحول مع هيغل إلى مطلق". ( "تكوين العقل العربي" ص 156) (ص 15)

يرد طرابيشي أن هذا النص يشتمل على مغالطتين "يمكن رفعهما، بدون مبالغة إلى مستوى الفضيحة المعرفية". (ص 15)

فأفلوطين كان مصريا من مواليد أسيوط ومن خريجي مدرسة الإسكندرية، ولم يكن رومانيا (ص 216). وما من فيلسوف من فلاسفة الأفلاطونية المحدثة (أفلوطين 205-207، فورفوريوس 233-305، يمليخوس 280-335، أبروقلوس 412-485، دمسقيوس 480-544، سنبليقوس 500-؟) كان مسيحيا، فكلهم وثنيون باستثناء يحيى النحوي الأسكندراني (490-566) الذي كان أول من تنصر منهم وانبرى للرد على أطروحتهم المركزية، الموروثة عن أرسطو، في قدم العالم. "وإنهم جميعا شاركوا في النضال الفكري ضد المسيحية الصاعدة، وفي مقدمتهم أفلوطين الذي خصص الرسالة الأخيرة من تساعيته الثانية للرد على التيار المتغنوص من المسيحية (...) وجملة القول: إن الوظيفة التاريخية والأيديولوجية للأفلاطونية المحدثة تظل مستعصية على الفهم ما لم يؤخذ بعين الاعتبار أنها مثلت خط الدفاع الأخير للوثنية الآفلة في مواجهة المسيحية الصاعدة. وذلك أصلا ما يفسر المهمة الأساسية التي أخذها الأفلاطونيون المحدثون على عاتقهم هي تطوير روحانيات وإلهيات وثنية في مواجهة روحانية المسيحية وإلهيتها". ( ص 217-218)

"والوقع أنه، باستثناء الجابري نفسه (...)، لم يقل أحد من مؤرخي الفلسفة أو مؤرخي الأفكار في الغرب بوجود "استمرارية" ما بين أثينا وروما. بل العكس هو الصحيح." لسببين، أولهما لغوي والثاني ثقافي، فالثقافة الرومانية عملية واليونانية تأملية (ص 219-220). وقد عاش أفلوطين مهمشا في روما التي هاجر إليها وقد تجاوز الأربعين من العمر. ويختم أحد الباحثين بالقول: "يتعين علينا أن نعتاد على هذه الفكرة، وهي أن أفلوطين أسس في روما المدرسة الأولى للفلسفة، ولكنها لم تعمر حتى بقدر ما عمر هو نفسه" (هنري دومينيك سافري، "حياة أفلوطين" ص 35) (ص 21).

وفي هامش الصفحة 22 يحيل طرابيشي إلى كتاب "تاريخ الفلسفة" لإميل برييه الذي يشير "إلى عذابات الفلسفة في روما بدءا بالشتائم التي كانت توجه إلى الفلاسفة في الطريق العام، ومرورا بالتهم التي كانوا يرمون بها من أنهم "مسيرو شغب وطالبو فوضى"، وانتهاء بمرسوم "طرد الفلاسفة طرا من روما" الصادر سنة 71م.

- دور نومانيوس بين العقلانية اليونانية والالهيات الشرقية

يرى طرابيشي أن الجابري أخطأ في تحديد دور نومانيوس في تاريخ الفلسفة لأنه اعتمد على مصدر واحد ألا وهو هنري شارل بويش مؤلف "بحثا عن الغنوص" En quête de la gnose. وبويش ممثل لمركزية مزدوجة، أوروبانية ومسيحية. وهو من " بين سائر مؤرخي الأديان في أواسط القرن العشرين، (...) أشدهم تطرفا في تغريب العقل باسم "العقلانية اليونانية" وفي تشريق اللامعقول باسم "الالهيات الشرقية"(ص 46). وبذلك يعيد الجابري إنتاج المركزية الأوروبية "مضطلعا بذلك بدور المستشرق الداخلي الذي يروج في الحقل التداولي للثقافة العربية لأخطر الدعاوى الابستيمولوجية الأوروبية" التي ما انفك يندد بها. (ص 32)

"فمنذ فاتحة مقالته (بويش) يعلن أن هدفه "دراسة تأثير الشرق على الفلسفة اليونانية"، وأن فكر "نومانيوس" يقدم حالة نموذجية لدراسة هذا التأثير بحكم تشبعه ب "المؤثرات الشرقية"، وبحكم انتمائه إلى أفامية، أحد المنابع الرئيسية "للهيلينية المتشرقة" وللأفلاطونية المحدثة "المحولة إلى عرفان شرقي". وباستثناء التلميح إلى "يهودية نومانيوس"، أو على الأقل "ساميته"، فإن الدليل الرئيسي على "مشرقية" نومانيوس يجده في التصريح المنسوب إليه –من قبل أوسابيوس القيصري دوما – والداعي بموجبه إلى الرجوع، فيما يتعلق بمسألة الألوهية، ليس إلى أقاويل أفلاطون وحده، ولا حتى فقط إلى تعاليم فيثاغورس من قبله، بل كذلك إلى "الشعوب ذات السمعة المجيدة" من " براهمانيين ويهود ومجوس ومصريين" لمقارنة "أسرارها وعقائدها وطقوسها" وإعادة تفسيرها "بالتوافق مع مبادئ أفلاطون". وبعد تحليل مقتضب لما يسميه بويش ب "ثنائية هذا السامي الجذرية"، أي القول بإلهين متعارضين تعارض العقل والمادة، والخير والشر، يؤكد أن هذه الثنائية "تضع إصبعنا على الأصل الشرقي لتأويل نومانيوس"، أي اليهودية المتهلينة بصيغتها الفيلونية (من فيلون الأسكندري) و"الديانة الفارسية وأساطير مصر". ولا يتردد بويش في أن يجزم بأن هذه الثنائية المشرقية المصدر، القائمة على التمييز الجذري بين إله متعال خير وإله شرير، تمثل "نوعا من جسم غريب في فكر نيمانيوس الذي يبقى، أو يزعم أنه يبقى يونانيا خالصا". آية ذلك أن نومانيوس شرقي، سامي، أسيوي، وبصفته كذلك فهو "نهم للإيمان". ومن هنا محاولته ضم أفلاطون إلى فيثاغورس – الذي كان بعض المأثور يعتده نبيا يوحى إليه – وضم الاثنين إلى "الغنوص الشرقي". فإيمانية نومانيوس هي التي جعلته يضطلع بدور حصان طروادة الذي منه تسلل الغنوص الشرقي ليقتحم الفلسفة اليونانية من داخلها. والحال أن "الروح اليوناني" ما كان له أن يقبل ب "نزعة نومانيوس المشرقية" هذه، أي "ثنائيته ذات الأصل الغنوصي". ولهذا كان من المحتم أن يتصدى له أفلوطين، ذلك المؤسس الثاني للأفلاطونية المحدثة "بصيغتها المغربية". فنومانيوس، المنافح على حد ادعائه على العقيدة القويمة الأفلاطونية، أعطى المثل السيء" إذ يمم، في مسعاه إلى استكمال تعاليم أفلاطون وفيثاغورس، شطر "الشعوب التي ترى قبل غيرها إشراقة الشمس". فهو ليس مجدد الأفلاطونية، بل "مغنوصها". والأرجح أن أولئك الغنوصيين الغامضين الذين كانوا يترددون على مدرسة أفلوطين في روما والذين وجه لهم هذا الأخير انتقادا مرا في آخر تساعيته الثانية، ما كانوا إلا "ورثة مباشرين لنومانيوس وتلامذة متكونين على مذهبه". وإنما "من خلالهم استشعر أفلوطين الخطر الذي يمكن أن تشكله الاتجاهات النومانيوسية على عقائد الفلسفة اليونانية". كما من خلالهم أدرك – يختم بويش بالقول- "ضرورة تنظيم نوع من الدفاع عن الغرب في مواجهة ذلك الغزو الآتي من الشرق"، وهو الغزو الذي كان نومانيوس أول من فتح الأبواب أمامه وكان الغنوص –والمانوية من بعده – أبرز طلائعه". ("بحثا عن الغنوص" م1، ص 25-54) (ص 46-48)

لكن المرجع الأساسي الثاني للجابري (فستوجيير: "وحي هرمس مثلث العظمة" La révélation d’Hermes Trimégiste) يعارض الرجوع إلى الديانات الشرقية لتفسير إلهيات نومانيوس (وهو ما يسكت عنه الجابري). فالمصدر اليتيم لنومانيوس في إلهياته، وتحديدا منها ما يتعلق بالإله المجهول، هو أفلاطون: أفلاطون محاورة "طيماوس" كما أفلاطون "الجمهورية". ففوستوجيير يجزم بأن نومانيوس "يجري استدلالاته العقلية بصفته تلميذا جيدا لأفلاطون"، وهذا بالاستناد، لا إلى روحانية "الحكمات الشرقية"، بل إلى "المنهج البرهاني الخالص المستعمل في المدارس (اليونانية)" ("وحي هرمس... م4، ص 131) (ص 54).

- نومانيوس وأفلوطين: خصمان أم حليفان في معركة مشتركة؟

يستعيد الجابري، بواسطة بويش، فحوى رسالة أفلوطين في "الرد على الغنوصيين" ليزعم أنها إعلان للانفصال عن نومينيوس وعرفانه (ص 58). متجاهلا وحدة انتمائهما المذهبي: فأفلوطين كان "يقرئ في مدرسته شروح نومانيوس" بشهادة فورفوريوس؛ وكان أماليوس الذي كان مرشحا لخلافة أفلوطين "يجمع وينسخ جميع كتابات نومانيوس ويحفظها عن ظهر قلب؛ وكان جميع الممثلين اللاحقين للأفلاطونية لا يذكرون نومانيوس إلا مقرونا بأفلوطين. (ص 60). والفرق بين نومانيوس وأفلوطين يكمن في كون الأول كان يريد الارتداد بالأفلاطونية نحو الفيثاغورية، بينما كان الثاني يريد التقدم بها نحو الرواقية لأنها كانت تمثل خط الدفاع ما قبل الأخير في مواجهة المسيحية الصاعدة (ص 74). أما الفرق بين نومانيوس والغنوصية فيتمثل في كون الغنوصيين كانوا يقولون ب "شرية" (من الشر) المادة وبتلويثها للإله الصانع المتعامل معها، في حين أن نومانيوس يرى أن المادة جزء من العالم، والعالم خير وجميل لأنه الوجه المنظور لصانعه اللامنظور، ومشارك له في الخيرية والجمال (ص 71).

فمن هم إذن الغنوصيون الذين انتقدهم أفلوطين؟

أولئك "الغنوصيون" الذين انتقدهم أفلوطين في آخر تاسوعته الثانية: "إنهم هم الذين تأبى المركزية الأوروبية، المزدوجة بمركزية مسيحية، أن تقر بهويتهم الحقيقية، أو تأبى على الأقل أن تقر بما هم ليسوا عليه: لا من الشرق ولا من أتباع "الإلهيات الشرقية": فهم من الخريجين القدامى من مدرسة الفلسفة اليونانية ومن المعتنقين الجدد للعقيدة المسيحية في زمن لم تكن فيه هذه العقيدة قد تبلورت وتقننت مع تحول المسيحية الأولى – المفتوحة على جميع الاجتهادات التي ستدمغ لاحقا بأنها "غنوصية" – إلى مسيحية أساقفة ومجامع كنسية وسلطة إكليركية هرمية ومنظومة لاهوتية قويمة (أورثوذوكسية) عقب تنصر قسطنطين في القرن الرابع وصيرورة المسيحية عقيدة رسمية للدولتين الرومانية والرومية". (ص 62)

أما المأخذ الرئيسي لأفلوطين على خصومه "الغنوصيين" (المسيحية) فتتمثل في "كونهم يلفقون مذاهب غامضة لا تمت بصلة إلى "أفكار الاغريق الواضحة"، مذاهب هي من اختراع "أناس لا يربطهم رابط بالثقافة الهلينية القديمة" ("التاسوعات" م 2، ص 108-110). وكما هو واضح من النص، فإن ما ينتقده أفلوطين لدى "الغنوصيين" هو قطيعتهم مع الثقافة اليونانية الكلاسيكية، وليس كونهم "لا يتقيدون بالمنهج الهليني" كما يقوله الجابري. فالقضية لم تكن في نظر أفلوطين قضية صراع ابستيمولوجي بين منهج برهاني "يوناني" ومنهج عرفاني "مشرقي"، بل كانت قضية صراع أيديولوجي ووجودي شامل بين الوثنية اليونانية-الرومانية وبين "ديانة الجليليين" كما كان يسميها فورفوريوس، وقضية صراع ثقافي لا يقل شمولية بين ثقافة النخبة العالمة التي كانت تمثلها الفلسفة اليونانية وبين ثقافة "الكثرة" العامية التي كانت تمثلها المسيحية الصاعدة و"الغازية كالمرض" على حد تعبير فرفوريوس أيضا". (ص 63)

"وفي الوقت الذي ينبري فيه أفلوطين للدفاع هذا الدفاع المستميت عن عقائد الوثنية وعن إلهيات الفلاسفة الإغريق القدامى، يسفه تسفيها شديدا المعتقدات الثيولوجية المستحدثة للهراطقة الواحديين وضلالاتهم الفلسفية، منكرا عليهم، في جملة ما ينكره، اعتقادهم بأن العناية الإلهية قاصرة عليهم، وبأنهم هم وحدهم، دون سائر البشر، "أبناء الله"، وبأن إلههم قد اختصهم وحدهم بالخلاص وأعطاهم عهده بحياة أخرى في "أرض جديدة" غير هذه الأرض. ومن مآخذه الأخرى عليهم اعتقادهم بشفاعة الآلهة، ومسعاهم إلى استرضائها ورشوتها بصلواتهم وابتهالاتهم وطقوسهم السحرية، واعتقادهم أيضا بأن اتحاد النفس بالجسد "خطيئة"، وتوهمهم بأن الأمراض لا تعود إلى أسباب طبيعية من "تعب وبدانة وخواء وفساد" وابتعاد عن "الاعتدال والحياة النظامية"، بل هي "شياطين" تسكن الجسد وقابلة لأن تطرد بالتعازيم والرقى السحرية. على أن أشد ما ينكره عليهم أفلوطين هو اعتقادهم كما يقول العنوان الأصلي لرسالته- أن "فاطر العالم شرير وأن العالم رديء"، الشيء الذي يجعل علامتهم الفارقة المذهبية هي "ازدراء العالم". والحال أن ازدراء العالم وازدراء الآلهة وازدراء الجمالات التي في العالم، ليس هو السبيل إلى أن يصير الانسان خيرا..." (ص 65-66)

"إن مأخذ أفلوطين الأخير هذا على غنوصيي عصره قد يكون أهم مآخذه عليهم وأكثرها دلالة. ذلك أن تصور "الغنوصيين" عن إله خير متعال على العالم وإله فاطر (démiurge) شرير صنع العالم من مادة شريرة يناقض مناقضة عنيفة تصور الفلسفة اليونانية التقليدي عن نظامية العالم وتناسقه الكلي البديع وخيريته التامة إلى حد اعتباره مرآة للعقل الإلهي (ص66).

(هذه النقطة في رد طرابيشي تحتاج إلى توضيح، فهو يقول أن أفلوطين يرد على المسيحيين الذين يسميهم "غنوصيين"، لكن مسألة الإله الفاطر الشرير تحتاج إلى تدقيق: فالمراجع التي اطلعت عليها تنسب فعلا هذا الإله إلى بعض المذاهب الغنوصية. بعض هذه المراجع تتحدث أيضا عن التداخل الحاصل بين بعض المذاهب المسيحية والغنوصية في القرون الميلادية الأولى. والسؤال هو: هل كانت بعض هذه المذاهب المسيحية تقول بالإله الفاطر الشرير لأن العالم مليء بالشر، رغم تعارض هذه النظرة مع تصور الإله في المسيحية (التثليث) كما أقره المجمع المسكوني الأول في نيقيا سنة 325م؟)

"أعقل مستقيل أم عقل مقال؟"

والسؤال الذي يطرحه طرابيشي هنا يتعلق بالسبب الذي جعل الجابري يرى تضاد نومانيوس مع أفلوطين وتناحرهما، "ولم ير وحدة المعركة التي خاضاها على جبهتين، متعاقبتين زمنيا ومتزامنتين مذهبيا، دفاعا عن الثقافة الوثنية الآفلة في مواجهة الثقافة المسيحية الصاعدة" (ص 74).

والجواب هو أن الجابري وقع، تحت تأثير الأب فستوجيير، في أحبولة لعبة إحضار وتغييب كبرى. إحضار هائل للعرفان الهلنستي تحت أسماء شتى (غنوصية، هرمسية، أفلاطونية محدثة بصيغتها "المشرقية")، وتغييب تام للبيان المسيحي. وهذا التغييب هو الذي جعل الجابري يحصر الصراع على امتداد العصر الهلنستي (حوالي ألف سنة عند الجابري عوض ثلاثة قرون في الواقع) بين "طريقة أرسطو وطريقة هرمس" وأن العرفان هو الذي ساد العصر الهلنستي (ص 75).

أما فوستيجيير فيفسر أفول العقلانية اليونانية بعوامل داخلية لهذا الفكر، تتمثل في افتقاده لروح التجريب. "فالعقل اليوناني كان عقلا نظريا خالصا، يربط العلم بالفلسفة الأولى، ويستغني عن التجريب بالاستنتاج. وبمعنى من المعاني يمكن القول إن "العقلانية اليونانية التهمت نفسها بنفسها"" (ص 77). ولم يعد من خيار أمام العقلانية اليونانية، بعد أن قوضت أسسها بنفسها سوى الركون لللامعقول، فأخلى العقل مكانه للوحي (ص 78).

وعلى هذه الأطروحة يرد طرابيشي أن "جميع ظواهر استقالة العقل هذه نتائج وليست أسبابا. "فالمسكوت عنه عند فوستجيير هو دور المسيحية نفسها في تقويض قلعة العقلانية اليونانية، وفي إجبارها للعقل على الاستقالة، أو بتعبير أدق إقالته (ص 79). ففوستيجيير يحول جريمة قتل إلى انتحار (ص 89). ويخصص طرابيشي كثيرا من الصفحات لعرض القمع الذي تعرضت له الفلسفة من قبل المسيحية عندما تحولت إلى إيديولوجية دولة ابتداء من سنة 325م.

"حران"

يرى طرابيشي أن حران تلعب في الابستيمولوجيا الجغرافية الجابرية دورا موازيا لدور أفامية، ولكن في الاتجاه المعاكس. "فكما أن أفامية تولت تصدير "العقل المستقيل" إلى الثقافة اليونانية "البرهانية"، كذلك فإن حران ستتكفل بإعادة استيراده برسم استزراعه في الثقافة العربية الإسلامية "البيانية" (ص 95).وكل ما ينتمي إلى اللامعقول في الفكر الفلسفي والديني في الإسلام يجد مصدره في الفلسفة الدينية الحرانية. ويضع الجابري ضمن هذا اللامعقول كل من ابن سينا وإخوان الصفا والرازي والفارابي والشيعة والصوفية. "ويجمل الجابري بالقول: "بعبارة أعم يمكن القول إن الفلسفة الدينية الحرانية قد لعبت في الفكر الفلسفي الإسلامي الدور نفسه –تقريبا- الذي لعبته الاسرائيليات في التفسير والحديث"". ("نحن والتراث" ص 178-182) (ص 125)

ويرد طرابيشي: "إن هذه الفرقة الدينية المنقرضة (الصابئة)، والتي انحصر كل وجودها الجغرافي في تلك الجزيرة المعزولة التي كانتها حران، والتي عاشت القرون الستة الأخيرة من وجودها التاريخي محصورة بين الحكمين البيزنطي والعربي، والقرون الستة الأخيرة من وجودها المذهبي محاصرة بين سيرورتي التنصر والتأسلم، والتي لم تخلف على أي حال أي تراث لاهوتي مكتوب – نظرا لأن ديانتها الوثنية كانت ذات طبيعة طقوسية خالصة دونما ارتكاز على نص مقدس كما الشأن في الكتابات التوحيدية منها وغير التوحيدية على حد سواء؛ هذه الفرقة الناجية وحدها كسفينة نوح من الطوفان الكوني الذي أغرق قارة الوثنية هي التي يحملها الجابري مسؤولية توريد ثقافة "العقل المستقيل" إلى الحقل التداولي للعقل العربي الإسلامي ومحاصرة النظام البياني لهذا العقل لمسخه إلى محض نظام عرفاني، هو، بين سائر أنظمة المعرفة، أحطها وأكثرها تسفلا في سراديب اللامعقول، على ما يفترض الجابري !" (ص 123-124)

ومن الناحية العقدية يتمثل لامعقول الحرانية، حسب الجابري، في عبادة النجوم وفي الفيض. ويرد طرابيشي أن عبادة النجوم كانت شائعة عند فلاسفة اليونان (وكان الفلاسفة المسلمون، بما فيهم ابن رشد، يعدونها ملائكة). أما فكرة الفيض، فليس هناك دليل على أن الحرانية كانت ديانة فيضية. (ص 126-129)

الفصل الثاني: "من الهرمسية المتوطنة إلى الهرمسية المترحلة"

"في تكوين العقل العربي، وفي إطار محاكمة "العقل المستقيل" في الموروث القديم وفي الثقافة العربية الإسلامية معا، يقدم لنا (الجابري) ثلاث عينات من (...) القياس المغالطي الذي يحكم على الغابة بالشجرة، وعلى البنية الكلية بواحد من عناصرها الجزئية. فهو يصدر حكما قطعيا بالهرمسة على كل من إخوان الصفاء والحلاج والشيعة والجهمية لمجرد تبني الأوائل "للمبدأ الهرمسي" القائل بأن "العالم إنسان كبير، والإنسان عالم صغير"، ولمجرد تبني الثاني "للعبارة الهرمسية" القائلة إن "الله خلق آدم على صورته"، ولمجرد تبني الشيعة – والجهمية من المعتزلة - "للإلهيات الهرمسية" القائلة بأن الله لا يعرف إلا عن طريق السلب". (ت. ع. ع، ص 199 و204) (ص 140)

- "العالم إنسان كبير، الإنسان عالم صغير"

"ونحن لا نماري في أن إخوان الصفاء قد تبنوا في عدة مواضع من رسائلهم الصيغة المشهورة عن التناظر البنيوي والوظيفي ما بين الإنسان والعالم واتخذوها عدسة رؤية لفهم البنية الكوسمولوجية للعالم والبنية التشريحية للإنسان في آن معا. ولكن السؤال، كل السؤال: هل يكونون بذلك قد قدموا الدليل على تهرمسهم التام؟ وهل هذه الصيغة هي أصلا صيغة هرمسية "تامة" بحيث إن الأخذ بها ينهض دليلا كافيا على التهرمس؟ (ص 141)

وبما أن الجابري يحيل إلى "وحي هرمس مثلث العظمة" لفوستجيير، راجع طرابيشي هذا المرجع ليكتشف أن صيغة "العالم إنسان كبير والإنسان عالم صغير" هي الصيغة الفلسفية النموذجية التي اعتمدت في العصر الهلنستي لبيان "وحدة الكون وترابط أجزائه". لكن هذه الصيغة ليست هرمسية، ولا حتى هلنستية حصرا. فهي الصيغة "الأشهر بإطلاق في العصور القديمة، لدى المسيحيين كما لدى الوثنيين، وهي التي ستبقى متداولة على امتداد العصر الوسيط". (ص 142)

كما لاحظ جورج غوسدورف في كتابه "أصول العلوم الإنسانية" أن المماثلة بين العالم الأكبر الفلكي والعالم الأصغر البشري ليست من صنع مدرسة فكرية بعينها بقدر ما هي "صورة كلية للمعرفة مطابقة لمرحلة عامة من تطور الذهن البشري..." ("أصول العلوم الإنسانية" ص 25) (ص 143).

توجد هذه الفكرة عند أبقراط (ص 144)، وعند الكندي (ص 145)، وابن باجة والجاحظ والبغدادي (ص 146)، ومسكويه (ص 147).

- " حديث: "خلق الله آدم على صورته"

"يقول (الجابري) بمنتهى اليقين: "معلوم أن الفلسفة الدينية الهرمسية تقول بأن "الله خلق الإنسان على صورته، أي على صورة الله نفسه". ويعزز هذه المصادرة بأخرى مضاعفة بقوله: "إن ما يميز غنوصية الهرمسية هو تأكيدها على الأصل السماوي – الإلهي للنفس. والنصوص الهرمسية تشرح ذلك من وجهين: إما القول بأن النفس هي من أصل إلهي لكونها "بنت الله" حسب حرفية بعض النصوص، وإما القول بأنها مزيج، من عناصره "شيء من الله نفسه" ( ت. ع. ع، ص 200 و 178 وهنا يحيل الجابري قارئه إلى فوستيجيير (وحي هرمس... م2، ص 34) (ص 149)

يرد طرابيشي قائلا: "إننا لا نبالغ إذا قلنا إننا هنا أمام تزييف مزدوج: للإشكالية وللنص المستشهد به. (ص 149)

تزييف النص يكمن في كون فوستيجيير قدم للمقطع الذي يستشهد به الجابري قائلا أن عقيدة الأصل السماوي للنفس مقتبسة من مباشرة من فادن (إحدى محاورات أفلاطون). فالغنوص الهرمسي بعقيدتها ومنهجيتها عند فوستيجيير ليست سوى "عودة إلى أفلاطون"، وهي "عودة قد أملاها المناخ الروحي للعصر". (وحي هرمس... م3، ص 26-34) (ص 151)

أما تزييف الإشكالية "إنما يهدف إلى إصدار حكم بالتهرمس على جميع الفلاسفة الأفلاطونيين والأفلاطونيين المحدثين في الثقافة العربية الإسلامية، بدءا بالرازي وإخوان الصفاء وانتهاء بابن سينا والغزالي ومرورا –بطبيعة الحال- بالفكر الصوفي. (ص 150)

والسؤال، لماذا اختلق الجابري تأويلا هرمسيا للآية التوراتية "خلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه". مع العلم أنه يستشف من نص الجابري أنه يجهل أن هذه آية توراتية، كما يجهل أن "خلق الله آدم على صورته" حديث نبوي وأنها ليست آية قرآنية. كما أن الجابري لا يقبل إلا التأويل السائد عند أهل السنة الذي يجعل الضمير في "صورته" يعود إلى الإنسان، فيكون المعنى أن الله خلق الإنسان على الصورة التي خلقها بها، أ التي أرادها له ( ص 152-153)

وقد خصص طرابيشي عدة صفحات لعرض السجال حول لمن يعود الضمير في "صورته"، بما فيه السجال داخل اليهودية والمسيحية، ليستنتج أن هذا السجال لم يكن قائما بين الهرمسيين ومعارضيهم. "و إذا كانت الهرمسية، من خلال تدخلها المتميز هذا على الإشكالية الآدمية، لا تثبت انتماءها الهرمسي بقدر ما تثبت انتماءها إلى المناخ الديني لعصرها، فهل يكون الحلاج، بتدخله بدوره على هذه الإشكالية، قد أثبت "تهرمسه" كما يرميه شانئه وشانئ الفكر الصوفي بجملته الذي هو ناقد العقل العربي، أم يكون قد أثبت "إسلاميته"، أو في أدنى الأحوال انتماءه إلى الفضاء العقلي المشترك للديانات التوحيدية الثلاث؟ (ص 153-162)

- "لاهوت النفي"

استنادا إلى فوستيجيير يقول الجابري أن الإلهيات الهرمسية تقول ب "إله متعال لا يصدق عليه وصف ولا تدركه العقول ولا الأبصار، وبالتالي فهو لا يعرف إلا بالسلب: إنه منزه تمام التنزيه عن أية مشابهة بينه وبين أي شيء آخر في العالم... (ت. ع. ع، ص 176-177) (ص 167). لكنه استشهاد غير صحيح، ففوستيجيير (وغيره) ميز تمييزا حاسما بين الإله المعلوم في المذاهب الهرمسية المتفائلة والإله المجهول في المذاهب الغنوصية المتشائمة. (ص 169) والأمر سواء عند أفلاطون، ففي "طيماوس" و"القوانين" تغلب فكرة نظامية العالم كطريق استدلالي لمعرفة الإله الكوني، وفي "الوليمة" و"بارميندس" تغلب فكرة الإله المتعالي الذي تكل عنه المعرفة الحسية والعقلية على حد سواء. (ص 171)

وانطلاقا من هذه القراءة يزعم الجابري أن "الهرمسية حاضرة في وقت مبكر ضمن أطروحات بعض المتكلمين الأوائل، وبكيفية خاصة الغلاة والروافض والجهمية... وبالفعل حفظت لنا كتب الفرق والمقالات كثيرا من الأطروحات التي قال بها الغلاة والروافض والتي لا يمكن الشك في هرمسيتها... (ص 166). وبالرجوع إلى كتاب "مقالات الإسلاميين" للأشعري الذي يستشهد به الجابري يتبين أن الأشعري لم يقل "إن الشيعة كلها" أنكرت "إمكانية التوصل إلى معرفة الله بطريقة النظر والقياس". فهناك من الشيعة من يقول العكس (ص 169)

وبما أن الجهمية كانوا طليعة متقدمة للمعتزلة في التنزيه الإلهي والتعطيل من الصفات والأخذ بمنهج السلب والقول بخلق القرأن، (ص 172-174) يختم طرابيشي قائلا: "ألا يكون إذن ناقد العقل العربي قد هرمس المعتزلة بهرمسته الجهمية؟" (ص 175)

والخلاصة أن القول باستحالة معرفة الله بالعقل ليست أطروحة هرمسية حصرا حتى ينعت بالهرمسية كل من يقول بها.

الفصل الثالث: "الموروث القديم: "الفلاحة النبطية" نموذجا"

"يفرد مؤلف تكوين العقل العربي فقرة صغيرة، لكنها نموذجية في دلالتها على الكيفية الاستخفافية التي يتعامل بها مع ثقافات ذلك الآخر الموصوفة تارة بأنها "ركام"، وطورا بأنها "خليط" من العقائد والفلسفات والعلوم التي انتقلت إلى الدائرة العربية الإسلامية عبر الفتوحات ودخول البلدان المفتوحة تحت راية الدولة الجديدة، دولة الإسلام". (ص 177- 178)

تقول الفقرة: " لم يكن هذا الطابع الهرمسي الذي حمل "العقل المستقيل" إلى الثقافة الإسلامية مقصورا على كيمياء جابر بن حيان والرازي وفلسفتهما. بل إن العلم الثاني الذي انتقل إلى العرب من الموروث القديم كان علما سحريا هرمسيا لاعقلانيا كذلك. إنه علم التنجيم ( ...) وليس من الضروري، كذلك، الوقوف هنا مطولا عند علم هرمسي آخر هو: "الفلاحة النبطية" الذي يعرضها (كذا في النص) كتاب بالاسم نفسه يقول عنه أبو طالب أحمد بن الحسين الزيات الشيعي التوفي سنة 340هج إن ابن وحشية أملاه عليه هو ومجموعة من كتب السحر والطلسمات. إن كتاب "الفلاحة النبطية" كتاب هرمسي تماما كما أشار إلى ذلك ماسينيون (...) فالكتاب لا يدرس النبات لذاته، بل من أجل وظائفه السحرية "الطبية"، صادرا في ذلك عن نفس التصور الهرمسي للكون المبني على تبادل التأثير بين النجوم والكائنات الأرضية، وفي مقدمتها النباتات. إنها "الفلاحة التنجيمية" La botanique astrologoque بتعبير فستوجيير". ("تكوين العقل العربي"، ص 141) (ص 178).

"كتاب الفلاحة" كما سماه ابن وحشية مترجمه من الآرامية إلى العربية، هو من تأليف قوثامي ذي الأصل النبطي. وهو كتاب " في علم الزراعة، مع ما يستتبع هذا العلم من فنون تتصل بالتلقيح والتطعيم والتقليم والتسميد، ومن علوم تتصل – كما تقول عناوين أبواب الكتاب – ب "استنباط المياه وهندستها" و "كيفية حفر الآبار" و "تغيير طعم المياه وإصلاحها" و "طبائع الأرضين وعلاجها"، و "إصلاح الضياع" و"دفع الآفات" و"معرفة العلة في الفساد العرض للنبات". (ص 216)

وعندما تطرق الجابري لهذا الكتاب لم يكن قد حقق وطبع بعد (وهذا حسب طرابيشي عذر تخفيفي لكنه لا يلغي الذنب المزدوج المتمثل في إصدار حكم دون الرجوع إلى النص نفسه ونعته بالهرمسية استنادا إلى الحكم الخاطئ لماسينيون. ص 182). فضخامة الكتاب، إذ يقع في نحو ألف وخمسمئة ورقة، "حالت بين ناشره الأول، فؤاد سزكين، وبين تحقيقه، فاكتفى بطبعه مصورا في ثلاث مجلدات عن مخطوطة موجودة في إستانبول ومستنسخة في القرن الثامن للهجرة. ثم كانت الخطوة الثانية، التي لا نتردد في أن نصفها بأنها جبارة، عندما أقدم توفيق فهد على طبع الكتاب محققا عن نحو من عشرين مخطوطة، وأصدره في جزئين في ألف وخمسمئة صفحة من القطع الكبير، واستغرق العمل في تحقيقه عشرين سنة ونيف، وفي طبعه مع مقدماته وفهارسه ست سنوات" (ص 182)

ولن أتطرق في هذا التلخيص للقضايا التي تطرق لها طرابيشي والمتعلقة بتاريخ الكتاب (الذي يعود تأليفه إلى القرن الثاني الميلادي حسب القرائن التي عاينها طرابيشي في الكتاب)، رغم أهميتها، لأركز على الجزء الذي خصصه ل "البنية المعرفية للفلاحة النبطية" (ص 233-268)، لأنه يرد مباشرة على مآخذ الجابري على الكتاب.

ويلخص طرابيشي مآخذ الجابري قائلا: "رأينا أن لناقد العقل العربي، في مسعاه إلى إنماء الفلاحة النبطية إلى ثقافة العقل المستقيل في الموروث القديم، مطاعن ثلاثة على هذا الكتاب الذي ينسبه، بغير ما تدقيق علمي البتة، إلى ابن وحشية. فهو يدمغه أولا بأنه "كتاب هرمسي تماما"، ويدرجه في عداد "كتب السحر والطلسمات"، وينسبه، ثالثا، لا إلى علم الفلاحة، بل إلى "الفلاحة التنجيمية". (ص 233)

وللرد على هذه المطاعن الثلاثة يعرض طرابيشي مواقف الكتاب من النبوة والوحي، ومن السحر والطلسمات، ومن التنجيم وعلم الغيب، وأخيرا من المنهج العلمي متمثلا في القياس والتجربة.

- النبوة والوحي

"لا شك أن كتاب الفلاحة النبطية يفسح مجالا واسعا للأدبيات النبوية وشبه النبوية. أولا بحكم انتمائه الأيديولوجي والإبستيمولوجي معا إلى العصور القديمة التي كان يصعب عليها أن تفصل عالم البشر عن عالم الآلهة. وثانيا لأن مدار النبوات البابلية هو على علم الفلاحة كما سبق لنا البيان. ولكن أسماء الأنبياء وأشباه الأنبياء التي تتردد عشرات المرات، بل مئاتها، في متن الفلاحة النبطية هي أسماء بابلية، خلا إسقلابوس، "رسول الشمس"، الذي تمت تبيئته، كما تقدم البيان أيضا، في العصر الهلنستي. وفي مقدمة هؤلاء الأنبياء البابليين دواناي، "سيد البشر"، ومن بعده أدمي، "أبو البشر"، وكذلك أنوحا، "رسول عطارد"، وأخيرا إبراهيم الكنعاني. وإلى هؤلاء يضاف أشباه الأنبياء من حكماء البابليين القدامى مثل ينبوشاد وضغريث، شريكي قوثامي في تأليف الفلاحة النبطية." (ص 234) "نحن، إذن، أمام ديانة تاريخية حقيقية، وأبعد ما نكون عن تلك الديانة المصطنعه – والتي ما فلحت في أن تصير ديانة- التي هي الهرمسية. (234)

"والواقع أنه ما كان لمؤلف الفلاحة النبطية أن يعترف بوحي هرمس المصري، وهو الذي لا يعترف بوحي أنبياء بابل أنفسهم، وفي مقدمتهم "أدمي" "رسول القمر". (ص 236) وكان قوثامي يميز بين الخطاب الفلسفي البرهاني المكتفي بذاته والخطاب النبوي العرفاني المحتاج باستمرار إلى التأويل. "بل يميز أيضا تمييزا دقيقا وسديدا نسق التعليل الذي يصدر عنه كل منهما. فالخطاب النبوي هو على الدوام خطاب غائي، يفسر الظاهرات الطبيعية بالمقاصد المبتغاة منها والمتأدية إليها، بينما الخطاب الفلسفي خطاب آلي يفسر الظاهرات، لا بإرادات لدنية، بل بقوانينها الطبيعية. هكذا يقول :" إن الأنبياء مجمعون على أن كل ما ضر أبناء البشر من الحشرات والدبيب ذوات السموم إنما حدثوا وتكونوا من أفعال الكواكب، لا عن قصد الكواكب للإضرار بالناس، لكن عقوبات منهم لهم على ذنوب كانت منهم وأساءت إلى أنفسهم (...) وأما حكماء الكنعانيين والكسدانيين فإنهم يرون أن هذه كلها مضافة إلى الاتفاقات الدائمة (= لنقرأ القوانين)، ومعنى الدائمة التي لا تتغير عن مجاريها... وإن أمر هذه الاتفاقات شيء ظريف عجيب، وليس أقدر أبوح بما عندي في ذلك، إذ كان في شرحه فساد نظام سياسة الأنبياء للناس...(ص 243)

- "السحر والطلسمات"

"ليس لنا أن نماري في أن الفلاحة النبطية يفسح مجالا واسعا، في استطراداته خارج مدار الفلاحة والمنابت، للسحر والسحرة. لكن هذا المجال، على اتساعه، مجال سالب تماما. فليس أكره للسحر ولا أعدى للسحرة من مؤلفات قوثامي في تصريحات له تند عن الحصر. (ص 245) "ويبدو أن واحدا من الأسباب التي زادته مقتا للسحر والسحرة خلافه، ذي الطبيعة اللاهوتية، مع كهنة شريعة إيشيتا. فقد كان السحر واحدة من ممارساتهم الأكثر شيوعا يمخرفون به على أتباعهم، وينافسون به طب الأطباء وعلم علماء النبات... هكذا يقول في معرض الكلام عن علاج الأرض الحريفة "المهلكة لبذر كل زرع قبل أن ينبت": "إذا أردتم علاج هذه الأرض لردها إلى الصلاح، فإن لها طرقا في ذلك، بعضها طبيعية، وهي المجمع عليها، وهي طريق الفلاحين وبالفلاحة، وبعضها سحرية، وهي طرائق السحرة... وأنا أذكر الطبيعية التي هي طريق الفلاحين وبالفلاحة كيف يعالج بها هذه الأرض حتى ترجع للصلاح... أما علاج هذه الأرض الذي هو من أعمال السحرة فإني لا أرى ذكره في هذا الكتاب ... (ص 246)

- "التنجيم"

"إن موقف مؤلف الفلاحة النبطية الرفيع العقلانية من السحر والطلسمات يتكرر – أو يكاد – في موقفه من التنجيم، فينكره كعلم ويعتده، مع سائر أنواع الكهانة، ضربا من المخرقة.(ص 250)

- "القياس والتجربة"

"قد نستطيع أن نحدد، بمنتهى الاقتضاب، طبيعة النظام المعرفي للعصور القديمة والوسيطة بأنه ينطلق على الدوام من أصل أول، غالبا ما يخلع عليه صفة القداسة والوحي النبوي، ثم يفرع أو يقيس عليه، وهذا بالمضادة مع النظام المعرفي للأزمنة الحديثة الذي لا يعمل بمنطق التفريع والقياس، ولا يرتد إلى الأصل – إن ارتد إليه- إلا ليفككه، ويستغني عنه بحدس أول يحققه ويتحقق منه بالتجربة. وبقدر أكبر من الاقتضاب أيضا نستطيع أن نقول إن الأس الأول لتوليد المعرفة في العصور القديمة هو القياس، بينما هو في الأزمنة الحديثة التجريب".

"ومن منطلق هذا التحديد الإجمالي نستطيع أن نقول إن قوثامي (...) يحتل موقعه الإبستيمولوجي وسطا بين الأزمنة القديمة والحديثة. فإلى الأولى ينتمي بنزعته للقياس، ولكن إلى الثاني ينتمي بنزعته للتجريب. وهذا السبق لا يدين بع لعبقرية خاصة به، بل لطبيعة موضوعه بالذات: أي علم الفلاحة. ولا شك أن علمه الفلاحي هذا يداخله بالاستطراد كثير من الإلهيات. ولكن (...) الإلهيات ليست هي القالب المسبق لتفكيره، ولا منهجها التجريدي-الاستنتاجي هو منهجه. فعلم الفلاحة هو علم عملي بماء معنى الكلمة، وشرط الإنتاجية هو التجريب. (...) وكثير ما يتفق لقوثامي أن يقول: جربته فأفلح، أو جربته فلم يفلح. بل قد يتفق له أحيانا أن يعلق الحكم لأن التجربة غير متاحة له في المدى المتاح من عمره. ولهذا يرهن حكمه بتجربة الأجيال اللاحقة من الفلاحين والأكرة". (ص 258-259)

"إن نزعة قوثامي التجريبية قد مكنته من تجاوز سقف العقلانية المتاح لعصره. فقد رفض علم الغيب والتنجيم والسحر ومذهب الفاعلية الإرادية للكواكب، وقال بتفسير طبيعي لظاهرات الطبيعة، وأرسى الأساس النظري لأول علم تجريبي خالص في التاريخ: علم الفلاحة، وصاغ نظرية في المعرفة أكثر تقدما بما لا يقاس من النظرية الأرسطية في العقل الفعال التي أسرت في شرنقها النظام الإبستيمي للعصر الوسيط على امتداد أكثر من ألف سنة". (ص 264)

وقد كان لكتاب الفلاحة النبطية تأثير كبير في المغرب والأندلس. فخصه ابن خلدون بعدة مقاطع من مقدمته. وحذر ابن ميمون اليهود من مطالعته. وقد لخصه أبو القاسم الزهراوي (ت 400هج) لأنه لم يكن يوجد في حينه كتاب في الزراعة. واستشهد به المجريطي وابن العوام. وضمن ابن البيطار كتابه "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية" عددا من معطيات "الفلاحة النبطية". واختصره إبراهيم الأوسي (ابن الرقام). وقد نوه الجابري بكون ابن بصال أسس علم الفلاحة التجريبي، لكن "ما كان له أن يفكر بإجراء ما أجراه من تجارب شخصية في ميدان الفلاحة لولا أنه أخذ رأس الخيط -كما يقال- من الداعية الكبير إلى التجريب الذي كانه قوثامي". (ص 267-268)
الفصل الرابع: "يوطوبيا إخوان الصفاء"

"أول من يطبق الجابري عليهم من متعاطي الفلسفة في الإسلام منهجيته الابستيمولوجية الجغرافية هم إخوان الصفاء. ففي قسمته المانوية للأفلاطونية المحدثة، اليونانية ثم العربية، إلى مدرسة مغربية عقلانية ومدرسة مشرقية لا عقلانية، لا يتردد في أن يضع إخوان الصفاء في رأس قائمة المشرقيين الذين أخذوا أخذا مباشرا عن "أساتذتهم الحرانيين"". فالإخوان قد اتبعوا "التقليد الحراني المشرقي" وتبنوا "تصورا للكون يتفق تماما مع الفلسفة الدينية الحرانية" (نحن والتراث، ص 197-201). وفي الصراع الفلسفي المزعوم الذي نشب بين مناطقة بغداد "المغربيين" واشراقيي خراسان "المشرقيين"، والذي كان تعبيرا عن "الصراع التاريخي بين الدولة العباسية وأيديولوجيتها السنية من جهة والحركة الإسماعلية وفلسفتها الباطنية من جهة ثانية"، كان إخوان الصفا أول من تولى زعامة المدرسة المشرقية قبل أن تؤول هذه الزعامة في وقت لاحق إلى ابن سينا الذي كان في الأحوال جميعا –كما يؤكد الجابري بمنتهى الوثوق- من خريجي المدرسة الإخوانية". (ص 269)

- "من الهرمسة إلى السمعلة"

"هنا ينشأ سؤال: إذا كانت رسائل إخوان الصفاء تشكل "مدونة هرمسية كاملة" (نحن والتراث، ص 202)، فكيف تم تمريرها إلى الثقافة العربية الإسلامية؟ فالهرمسية (...) فلسفة دينية وثنية، فكيف أمكن تهضيمها لثقافة دينية توحيدية مثل الثقافة العربية الإسلامية؟ إن الحل الذي يجده ناقد العقل المشرقي لهذا الإشكال هو السمعلة. فعنده أن الإسماعلية هي الثوب التنكري الذي تزيت به الهرمسية لتغزو الحضارة الإسلامية من داخلها". (ص 270-271)

وهنا يطرح طرابيشي مسألة سمعلة إخوان الصفاء التي ليست من اختراع الجابري. فالدعاة الإسماعليون المتأخرون هم من قام ب "عملية وضع يد حقيقية" (عملية استيلاء) على إخوان الصفاء. تبعهم في ذلك "المستشرقون والمؤرخون "الرسميون" للفلسفة العربية الإسلامية". (ص 271) تبعهم في ذلك الباحثون المعاصرون من ذوي الأصول الإسماعيلية (عارف تامر ومصطفى غالب) (ص 273).

يرد طرابيشي أن هذا الزعم ينطوي على مغالطتين:

- مغالطة كرونولوجية: "فمعلوم أن خلافة المأمون دامت عشرين عاما ما بين 198 و218هج. وبما أن المبادرة إلى تأليف الرسائل جاءت ردا مزعوما على مسعى المأمون إزاغة "المسلمين عن الشريعة المحمدية إلى علوم الفلاسفة"، كان لا مناص من "تعييش" صاحبي المبادرة، الإمامين المستورين عبد الله وابنه أحمد، في زمن المأمون وإلى ما بعده. وهكذا يقول لنا الجابري أن الإمام عبد الله، الذي أطلق إشارة البدء لتأليف الرسائل، قد توفي سنة 212هج، وإن ابنه الإمام أحمد الذي أتم تأليفها ولخصها في الرسالة الجامعة قد توفي سنة 229هج. والحال أن من توفي في سنة 212هج هو الإمام الابن أحمد، وهذا بإجماع المصادر الإسماعلية وغير الإسماعلية. أما الإمام الأب عبد الله فكانت وفاته قبل ذلك، وإن في سنة غير معلومة. (ص 278) وبما أن الرواية الإسماعيلية التي يتبناها الجابري تقول أن الإمام أحمد لم ينبر لتصنيف الرسائل إلا عندما افتضح أمر المأمون الذي احتال على العلويين وارتد عن لباس الخضرة، شعار العلويين، إلى لباس السواد، شعار العباسيين، عقب وفاة الإمام علي الرضا سنة 204 هج، (وهي السنة التي افتتح فيها المأمون ورشة الترجمة في بغداد). فكيف يمكن للإمام المستور أحمد أن يؤلف في مدة ثماني سنوات الرسائل الإخوانية بصفحاتها الثلاث آلاف ويذيعها بين الناس؟ (ص 279)

- مغالطة أيديولوجية: وتتمثل في قول الجابري أن مهمة الإخوان كانت "الدفاع عن العقل المستقيل باستمرار وبأساليب مختلفة" فقد كان لا مناص من أن يهاجموا ممثلي "العقل الكوني" الذين هم الفلاسفة، وفي مقدمتهم أرسطو الذي تبرأوا منه ومن منطقه الذي أعلنوا عن انتفاء الحاجة إليه في مدينتهم الروحانية (ص 280). ويلاحظ طرابيشي أن كل شواهد الجابري صحيحة، "لكنها بالإبتسار وبالبتر المتعمد عن أسيقتها، ملوية الأعناق بحيث تنطق بعكس منطوقها" (ص 281). فليس صحيحا أنهم هاجموا المتكلمين "لكونهم يستعملون قياس الغائب على الشاهد"، بل لكونهم يسيئون استعماله (مع الإشارة في الهامش إلى كون الجابري يشيد بابن رشد لأنه أنكر على المتكلمين استعمال هذا القياس). (ص 281-282). وليس صحيحا أنهم هاجموا الفلاسفة، فالعكس تماما هو الصحيح إلى درجة يجعلون معها الفلاسفة عدلاء للأنبياء (ص 283). ولا أنهم دعوا تابعهم إلى ألا يقلد "أقاويل الفلاسفة"، فالفلاسفة عندهم "ورثة الأنبياء" و"الفلسفة أشرف الصنائع البشرية بعد النبوة". وإن نددوا باختلاف أراء الناقصين من الفلاسفة وتناقض أقاويلهم، فلأن الحقيقة عندهم واحدة وإن نطقت بلسانين: النبوة والفلسفة (ص 284). وليس صحيحا أنهم عادوا المنطق بل جعلوا منه "أشرف الأدوات" (ص 285) أما قولهم أن المنطق "إنما يحتاج أليه من الناس أولئك الذين ما تزال نفوسهم مغمورة في الأجساد"، على حين لا تحتاجه البتة "النفوس الصافية غير المتجسدة"، و"النفوس الفلكية التي صفت من درن الشهوات الجسمانية". فهم لا يعنون بذلك المنطق بمعناه الفلسفي بل المنطق اللفظي، أي الكلام وعبارة اللسان " (ص 286). "ونظرا إلى النزعة الفيثاغورية والأفلاطونية المحدثة التي يصدر عنها الإخوان، والتي تحكمها أصلا وأساسا ثنائية النفس والجسد(...) فقد تصوروا في قبالة الإنسان البشري العادي الذي لا يستطيع أن يستغني بلغة النفس، التي هي الفكر، عن لغة الجسد التي هي اللفظ، تصوروا إنسانا أعلى من ماهية شبه إلهية، قادرا على أن يتحرر من أسر الجسد والطبيعة (...) وأن يدخل مع أنداد له و"إخوان" له من البشر المتسامين فوق الشرط البشري في حوار فكري وتواصل روحي خالص لا يمر بقناة اللغة وكدورتها".(ص 287)

- "حقيقة إخوان الصفاء": وهنا يطرح طرابيشي عدة أسئلة: من هم إخوان الصفاء؟ لما تسموا بهذا الاسم؟ من هم المؤلفون الحقيقيون للرسائل؟ متى كان تاريخ التأليف؟ ولأي غرض؟

لم يكن في البداية لاسم إخوان الصفاء أية دلالة باطنية. فهو مستقى من رموز المملكة الحيوانية ل"كليلة ودمنة" وما كان بينهم من تضامن وتآزر أنجاهم من شباك الصائدين. و "كليلة ودمنة" كتاب ذي "طابع "علماني" مكشوف" (ص 289). أما المؤلفون فلم يكونوا يؤلفون جمعية سرية بل جمعية مغفلة. والفارق يكمن في كون السرية تلزم الأشخاص والأسماء، أما الغفلية فتطال الأسماء دون الأشخاص، وهي علامة على نشاط يريد نفسه جماعيا. وقد ورد ذكر خمسة من أسمائهم في الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي. أولهم زيد بن رفاعة، الذي كان التوحيدي يغشى مجلسه، وأبو سليمان محمد بن معشر البشتي (المعروف بالمقدسي)، وأبو الحسين علي بن هارون الزنجاني، وأبو أحمد المهرجاني، والعوفي. والتوحيدي يعرف ثلاثة منهم: زيد بن رفاعة والمقدسي والزنجاني (ص 291-292). أما تاريخ الـتأليف فيعود إلى عصر التوحيدي بالذات (حوالي سنة 373 هج). أما الشاهد "القديم" الوحيد الذي يعتمده الجابري لتكذيب شاهد العيان (التوحيدي) فهو شاهد ملفق مصدره عارف تامر (وهو باحث سوري معاصر من الإسماعلية) وهو نص مزعوم للقاضي النعمان بن حيون. وغاية هذا الشاهد تقديم تاريخ تأليف الرسائل إلى منتصف القرن الثالث في حين أنها كتبت في الربع الأخير (ص294-296).

وبالرجوع إلى رسالة "الأصول والأحكام" لحاتم بن عمران، الذي لقي مصرعه سنة 497هج، يتبين أن رسائل إخوان الصفاء، حتى نهاية القرن الخامس على الأقل، لم تكن مدرجة ضمن البرنامج المذهبي للدعاة الإسماعيليين، ولا من قبل الأجهزة الأيديولوجية للدولة الفاطمية وهي في أعز مجدها. وما يستشف من رسالة حاتم بن عمران هو أن خصوم الإسماعيلية من "أهل السنة والجماعة" هم من نسب رسائل إخوان الصفاء للإسماعلية. وغرضهم ضرب الفلسفة والإسماعيلية معا (ص 299-300).

والقراءة الداخلية للرسائل تبين استحالة تأليفها قبل النصف الثاني للقرن الثالث. فهي تستشهد بابن الرومي والمتنبي. وتذكر الدولة السامانية (261 إلى 379هج). وتذكر أبي معشر بن محمد المنجم (توفي سنة 272هج. وتذكر الأشاعرة. وتستشهد بالفارابي. وشرحهم لكتاب البرهان لأرسطو الذي لم يترجم إلا في عصر الفارابي. وطابعها الموسوعي (ص 302-306).

- "الغرض من تأليف الرسائل": "طبقا للرواية الإسماعيلية، بتأويلها الجابري، فإن الإمام المستور أحمد لم يأخذ المبادرة إلى تأليف رسائل إخوان الصفاء إلا ليفسد خطة المأمون في تبديل "شريعة جده" بزخرفتها ب"الفلسفة وعلوم اليونانيين". وبالمقابل، وطبقا للرواية التوحيدية، فإن إخوان الصفاء، لم يأخذوا بدورهم المبادرة إلى تأليف رسائلهم إلا بهدف "غسل الشريعة وتطهيرها بالفلسفة" بعد أن "دنست بالجهالات واختلطت بالضلالات". وواضح أن كلا من الروايتين تنقض الأخرى نقضا عنيفا."(ص 306)

ثم يعرض طرابيشي المساجلة التي جرت بين المقدسي (الإخواني) وأبي سليمان السجستاني، كما عرضها أبو حيان التوحيدي ليبين أن الجابري قرأها بحيث تتطابق مع أطروحته بحيث قولها عكس مضمونهأ. (ص 307-317) وبعد العرض يطرح السؤال: "لنأت أخيرا، قبل طي صفحة مساجلة السجستاني ضد إخوان الصفاء، إلى السؤال الحاسم: هل كان إخوان الصفاء إسماعيليين أو دعاة مروجين للأيديولوجيا الإسماعيلية كما يؤكد الجابري بمنتهى الوثوق وبمنتهى الطمأنينة إلى المصادر الإسماعيلية المتأخرة؟" ويجيب بأنه لو صح ذلك لما فوت السجستاني (محامي دفاع "الأيديولوجية السنية للدولة العباسية" كما يسميه الجابري) على نفسه "ضبطهم في الجرم المشهود"، خاصة وأن الإسماعلية كانت في فترة المناظرة (حوالي 375هج) قد تحولت إلى خطر أيديولوجي وسياسي داهم للدولة العباسية. (ص 317)

-"نوافي التسمعل": تحت هذا العنوان يقوم طرابيشي بجرد الدلائل على أن إخوان الصفاء لم يكونوا إسماعيليين وتتمثل في أ) "التسوية بين الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين" (ص 318). ب) "التسوية بين عثمان وعلي في المقتل" (ص 320). ج) "توقير عائشة" (ص321). د) "التسوية بين النواصب والروافض" (السنة والشيعة) (ص 322). ه) "نقد التشيع" (ص 323). و) "نقد المسبعة" (الذين يقدسون الرقم سبعة) (ص 326). ز) "نقد الأشاعرة" (دليل غير مباشر) (ص 329)

- "نظرية المعرفة": والفرق بين إخوان الصفاء والإسماعيلية يتمثل في غياب "الوساطة الإمامية" الحاضرة كل الحضور في نظرية المعرفة الإسماعلية (ص 337)

-"نظرية الفيض": "إذا صدقنا الإبستيمولوجيا الجغرافية الجابرية، فإن "الصيغة المشرقية" من الأفلاطونية المحدثة تفترق عن "الصيغة المغربية" من حيث "الكيفية التي وظفت بها كل منهما نظرية الفيض". فالتوظيف المشرقي، بحكم أصله الحراني المزعوم، كان لا بد أن يتبنى "نظرية العقول العشرة". أما التوظيف المغربي، لخاضع لمعطيات العقيدة المسيحية خاصة، في روما مع أفلوطين، فكان لا بد أن يحصر الفيوضات بثلاثة توافقا مع عقيدة "التثليث المسيحي". (يلاحظ طرابيشي في الهامش أن الجابري قام "بتنصير" لأفلوطين بالاستباق الكرونولوجي لعقيدة التثليث المسيحي) (ص 340). ويرد طرابيشي بأن إخوان الصفاء إن يكونوا قالوا بالفيض فإنهم ما قالوا بالعقول العشرة، في حين أن الإسماعيليين قالوا بالعقول العشرة لكنهم أبوا القول بالفيض. (ص 341)

-"نظرية الإمامة": الإسماعيلية مثل سائر الشيعة مذهب إمامي، في حين أن إخوان الصفاء طعنوا من حيث المبدأ في معيارية قضية الإمامة في التفرقة بين فرق الأمة. (ص 347) والإمامة عندهم (بصفتها ضرورة للاجتماع البشري) لا تقوم على مبدأ الوراثة، وتبقى المفاضلة بين المرشحين للإمامة مفتوحة. وإذا اجتمعت الخصال في واحد يصلح ليكون خليفة، أما إذا تفرقت الخصال في جماعة فالإمامة يمكن أن تكون جماعية. (ص 351) كما ميزوا بين خلافة النبوة وخلافة الملك وبذلك بذروا بذرة أولى "للعلمانية" في الثقافة العربية. وقد ميزوا بين خصال النبوة وخصال الملك. (ص 352)

- "الانفتاح المذهبي". على عكس الإسماعيلية التي تميزت، خلافا لسائر أهل الفرق في الإسلام، ببلورتها بجسم نظري متماسك مكتف بذاته ناف لما عداه. (ص 356) في حين أن إخوان الصفاء يشترطون في قارئ رسائلهم ألا يأتيهم من أفق مسدود، وأول ما يتعهدون له به ألا يقودوه إلى أفق مسدود. (ص 359) فهم يتميزون ب: أ) الرؤية الكونية والتحلل من خصوصية الزمان والمكان داخل الشريعة الواحدة. ب) الانفتاح على الشرائع الأخرى. ج) الانفتاح على جميع أشكال التعددية (دينية، مذهبية، إثنية، ثقافية) التي عرفتها الحضارة العربية الإسلامية في عصرها الذهبي. د) التأكيد على وحدة الأديان حتى وإن اختلفت الشرائع. ه) معارضة التعصب الإطلاقي النزعة من موقع النسبية المتبادلة. و) قلب منطق الفرقة الناجية وتكريس شرعية الاختلاف. (ص 360-366)

- "المدينة الإخوانية: أسياسية أم روحانية؟" يقول الجابري: "لقد كان هدف إخوان الصفاء من بناء رسائلهم الإحدى والخمسين على "علم النفس" واضحا مكشوفا: إنه التكوين الأيديولوجي، وبالأخص الإعداد النفسي لأتباعهم حتى يصبحوا مستعدين للتضحية بحياتهم في سبيل أهداف الحركة. لقد كانت الروحانية التي كرسوها وسيلة لا غاية. لقد جعلوا منها العنصر "المخدر" الذي جعل أتباعهم ينقادون لهم انقيادا أعمى (...). ففي دور الستر كان الهدف يقدم على أنه بناء "المدينة الفاضلة الروحانية"... أما في دور الكشف، فلقد كان الهدف (...) بناء المدينة السياسية، أي الدولة الإسماعيلية." (ص 367-368) ويرد طرابيشي بأن الذين نعتوا جماعة إخوان الصفاء بأنها حركة معارضة سياسية متشيعة في مواجهة الدولة العباسية وقعوا في مغالطة زمنية anachronisme إذ غاب عنهم أن هذه الدولة كانت في الفترة التي صنف فيها الإخوان رسائلهم تحت الهيمنة المباشرة لأمراء بني بويه المتشيعين. (ص 372) و"أن دولة الإخوان أبعد ما تكون عن الدولة السياسية، وأن مشروعهم ليس ذلك المشروع السياسي التآمري الذي يعزوه إليهم (الجابري)، بل هو مشروع فلسفي أخلاقي يستعير اللغة السياسية للعصر ويغرف على سعة من قاموس "المعارضة" الإمامية ليرمز –من منظور ما سماه بعض الدارسين بحق "الأفلاطونية المحدثة الإسلامية" - إلى ضرورة قيام دولة الروح وفناء دولة المادة".(ص 377) "وقد يكون إيغالهم في الرمزية، فضلا عن الطوباوية، سببا إضافيا لبقاء مشروعهم الثقافي-الأخلاقي بلا وراثة. فاستعمالهم لرموز الحركات السياسية الإمامية في عصرهم –وإن بغرض توظيفها لأهداف روحية لا سياسية - قد أفسح المجال أمام أشد الحركات الإمامية تطرفا، ونعني الإسماعيلية، لأن تضع اليد على تراثهم وتصادره لحسابها الخاص". (ص 380)


الفصل الخامس: "المماثلة كمنهج للعقل المستقيل"

"ليس العرفان في نظر (الجابري) رؤية فلسفية-دينية للعالم فحسب، وليس موقفا وجوديا-وجدانيا من العالم فحسب، بل هو أيضا نظرية في معرفة العالم أيضا. ولهذه النظرية المعرفية منهج واحد وحيد هو "الكشف" كما يسميه الصوفية الإسلاميون، أو المماثلة analogie كما يترجم (الجابري) بالمرادفة عنهم". يقول الجابري:" نحن نؤمن بقدرة العقل على تفسير ما يسميه العرفانيون الكشف. وقد قدم العقل، فعلا، تفسيرا لذلك منذ أرسطو، وذلك حينما لاحظ هذا الأخير أن الفيثاغوريين، وهم فرقة فلسفية تدعي المعرفة بالأسرار، يعتمدون المماثلة منهجا لهم، وأنهم لا يبحثون عن علل الأشياء وأسبابها كما يجب أن يكون البحث، بل بالعكس يتعاملون مع الظواهر بصورة تجعلها تستجيب لآرائهم الخاصة المسبقة. (...) ومعروف أن الفيثاغوريين مصدر أساسي من مصادر الفكر العرفاني. وكما سبق أن بينا، فإن اعتماد العرفان الإسماعيلي المماثلة صراحة كمنهج مفضل لديهم ربما يكون أثرا لحضور الفيثاغورية حضورا قويا في فلسفتهم، ومعروف أنهم ينتسبون صراحة إلى فيثاغورس إذ يصرحون في مستهل رسائل إخوان الصفاء، وفي أماكن أخرى منها، أنهم يتبعون منهج الفيثاغوريين. أما الكشف الذي يدعيه التصوفة "السنيون" (يضع الجابري الكلمة بين مزدوجتين كما لو أنه لا يصلح أصلا أن ينسب المتصوفة إلى السنة)، فلم ير فيه زملائهم البيانيون غير عملية ذهنية معروفة جدا لديهم، تقوم على أن "النظير يذكر بالنظير" أي على المماثلة". (بنية العقل العربي، ص 375) (ص 387-388)

فهل المماثلة منهج عرفاني حقا؟ بل هل هي منهج العقل العرفاني حصرا من حيث هو عقل مستقيل؟

يلاحظ طرابيشي أن الجابري لم يرجع إلى كتب أرسطو مباشرة بل إلى كتاب بيير دوهيم: "نظام العالم، تاريخ المذاهب الكسمولوجية من أفلاطون إلى أرسطو" الذي قد يكون اعتمد على ترجمة غير دقيقة لنص أرسطو (ص 392). أما ما يأخذه أرسطو على الفيثاغوريين فليس اعتمادهم على المماثلة، "بل استخدامهم لنوع من الاستدلال بالمثل: فما دام العشرة عندهم عددا تاما، فلا بد أن يكون عدد الكواكب تاما هو الآخر. وهكذا يضيفون إلى فلك النجوم الثابتة، والكواكب السيارة الخمسة (زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد)، والشمس والقمر والأرض، كوكبا افتراضيا عاشرا سماه فيلولاوس الفيثاغوري الأرض المقابلة." (ص 395)

- "أرسطو والمماثلة". "من يقرأ الفصل الذي يعقده (الجابري) عن المماثلة كمنهج عرفاني يتراء له أن أرسطو كان خصما لدودا لهذا المنهج". والواقع هو أن أرسطو إن يكن "اشتهر بأنه مخترع القياس الجامع، وهو أس الأسس في المنطق البرهاني، فليس ينبغي أن يغيب عنا أنه هو أيضا مخترع، أو على الأقل صائغ مفهوم المماثلة."(ص 397) وإن كانت أسبقية أرسطو تنحصر في الصياغة المفهومية لمبدأ المماثلة. أما النموذج العيني الذي اعتمده في هذه الصياغة فقد وجده لدى الفيثاغوريين. (ص 398) وقد طبق أرسطو منهج المماثلة الرياضية في مجال العدالة القضائية، بينما طبق منهج المماثلة البنيوية الوظيفية في مجال العلم البيولوجي. (ص 400)

- "المماثلة والمنطق الحديث". يقول الجابري بخصوص المماثلة: إننا نريد هنا، رفعا لكل لبس وقطعا للطريق أمام كل تلبيس، أن نوضح حقيقة المماثلة التي يعتمدها العرفانيون وقيمتها المعرفية، معتمدين في هذا على أحدث الدراسات المختصة في الموضوع". (بنية العقل العربي، ص 375) (ص 404). (ويتعلق الأمر بثلاثة باحثين هم: دورول، بيرلمان، بلانشيه). ويرد طرابيشي "أنه إن يكن من قاسم مشترك يجمع بين الدارسين الثلاثة في مواقفهم من المماثلة مفهوما ومنهجا فهو قابل بأن يحد، سلبا وإيجابا، على النحو التالي: سلبا، الغياب التام لأية إشارة إلى طبيعة "عرفانية" للمماثلة، وإيجابا، برد الاعتبار إلى المماثلة كمنهج للاستدلال، وإن مع قدر من الاختلاف فيما بينهم في تقدير مدى خصوبة هذا المنهج طبقا لأنواع المماثلة وتبعا للحقول التي يتم تطبيقها فيه."(ص 417)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى