د. رنه يحيى - جمالية الالتفات في النص الشعري.. حول نص الشاعر حسام نوري السرّاي بعنوان: "أنتِ"

القراءة:
"إن النوع الأدبي هو مؤسسة أدبية في جوهره.هذا يعني أنه عقد إجتماعي أو شرعة قرائية بين مؤلف وبين قارئ. "
هانز روبرت ياوس


يقول "محمد السيوفي": الشعر غير موجود بذاته، إنه يتولد عن التزاوج بين نظامين أحدهما إيقاعي والآخر لغوي، إنه نتاج عملية بناء."
وهذا ما نشهده في نص الشاعر "حسام السراي". ففيه لغة مكثفة وتبسيطاَ للقول وقدرة على التوظيف الرمزي في بناء الصورة الشعرية. فالشاعر يتحرى الدقة في اختيار المكان المناسب الذي يضع ألفاظه فيه. كما يمتلك أدوات فنية عالية في إدارة المعنى وتشكيل الصورة وتطويع المفردات والتراكيب بظواهر أسلوبية مختلفة تجعل عباراته الشعرية سهلة المبنى باذخة الدلالة.
وللإضاءة على دلالات هذا النص الجميل نعود لمرتكزات القراءة السيميائية وخاصة علامات الزمن الأكثر ذيوعا.ولما كان الزمن أحد أهم الفضاءات البارزة في بناء النص الشعري أردنا أن نفكك الشيفرة الزمنية بالنظر إلى البنية السطحية ثم البنية العميقة للنص من أفعال وأسماء وأدوات زمانية. ففي هذا النص تنوعت العلامات التي تشهد الزمن بشكل مباشر. فظهرت علامات زمن العشق والشوق والانتظار والألم والأمل باللقاء.
وصورة الزمن هنا تبدو في شقين من البنية ، تظهر الأولى على السطح ونكتشفها من خلال البنية اللغوية والتركيبية للأفعال لأنها أكثر تعبيرا عن الحركية والحدثية، ونرى ذلك بوضوح حيث جاءت أكثر الجمل فعلية ، تخبئ في ثوبها دلالات زمنية وظفها الشاعر للتعبير عما يجول في نفسه. والزمن الطاغي على النص ممثلاَ في الفعل الماضي الذي تنقلب دلالته إلى الزمن المضارع احياناَ وإلى الزمن المستقبل أحياناَ أخرى. فقد ابتدأ النص بفعل ماضٍ مؤدياَ دفقة شعور واحدة ألفت بين الماضي والمستقبل في حاضر حي نذهب فيها لنأول ما وراءها من تفاسير وأبعاد. فهناك دلالات على الإستمرار والتواصل الذي يرنو إليه الشاعر مما يقودنا إلى بيان شعرية النص.
وغالباَ نتناول الماضي بصورته الإيجابية لنعوض ما نحن فيه من بؤس وألم. والشاعر هنا يعوض بؤسه من خلال تذكير نفسه وحبيبته بذلك العطاء النقي الذي قدمه والحب الكبير الذي منحته إياه باحتلالها ذاته. هذه الحبيبة التي توزعت فيه كالضوء، ورسمت على جلده مدارك. ولم تكتف بذلك فقد تناسلت فيه وتكاثرت حتى توالدت في الدم فغدت غذاء للروح. فيرتبط الزمان في النص ارتباطاَ وثيقاَ بفكرة الحب .ويكمل الشاعر ويكرر الماضي من خلال ألفاظ تشير إلى حال الشوق والحب ، فقد باتت تسري خفية في مساماته لتضرم نار الشوق فيه، حتى تهادى كالغيث حباً وكأنه يجر عنان السماء نحو يديها لاحتضانها. فنجد أنفسنا أمام حالة عشق تجسد الصراع بين الحضور القوي للحبيبة وبين البعد والغياب. وهذا ما أدركه الشاعر حين قال(كل الملذات ليست كأنت) وأن الحنين يزداد وأن فيها فقط تخضر كل السعادات.
كل هذا يتجلى في عملية الالتفات .والتفات الفعل عنصر من عناصر التشويق في النص الشعري فهو يزيد من حيوية اللغة ، الأمر الذي ساعد الشاعر في الحفاظ على إبقاء أفكاره متدفقة يقظة ومحافظة على حرارة تأثيرها النفسي على المتلقي. كذلك ساهم الإلتفات في إبراز وجدانه الذاتي نحو محبوبته، فهو يستصرخ المحبوبة أن تدركه بوصالها قبل أن يقتله الشوق والحنين، بالرغم مما يعكسه من تقابل بين صوت مقيد بزمان البعد وبين نيته في الوصال.
ويشكل التفاته من الماضي الى المضارع تحولات زمنية تزكي روح الدراما النصية عنده، وتعمل على توهج اللحظة الزمنية بهدف إدهاش القارئ. والتحول هنا ليس زمانياَ بقدر ما هو تحول جمالي ودلالي وظفه الشاعر بوعي وحرص من خلال وصفه حضور حبيبته فيه.كما كشف الالتفات عن التوسع في الوصف عبر طريقة السرد في النص الشعري. إذ يأتي عنصر السرد غالباَ على النص الشعري من حيث توالي الأفعال الماضية (توزعت-تناثرت-رسمت-تناثلت –تكاثرت-تباركت-توالدت-تشبعت-تماديت-أورقت... )التي تأخذ المتلقي إلى عميق التأمل في تفاصيل النص ، حتى يصل المتلقي إلى المضارع (أشير-أضرم-أرمي-أرجم-أجلد... ) . هذا الالتفات يشير إلى علامات الحب ولحظة اضطراب العاشق مما يؤدي إلى خلق الدهشة الشعرية. فالعشق في مخيلة الشاعر يتصاعد دراميا عبر توظيف الماضي حتى يصل إلى ذروته في الالتفات إلى المضارع لتعميق قيمة الشعور. ليأتي التحول الأخير من البهجة (أعلنت فيك بكل السعادات اخضراري) إلى الحزن (في البعد صرت سكون محطة).
وبما أن "الشعر لا ينبع من النظام بقدر ما ينبع من العاطفة "كما أشار "نذير العظمة"، فإن هذا النص خير مثال على ذلك. فالعاطفة حاضرة من خلال استخدام ألفاظ تفيض بالعاطفة(جلد شفاهي-قبلة الناسك-دخان دموعي-ارتماء على راحتيك-اشتهاء-الحنين-جنون الرحيل-الشوق...) . فهناك الشوق والحب الذي لا يستطيع أن يسيطر عليهما الشاعر.فقد أحرق الشوق قلب الشاعر وهو ينتظر لحظة اللقاء ليشرق مع محبوبته.فنتبع تصاعداَ لأحاسيس الشاعر ،ليناديها أخيراَ(أنت كأنت توالدت في الهجر دون اعتراف ببرد احتضاني).فهو يستعمل الزمن فيصبح للماضي وجوده الخاص وللمستقبل والحاضر وجودهما الخاص.
بالإضافة إلى ذلك فالشاعر في النص عازف ماهر يسعى لتجسيد لحنه متنقلا من الماضي(تباركت حتى توالدت) إلى الحاضر (أشير بناري لذاك السعير) إلى الماضي(تماديت في وتقت إليك) بنغمة أجمل وقعاَ في النفس. ويفصح النص عن تشفير ايقاعي من خلال الأصوات المكونة للعلامة. فالالتفات أيضاَ صنع نبرة شعرية وصورة فنية لرغبة الشاعر في التركيز على معنى معين من خلال هذا التحول معمقا بذلك قوة الحب في النص. والإيقاع سمح باكتشاف صلة داخلية حميمة بين اللغة وحركة النفس وتموجات الذات الداخلية وهي في صدد صياغة تجربتها عبر اللغة.
كذلك نشهد جمالية الإيقاع مرة أخرى في نص الشاعر عندما ارتبط الضمير (ت) بالأفعال الماضية . وهو إطراد أسلوبي مرتكز على التكرار اللفظي للضمير يحدد بها الشاعر موقفه من الممدوح الحبيبة من كونه الفاعل في الحدث حسب "د. فوزي عيسى".فالشاعر يشعرنا بأهمية الغائب وبأن الكلام كله يدور حوله.كما يحقق إثارة تنبيه للقارئ مع تكثيف الإيقاع الصوتي بحرف التاء .
ويزداد عامل التأثير بالمتلقي أكثر بتكرار الشاعر ل"يا" المناداة (ياقبلة الناسك اللامعة-يا كل لحن سمعته-يا كل ذكرى على دربنا) كتنبيهاَ مؤثراَ انسجم مع حرارة اللحظة الشعورية في النص. هذا النداء دليل على التلهف والوجد والشوق إلى القرب. كما ويدل على حميمية تجمع بين قلبين مما يضفي على النص روعة ويضيف له عاطفة.
نص زاخر بالعاطفة استطاع فيه الشاعر ان يجعل من اللغة وسيلة حية لإحياء مشاعره.


النص:
(أنتِ)

توزعتِ فيّ كضوء النهار
تناثرتِ فيّ كنثر النجوم
رسمتِ..
على جلدي وأوردتي مداركْ
وفيكِ...
ما يُعتق الخوف عند اِحتدام الذنوب
وما تُغفر السيئات
وما يَخطُر العفوْ بذهن أنتقامِك
تناسلتِ فيّ على مدّ هذا الكيان
تكاثرتِ زهواً ..
تباركتِ حتى توالدتِ في الدمِ .
تشبّعتِ في روحي كموجٍ جديدْ
واِضطرمتُ نزوعاً إليكِ
عسى أن ترينَ لهيب نُزوعي
أُشير بناري لذاك السعيرْ
فيهدي لشوقيْ... منه قبسْ
وأُضرمُ
ناركِ بكل جهاتيْ
وأرمي بناركِ كل اِنتباهي
وأرجمُ فيكِ اِشتياقي إليكِ
وأجْلد جِلد الزهور بجلد شفاهيْ
يا قِبلة الناسك اللامعةْ
وطقوسَ العابدين دون المعابدْ
وياكُل لحنٍ سمعناه
بضوعِ الأغاني القديمةْ
وياكل ذِكرى على دربِنا
تدُق الشبابيكَ نحوَ القلوب
عساكِ تَريْن دُخان دُموعي
رباطةَ عَقلي..
اِستحالت شموعاً
تَقْطر شيئاً فشيئاً على راحتيكِ
تهاديتِ كالغيث حباً ومَحض اِرتماءْ
على رَاحتيكِ
كأنّي أجُرُ عِنان السماءِ نَحوَ يديكِ
وأنتِ ..
بين المساماتِ تسرين خِفية
ونبْضات قلبي يُسارعن ذعراً
ونَبضاً فنَبضاً
تَلاحق ومضكِ في خَفَقَاني ..
تماديتِ فيّ وتُقتُ إليكِ
وصرتُ اِشتهاءً وأنتِ مجاعةً
وكل الملذات ليستْ كأنتِ
وأورقتِ فيّ اِبتشاراً
فأعلنتُ فيكِ بكل السعاداتِ
اِخضراري.
إذا ذُبت في الدرب دونَ اِنتظار
على عُمق جُرحي .. اِستفاق اِللقاء كَلون البنفسَج
وفي البُعد صرتُ سكونَ محطّةْ
وَجالَ الحنينُ بأنحائِنا
هَدءةَ جَمرْ..
وَغالبَ روحي جنونَ الرحيل
تعطّرت بالنارِ وأحرقتُ بَعضي
لعلَ دُخاني يَجُبَ الغياب
ونُشرق نحنُ سوياً .. هُنا
وكل المتاهَات يَرقبْن لَهفة ..
بُزوغ اللقاءِ بفرْط اِنتظار
وحوْلي المسافاتِ..
تَصبَبْن شَوقاً بُكلِ اِندهاش
وأنتِ كـ أنتِ
توالدتِ في الهجْر
دونَ اِعترافٍ ببردِ اِحتضاري .


* نص (أنتِ…) من المجموعة الشعرية (وُلِدَ تَوّاً/2018)
حسام نوري السرّاي/ذي قار

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى