حمل على طرح هذا السؤال المعقّد المتعدّد الوجوه في تاريخ الثقافة العربيّة رسوخُ ظاهرة الأحلام والرؤى في صلب البنية الذهنيّة والثقافيّة في تاريخ الإسلام، وتحوّلها، من ثمّة، إلى ضرب من السلطة والتوجيه في صناعة المعنى وتشكّله داخل نصوص متباينة الخطابات. ولعلّ أحد هذه الخطابات النصّيّة التي استرفدت آليّة الحلم هو الخطاب التاريخيّ عبر مختلف أشكاله وخاصّة ما اتّصل منها بأدب التراجم عامّةً وأدب الوفيات بصفة أخصّ.
للحلم في الثقافة العربيّة جذور قديمة انطوى عليها كلام العرب وحياتهم وثقافتهم قبل الإسلام وبعده، بل إنّه ليجوز القول، مع غرونباوم G.E.Von Grunebaum أنْ ليس ثمّ مرحلةٌ في تاريخ الإسلام والمسلمين لم يكن للحلم فيها دورٌ ( Von Grunebaum G.E: La fonction culturelle du rêve dans l’Islam classique, in. Le rêve et les sociétés humaines, ed. G.E.von Grünbaum et Roger Caillois, Paris 1967, p.11). وكانت الأحلام مادّة خصبة لأعمال كتابيّة مختلفة، في تاريخ الإسلام تجلّت في النصّ المؤسّس وما حام حوله من مدوّنة الحديث النبويّ ومن نصوص تفسيريّة، واستوت أدبًا قائمًا بذاته مع كتب المنامات وتعبير الرؤي. لقد دلّت وفرة هذه المادّة ورسوخها على تأصّل ظواهر الأحلام والرؤى في هذه الثقافة.
أنزل الحديث النبويّ الرؤيا منزلة رفيعة، فعدّ الرؤيا الصادقة جزءًا من النبوّة وعدّ أصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثا، بل كانت الرؤيا تقود، في أحيان كثيرة، خطى النبيّ وتحدّد أعماله وتهدي المؤمنين وتستشرف لهم حوادث المستقبل. بمثل هذه المنزلة صار للرؤى والأحلام سلطة على حياة المسلم شبّهها بعضهم بالسلطة التي للحديث النبويّ نفسه لجامع التهذيب وإصلاح المعاش والتوطيد للمعاد في كليْهما. وحين غاب شخصُ النبيّ وانقطع الوحي واصل الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون الاتّكاء على هذا الإرث النبويّ، واستمرّ المسلمون في التواصل مع عالم الوحي عبر حجاب المنامات والأحلام.
إنّ للأحلام، في كلّ تجلّياتها الدينيّة والثقافيّة والأخلاقيّة وعبر مختلف تجسّداتها النصّية، خطرًا عظيما في تاريخ الإسلام أهّلها إلى أنْ تكون مصدرًا من مصادر المعرفة المتعالية ووسيلة عبرها تتنقّل الأفكار وبها تدرك الشرعيّة.
من البيان السيريّ إلى النصّ الحلميّ
تعلّق النظرُ بالفحص في البيانات السيريّة داخل كتب التراجم العامّة، من خلال مدوّنة مخصوصة هي على الترتيب “وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان مما ثبت بالنقل والسماع أو أثبته العيان” لابن خلّكان (ت 681 هـ) و“الوافي بالوفيات” و“نكت الهميان في نُكت العميان” لصلاح الدين الصفديّ (تـ 764 هـ).
تقوم هذه النماذج على مادّتين، الأولى مادّة تسجيليّة (تاريخيّة) تتوسّل “الحقائق” والثانية مادّة تصويريّة تتوسّل الخوارق، أيْ إنّها تقوم على وازع موضوعيّ تدّعيه على الأقلّ، وتعرض مادّتها على أنّها حقائق تاريخيّة يرد الحلم في سياقها عنصرا غير قارّ. ثمّة جملة من المبادئ الرئيسيّة التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار عند قراءة هذه النصوص والعمل على الاستفادة منها في التأريخ للأعلام وفي التوثيق للأحداث. فلا يمكن التعامل مع الكتابات التأريخيّة المذكورة على أنّها بيانات جافّة أيْ معطيات خام قابلة للاستخدام والاستدلال التاريخيّ أو جذاذات جاهزة للاستشهاد والاستثمار العلميّ، وإنّما ينبغي مكاشفتها كياناتٍ سيميائيّةً شديدة التعقيد. ينضاف إلى التعقيد الذي يطرحه الخطاب التاريخيّ كما يتجلّى في البيان السيريّ تعقيدٌ آخر يمسّ جوهر التقييم في وحدة الترجمة أعني تخصيصًا بنية النصّ الحلميّ. إنّ الحلم علامة لصاحبه قبل أنْ يدخل في الترجمة فإذا سيق في ترجمة معيّنة أصبح علامة داخل النسق السيميائيّ للسيرة. على أنّه لا وجود للحلم خارج اللّغة، فهو إلى السرد مشدود من خلال ارتباط الأحلام بالتأويل، والتأويل لا ينعقد إلاّ عبر سيرورة هذه التجربة “الحُلميّة” إلى أحاديث أو إلى قصص. ثمّ إنّ هذا السرد نفسه محكوم بالسياق التلفّظيّ الذي ينتظمه وهو الذي يعطيه تأطيرا مناسبا لعمليّة التأويل. واستلهاما من هذه المقاربة فإنّ النصّ الحلميّ ينضوي في البيان السيريّ ليصبّ في ما يمكن أنْ يُسمّى مرحلة التقييم، وهو تقييم يرد، في الغالب، في آخر الترجمة ويوازي، أحيانا، في طوله وأهمّيته سيرةَ المترجَم نفسها.
تبيّن، خلل الفحص في بنية الترجمة، وجود مادّة تطرح نفسها على أنّها حقائق وهي المعلومات التي لا تتغيّر عادة، إلاّ في حجمها وترتيبها أثناء مسيرتها من عمل إلى آخر، ومادّة تصويريّة تتمثّل في البناء السرديّ للترجمة. في هاتين المادّتين عناصر قارّة وأخرى غير قارّة. من العناصر القارّة التيتمثّل المعلومات الجوهريّة الأساسيّة للترجمة: لقب الشخص وكنيته واسمه ونسبه وموطنه ومجال تخصّصه وصنعته وشيوخه وتلاميذه وتاريخ مولده ومكانه وتاريخ وفاته ومكانها وفضائله ومساوئه. ومن غير العناصر القارّةشهادات المعاصرين فيه وبعض الوثائق المستمدّة من المصنّفات والشعر والرسائل ومذهبه ومسلكه وقدراته العلميّة، وقد تنضاف إلى هذه العناصر حكايةُ الحلم من خلال سرد منامات لصاحب الترجمة أو لغيره فيه.
لعلّ عنصر الحلم، وهو العنصر غير القارّ، يصير، في التراجم التي تحتوي أحلاما، منتهى الترجمة ومحلّ استقطاب سائر العناصر والنقطة البؤريّة التي يتمركز فيها تفاعل القوانين المختلفة في النصّ السيريّ.
ينتج الحلم الذي يورده المؤلّف في أدب الوفيات لصاحب الترجمة أو حوله سيميائيّة مخصوصة تسهم، سٍيريًّا، في الإحاطة بالشخصيّة، وتجيب، تاريخيًّا، عن شواغل الراهن الثقافيّ والدينيّ، وتؤصّل، بنيويّا، أدبًا كان سائرا، فيما مضى، هو أدب الحوار مع الموتى.
كتابة الحياة وكتابة الموت
إنّ الالتفات إلى الموت هو بؤرة التراجم وبخاصّة تراجم الوفيات، لأنّ كتابة الحياة تولّدت عن انتهاء هذه الحياة من خلال حدث الموت. تتحوّلُ آليّة المنام حول من مات، في هذا السياق، إلى واسطة من خلالها يصير الحلم حياة ثانية. السيريّ، إذن، موصول بالكتابة: كتابة جملة الأنشطة والأحداث التي تملأ فضاء العمر لفرد مّا بين الولادة والموت. ثمّة حياة تعاش لتعقبها الكتابة. هذا هو المنطق. في كتابة الموت، ثمّة حلمٌ (تجربة سمعيّة بصريّة لها سننها السيميائيّ المخصوص) لا يوجد إلاّ عبر الكتابة (السرد) ومن ثمّة تستخلص الحياة بعد الموت. المنطق هنا مقلوب فالكتابة في مجال الأحلام تسبق الحياة. إنّ الحلم، كما قال بول فاليري، هو مجرّد فرضيّة لأنّنا لا ندركه إلاّ من خلال التذكار. النوم هو قناة التواصل بين الحياة والموت من خلال ما يُرى أثناء المنام، إضافة إلى طرق أخرى ثانويّة لعلّ أهمّها ما تتيحه المحاورة مع أشخاص عادوا من تجربة الموت الإكلينيكيّ.
في الحلم يتمّ الصعود من العالم الأرضيّ إلى العالم العلويّ للالتقاء بمن مات كما يقع العكس، أي إنّ الميت ينزل من مقرّه العلويّ إلى الأرض ليخبر الأحياء عن الآخرة، وتتحوّل الصيغة من “رأيت في المنام” إلى “أتاني آتٍ في المنام” مع الملاحَظة أنّ شخصيّة الميّت تحافظ على سماتها الدنيويّة في الغالب. وإذا كان الموت بؤرة تراجم الوفيات فإنّ بؤرة جانب كبير من المنامات فيها تنعقد حول سؤال مركزيّ: “ما صنع اللّه بك ؟” مشفوعا، في حال الغفران، بالسؤال المشهور: بم غفر لك؟
ثمّة، إذن، ضفيرة ثلاثيّة في أدب الوفيات من خلال نماذجه المدروسة بين الحياة والموت والحلم، تفصح عنها عناوين المدوّنة (وفيات الأعيان لابن خلّكان، الوافي بالوفيات للصفديّينضاف إليهما كتاب فوات الوفيات للكتبيّ ( تـ 763 هـ ) وهو الحلقة الوسطى بين ابن خلّكان والصفديّ ). تشترك عناوين المدوّنة في الجذر (و. ف.ي)، وتتمحّض دلالة هذا الجذر على معنى التمام والاكتمال، ومِنْه أوفاه أتمّه، وتكون الوفاة وهي المنيّة والموت أو الأجل في التسمية الإسلاميّة تمامَ عمر الإنسان. على أنّ اللّحظات الأولى من النوم، أيضًا، صورةٌ للموت عندما يسري الخمود في فكر الإنسان، ولذلك فإنّه يقال للنائم توُفّي، وهو استيفاء وقت عقله وتمييزه. النوم، بهذا المعنى، شكل من أشكال الموت.
تظهر ثلاثيّة الحياة والموت والحلم واضحة في مقدّمة الصفديّ لـ“الوافي”، فهو يعتبر تراجم الأعلام محاولة لإبراز منزلة هؤلاء الأفراد، والطريف اعتباره أعمارهم أحلاما جريا على خطى أبي تمّام حين قال من قصيدته في مدح المأمون وطالعها “دِمنٌ ألمّ بها فقال سلامُ * * كمْ حلّ عقدةَ صبره الإلمامُ”:
ثمّ انقضت تلك السنونُ وأهلها ** فكأنّها وكأنّهم أحلامُ
يقول الصفديّ “..حتّى انقضت مددُهم فكأنّها وكأنّهم أحلام”، أو قوله للدّلالة على سرعة الانقضاء “..وأشبهت الحياةُ، وإنْ طال أمدهم، حلم َنايم.”
من البيّن أنّ الترجمة، وهي تأريخ لحياة الأفراد، تتحوّل من خلال تقنيّة الحلم الأخرويّ خاصّة إلى تأريخ لموتهم، ويتحوّل المعنى من كتابة الحياة إلى كتابة الموت. تقع عقدة هذا الاتّصال بين عالم الأموات وعالم الأحياء في الحلم. ولقد كان من الأفكار المقبولة في الإسلام المبكّر والوسيط أنّ يطّلع المرء، من طريق المنام، على أحوال شخص آخر بعد مماته. يمكن أن يقال، إذنْ، إنّ حياة المسلم في العصر الوسيط تشمل حياته في الآخرة، لأنّ سيرة عَلَمٍ مّا لا تنتهي بموته، وإنّما تمتدّ إلى ما بعد الموت. والوفاة لا تشكّل نقطة النهاية إذْ لا يكتمل السرد إلاّ عندما يتحدّد المصير في العالم الآخر. الموت لا يختم حياة المرء وإنّما تستمرّ العلاقة بين الأحياء والأموات وهي علاقة متبادلة فالأحياء يؤثّرون في الأموات والعكس صحيح. يفيد الأحياء من تجربة الأموات مع الموت والحساب والمآل كما يحتاج الأموات إلى صلوات الأحياء وأدعيتهم لهم وزياراتهم للقبور وقضاء ديونهم.
أحلام الأعلام
يَعْرِف المعجم العربيّ المادّتيْن “الرؤيا، الحلم”، غير أنّ النصّ القرآنيّ يخلو تماما من الفعل “حلَم: ومن المصدر”حُلْم / حُلُم“في معنى الرؤيا مفردا. لكنّ صيغة الجمع”أحلام“وردت مرّتيْن فقط مضافةً إلى كلمة أضغاث (أضغاث أحلام) ومحمّلةً، من ثمّة، بدلالة سلبيّة (يوسف 44 ، الأنبياء 5). أمّا ما عدا ذلك فترد الأحلام (من الحُْم) بمعنى العقول والإدراك وبلوغ مبلغ الرجال. على أنّ القرآن يستعمل إلى جانب الرؤيا، المنامَ الذي جعل منه آيةً إلهية.”ومن آياته منامكم بالليل والنهار“الروم /23. يورد صاحب اللّسان قولهم: صحّ الخبر أنّ الرؤيا الصادقة جزء من النبوّة، وأنّه جاء في الحديث أنّ الرؤيا من اللّه والحلم من الشيطان. غير أنّ ابن منظور لا يقرّ هذا التمييز، ويرى أنّ الحلم هو الرؤيا مسوّيا بين اللّفظيْن”والرؤيا والحلم عبارة عمّا يراه النائم في نومه من الأشياء“(ابن منظور، لسان العرب، مادّة حلم. ). ونحن سنشايع ابنَ منظور في التسوية بين الاصطلاحيْن ما دمنا نعدّ كلّ تجربة سمعيّة أو بصريّة تُروى على أنّها حدثت في النوم حلمًا دون التفات إلى الشحنة الدينيّة الإيجابيّة في كلمة الرؤيا بالقياس إلى الشحنة السالبة في الأحلام.
نميّز معجميًّا بيْن أربعة استعمالات لفعل رأى. ثمّة، أوّلا، رأى رؤية العين البصريّة وهي تتعدّى إلى مفعول واحد. وثمّة، ثانيًا، رأى العِلميّة أو القلبيّة والمصدر منها الرؤية، وهي تتعدّى إلى مفعوليْن. وثمّة، ثالثًا، رأى الاعتقاديّة، والمصدر منها الرأي كالقول: رأى رأي الخوارج. وثمّة، رابعًا، رأى الحُلميّة والمصدر منها الرؤيا. فإذا نظرنا إلى الصيغة التي ترد عليها”رأى“في البيانات السيريّة داخل كتب التراجم وجدنا أنّها ترد، في العموم، على صيغتيْن، في المعلوم والمجهول:
- رأيْتُ / رَأَى فلانٌ فلانًا في النوم.
- رُئِيَ فلانٌ بعد موته.
على أنّ بين هذه الصيغ المختلفة لمادّة”رأى“تراشحًا، فتكون”رأى“حُلميّةً باعتبار المفعول فيه (في النوم، بعد موته) وتكون بصريّةً باعتبار المفعول به المتعلّق بالرؤية وهو من المدركات البصريّة (الشخص المذكور في الترجمة)، وتكون رأى اعتقاديّة أو عِلميّةً باعتبار السياق وهو حاصل المعموليْن (المفعول به: البصريّة والمفعول فيه: الحُلميّة . وثمّة صيغة أخرى طريفة يرد عليها الجذر (ر. أ. ي.) وهي الترائي في أدب المنامات، بمعنى تراءَى القومُ أي رأى بعضُهم بعضًا في المنام (جمعها ابن أبي الدنيا في”كتاب المنام “
أ- الفضاء
لقد صار بيّنا، في أدبيّات الأحلام منذ كتاب الأحلام لأرتيميدور إيفاس Artemidore d’Ephèse
( ” Le livre des songes “ L’oneirocritica ) الفصل بيْن نمطيّن من الأحلام، الأوّل الحلم البلاغ وهو ما يمكن تسميته بالحلم الرمزيّ المجازيّ أو ذوات التأويل وهي أحلامٌ رسائلُ تتنبّأ بأحداث مستقبليّة، والنوع الثاني الحلم الواقعة وهي أحلامحرفيّة مباشرة لا تحتاج إلى تفسير أو إلى تأويل وتمثّل واقعا أو ظاهرة، وكلا النمطيْن تحفل به التراجم المدروسة. على أنّ هذا النوع وذاك يظهران في التراجم باعتبارهما وقائع تدخل في حكاية الحلم إلى جانب الوقائع السيريّة الأخرى.
ترد حكايات الأحلام، في الغالب، في وضع يتّجه نحو آخر الترجمة. يتحدّد محلّ الحلم بحسب نوعه، فإذا كان حلمًا من ذوات التأويل فمحلّه غير ثابت، فهو يرد في أثناء الترجمة كما يرد في آخرها، ولكنّه إذا كان حلمًا ظاهرًا يعرض لواقعة أخرويّة فالغالب أنْ يذيّل الترجمة لأنّه مرتبط بحدث الموت. وقلّما عيّنت، بدقّةٍ، حكاياتُ الأحلام في التراجم المدروسة مواقيتها لزمن المنام من ليل أو نهار، واُكْتُفِيَ بعبارة”رأيت في النوم“، وعلى قدر القلّة في التحديد جهد أصحاب الأحلام في تدقيق تواريخ مناماتهم باليوم والشهر والسنة.
ب - النوع
إذا كان حلمُ ذواتِ التأويل أو الحلمُ البلاغُ يتّصل، في الأساس، بمدوّنات التعبير وتفسير الأحلام فإنّ حلم الواقعة / الظاهرة وخاصّة منه ذلك الضرب من الأحلام التي تتّصل بالمصير والمآل الأخرويّ أدخل في أجناس من الأدب كالتراجم والملل ذات الطابع الثقافيّ الجدالي. ُ
* الحلم البلاغ ( المجازيّ ): يحتلّ حيّزا واسعا في التراجم المدروسة، ويقوم على آليّة التنبّؤ بحدث أو أحداث مستقبليّة، وسنقتصر على توجيه هذا النوع إلى حدثيْن هما أشكلُ بمادّة عملنا حول أحلام الأعلام في التراجم أعني حدث الولادة وحدث الموت.
حلم يتنبّأ بالحياة
في ترجمة جرير (تـ 110 هـ وفيات، 130، مجلّد 1) ترد حكاية الحلم على لسان أبي عبيدة الذي قال:”رأت أمُّ جرير في نومها وهي حامل به كأنّها ولدت حبلا من شعر أسود، فلمّا وقع منها جعل ينزو فيقع في عنق هذا فيخنقه، حتّى فعل ذلك برجال كثيرة، فانتبهت مرعوبة، فأوّلت الرؤيا فقيل لها تلدين غلاما شاعرا ذا شرّ وشدّة شكيمة وبلاء على الناس، فلمّا ولدته سمّته جريرا باسم الحبل الذي رأت أنّه خرج منها، والجرير الحبل.“من الملاحظ أنّ هذا النصّ يطرح جملة من الأطراف، فثمّة المرئيّ موضوع الترجمة، هنا، وهو جرير الشاعر الأمويّ، أمّا الرائي فهي أمّ جرير، وهذه الرؤية لم تصل إلينا إلاّ عبر واسطة الراوي وهو أبو عبيدة، أمّا عقدة التأويل في الحلم فهي رمزيّة الحبل. إنّنا، هنا، إزاء أمريْن، الأوّل هو الحلم كما رأته أمّ جرير مع تأويله، أمّا الثاني فهو حكاية الحلم في نصّ الترجمة مسندًا إلى أبي عبيدة، وهو ما يندرج في سيميائيّة الترجمة. الحلم رمزيّ مجازيّ وظيفته تنبئيّة، فكأنّ شخصيّة شاعر الهجاء والنقائض الأمويّ جرير قد تشكّلت من قبل أنْ يولد، وهذا يدفعنا إلى التساؤل عن المسافة بين زمن الحلم وزمن الحكاية، إذ لا شكّ في أنّ ما يعلنه الحلم وتأويله وحكايته قد صيغ كلّه بعد أنْ اتّضحت شخصيّة جرير على ما نعرفه عنه في نقائضه وهجائيّاته لتصبّ في موقف رافض لغرض شعريّ بذاته أكثر منه رفضا لشاعر بعينه.
الصيغة العكسيّة لحلم جرير نجدها في ترجمة الإمام محمّد بن إدريس الشافعيّ (تـ 204 هـوفيات، مج4ترجمة558ص163)”.. وحكى الخطيب في “تاريخ بغداد” عن ابن عبد الحكم قال: لمّا حملت أمّ الشافعيّ به رأت كأنّ المشتري (الكوكب) خرج من فرْجها حتّى انقضّ بمصر، ثمّ وقع في كلّ بلدٍ منه شظيّة، فتأوّل أصحاب الرؤيا أنّه يخرج منها عالم يخصّ علمُه أهلَ مصر ثمّ يتفرّق في سائر البلدان..“. ورد هذا الحلم في وسط الترجمة لا في آخرها. السند هنا فيه حلقتان، فمن جهة هناك الخطيب البغداديّ صاحب”تاريخ بغداد“ومن جهة أخرى هناك عَلَم هو ابن عبد الحكم. الرائي هو أمّ الإمام الشافعيّ والملاحظ، هنا، أنّ هذا الحلم غريب لأنّه محفوف بالحرج، فإذا كان يُقبل من أمّ جرير أنْ ترى في منامها كأنّه ولدت حبلا فإنّه من غير السهل أنْ تخبر أمّ الإمام الشافعيّ أنّها رأت في المنام كأنّ كوكبًا يخرج من فرْجها لينزل في مصر وتقع في كلّ بلد منه شظيّة. على أنّ الخطيب لم يجد في كلّ ذلك أيّ وجه للغرابة مادام يخدم عقيدته أثناء تحوّله عن الحنابلة إلى مذهب الشافعيّ. وهذا الحلم، تمامًا، كالأوّل يبدو أنّه نتاج عصر متأخّر تحدّدت فيه معالم شخصيّة الشافعيّ واحتدّت فيه الخصومة المذهبيّة.
حلم يتنبّأ بالموت
ومن الأمثلة على الحلم الرمزيّ المجازيّ الذي يتنبّأ بالموت ما ورد في ترجمة الحسن البصريّ (تـ 110 هـ نفسه،156)،”... وقال رجل قبل موت الحسن لابن سيرين: رأيت كأنّ طائرا أخذ أحسن حصاة بالمسجد، فقال إنْ صدقت رؤياك مات الحسنُ، فلم يكن إلاّ قليلا حتّى مات الحسن، ولم يشهد ابن سيرين جنازته لشيء كان بينهما ثمّ توفّي بعده بمائة يوم“. من الملاحظ أنّ السارد، وهو هنا الرائي، رجلٌ نكرة، ولذلك اشترط ابن سيرين صدق رؤياه كي يصدق تأويله، غير أنّه يستمدّ المعرفة من المسرود له، وهو هنا المعبِّر الذائع الصيت محمّد بن سيرين، أمّا موضوع الحلم المسرود عنه فهو الفقيه المشهور الحسن البصريّ. عقدة التأويل في حلم الحسن البصريّ تكمن في رمزيّة الحصاة: أحسن حصاة بالمسجد يأخذها طائر. مبعث التأمّل في هذا الحلم تشبيه البصريّ بأحسن حصاة في المسجد، وهل في الحصى مراتبُ في الحُسْن؟ على أنّ في صيغة التفضيل”أحسن“بعض الإجابة، أليس بين اسم التفضيل (أحسن) واسم العلم (الحسن) قرابة الصفة؟ أمّا الطائر فدلالته في الحلم هي الصلة بين الأرض والسماء أيْ بين عالم الشهادة وعالم الغيب ومدلوله الرمزيّ على الهداية والتعليم والإرشاد والإخبار والإنباء معلوم. إذا كان المثير تشبيهَ الحسن البصريّ بأحسن حصاة في المسجد، فالغريب هو تعقيب ابن خلّكان نفسه على الحلم إذ أضاف أنّ ابن سيرين تخلّف عن حضور جنازة الحسن البصريّ”لشيء كان بينهما“، فـمات بعد ذلك بمائة يوم. السؤال: لِمَ هذا التعقيب، وما وجه إدراج هذه الشذرة السيريّة التي تعود إلى ابن سيرين في ترجمة الحسن البصريّ، إنْ لم تكن هناك علاقة بين الأمريْن؟ إنّ ابن سيرين المعبّر والمحدّث أيضًا، على معرفته بأنّ البصريّ هو أحسن ما في المسجد، والمسجد بدلالته العامّة أي جماعة المسلمين في وقته، لم يحضر جنازته لأمر دنيويّ، ولذلك”مات“بعده بمائة يوم. على أنّ هذا الضرب من الأحلام المجازيّة قد يكون قائمًا على الإخبار بالموت إلى حدّ التنبّؤ التاريخيّ وهو ما نجده في ترجمة الحجّاج (وفيات، 149مج2) حول موت أخيه وابنه في يوم واحدوكان قد رأى في منامه أنّ عينيْه قُلعتا، فطلّق زوجيْه اعتقادًا منه أنّ رؤياه تتأوّل بهما، فلم يلبث أنْ جاءه نعي أخيه محمّد من اليمن في اليوم الذي مات فيه ابنه محمّد، فقال: واللّه هذا تأويل رؤياي، محمّد ومحمّد في يوم واحد.
ونقرأ في ترجمة خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاريّ، وهو تابعيّ (تـ 99 هـ وفيات، مج2ترجمة211ص223) وأبوه زيد الصحابيّ أحد كتبة الوحي:” ..وذكر محمّد بن سعد كاتب الواقديّ في الطبقات أنّ خارجة قال: رأيت في المنام كأنّي بنيت سبعين درجة فلمّا فرغت منها تدهورت وهذه السّنةَ لي سبعون سنةً قد أكمَلْتها. قال: فمات فيها..“
*الحلم الواقعة: يطرح هذا النوع الثاني من أحلام الأعلام نفسَه واقعًا لا بلاغًا، ويصدر هذا الطرح عمّا تذهب إليه أدبيّات الأحلام مِنْ أنّ كلّ ما يقوله لك الميّت في المنام حقّ لأنّه في عالم الحقّ.
يعرض هذا الحلم نفسه واقعا ظاهرا لا يقبل بتأويل الرمز أو المجاز. ويمثّل هذا الحلم الذي يعكس ما يدور في المعاد بالأساس أطرفَ أحلام المدوّنة. ما إنْ يموت أحدهم حتّى يراه بعض الناس في المنام في درجات النعيم أو في دركات الجحيم. من الأمثلة على هذا النوع الحلمُ الوارد في ترجمة الشاعر صالح ابن عبد القدّوس (ت 167 هـوفيات، مج2 / 303)”... قال أحمد بن عبد الرحمان المعبّر: رأيت صالح بن عبد القدّوس في المنام ضاحكا مستبشرا فقلت له: ما فعل بك ربّك؟ وكيف نجوت ممّا كنت ترمى به؟ قال: إنّي وردت على ربّ لا تخفى عليه خافية، فاستقبلني برحمته، وقال: لقد علمت براءتك ممّا كنت تقذف به..“. سواء كان الراوي معبّرا للأحلام أو لم يكن كذلك، فإنّ حكاية الحلم، في حدّ ذاتها، تتضمن خلاصة التأويل. ثمّة ثلاث درجات سرديّة، الأولى طرفاها المؤلّف ابن خلّكان وقرّاء الوفيات، الثانية طرفاها الرائي المعبّر ابن عبد الرحمان وموضوع الترجمة ابن عبد القدّوس، الدرجة الثالثة طرفاها ابن عبد القدّوس والله. تقوم حكاية الحلم هذه، بمختلف درجاتها، على عناصر متدرّجة من الهدوء البادي في هيئة الشاعر ابن عبد القدّوس (الضحك والاستبشار) إلى التوتّر في سؤال الراوي له عن كيفيّة نجاته ممّا كان يرمى به إلى التوازن النهائيّ حين حسم الشاعر الأمر ونفى جميع ما رُمِي به، فاللّه الذي قُتِل ابنُ عبد القدّوس بأمره في الدنيا لا تخفى عليه خافية، وهو”قد علم“ببراءته ممّا كان يُقْذَف به. ينكشف، عندئذ، أنّ إدراج مثل هذا الحلم عن مآل ابن عبد القدّوس يتضمّن موقفا إيجابيّا من صاحب الترجمة.
ج – التركيب:
إنّ المتتبّع لمدوّنة الأحلام في تراجم الوفيات يصطدم بتعقّدها، فليست أحلامُ علمٍ مخصوص مندرجةً في ترجمته بالضرورة، إذ قد يُورَد حلمُ شخصٍٍ مّا في ترجمته، كما يورد في ترجمة غيره. وقد يرد الحلم من أحد وجهيْن، إمّا أنْ يكون مَن رأى الحلم هو صاحب الترجمة، وإمّا أنْ يكون الرائي غيرَ صاحب الترجمة. هذا النوع الثاني قد يكون أحد معاصري موضوع الحلم أو أحدَ معارفه (ابنه مثلا) كما في ترجمة داود الظاهريّ (وفيات، مج 2 ص 223 )” ..وقال ولده أبو بكر محمّد رأيت أبي داود في المنام فقلت له: ما فعل اللّه بك؟ فقال غفر لي وسامحني فقلت: غفر لك، ففيم سامحك؟ فقال: يا بنيّ الأمر عظيم، والويل كلّ الويل لمن لم يُسامحْ..“وقد يكون الرائي هو المؤلّف نفسه، كما هو في الحلم الوارد في ترجمة أبي علي الفارسيّ (نفسه، 163)، حين رأى ابنُ خلّكان في المنام في سنة ثمانية وأربعين وستمائة بالقاهرة ثلاثة أشخاص أنشده أحدهم ثلاثة أبيات لأبي علي الفارسيّ ولم يكن المؤلّف يعهده شاعرا، فلمّا استيقظ علق على خاطره البيت الأخير منها. وقد يكون الرائي نكرة (ترجمة الحسن البصريّ المذكورة)، أو مجهولا، كما في ترجمة سعيد بن جبير (نفسه، 261)”..ويُقال إنّه رئي الحجّاج في النوم بعد موته، فقيل له ما فعل اللّه بك؟ فقال قتلني بكلّ قتيل قتلته قتلةً، وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلةً“. ومن الملاحظ أنّ حكاية الأحلام في ترجمة سعيد بن جبير قد دارت حول الحجّاج ممّا يطبعها بالمقتضيات التاريخيّة.
على أنّ التركيب قد يظهر في مستوى آخر، فقد يكون الحلم بسيطًا مجازيّا أو حرفيًّا، يتناول شخصًا واحدًا ويستهدف اتّجاها معيّنا في التأويل، ولكنّه قد يكون مركّبًا يتضمّن الشكليْن معًا، فيتنبّأ بحدث الموت من جهة ويخبر عن أحوال المعاد من جهة أخرى. يورد الصفديّ في ترجمة الشريف المرتَضى (الوافي، ج 1 ص 49) قول أبي العبّاس الجوهريّ” رأيت السيد أبا المعالي بعد موته وهو في الجنّة وبين يديه طعام، وقيل له ألا تأكل؟ فقال لا حتّى يجيء ابني فإنّه غداً يجيء، فلمّا انتبهتُ وذلك في رمضان سنة (بياض) وتسعين وأربعمائة قتُلِ َابنه أبو الرضا ذلك اليومَ...“. نحن في هذا الحلم المزدوج أمام خبر عن مصير المرتضى من جهة فهو من أهل الجنّة المكرّمين، ومن جهة أخرى نحن أمام تنبّؤ بموت ابنه من الغد. الملاحظ في حلم الجوهريّ تحديده تاريخًا دقيقًا لزمن الرؤيا، وهو شهر رمضان سنة ؟49 ولكنّ الطريف أنّه استعمل عبارة”فلمّا انتبهت“وليس أفقت أو استيقظت، ممّا يدعم كونَه حلمًا نهاريًّا أو إغفاءة رمضانيّة بدليل حضور الطعام بين يديْ المرتضى!
يظهر مستوى آخر من التركيب في مدوّنة الأحلام حين يكون الحلم متواردا بين شخصيْن، كما هو الحال في ترجمة المتوكّل على اللّه (وفيات، مج 1 - 134)، وهو حلم طريف يرويه عليّ بن الجهم الشاعر، ويجمع بين المتوكّل وجاريته محبوبة، وقد غضب عليها فهجرها إلى أن رآها في المنام وكأنّه رضي عنها وصالحها. قال ابن الجهم:”..فواللّه إنّا لفي ذلك إذ جاءت وصيفة فقالت يا أمير المؤمنين سمعت صوت عود من حجرة محبوبة، فقال قم بنا يا عليّ ننظر ما تصنع، فنهضنا حتّى أتينا حجرتها فإذا هي تضرب العود وتغنّي:
فهل شفيع لنا إلى ملك ** قد زارني في الكرى وصالحني
حتّى إذا ما الصباح لاح لنا ** عاد إلى هجره فصارمني
قال فصاح أمير المؤمنين وصحت معه[ ...] قالت يا مولاي رأيت في ليلتي كأنّك رضيت عنّي فتعللّت بما سمعتَ، قال وأنا واللّه رأيت مثل ذلك، فقال لي يا عليّ رأيت أعجب من هذا كيف اتّفق؟..“
د - الشخصيّات:
تتنوّع الشخصيّات التي نلتقي بها في الأحلام، فليس الشخص موضوع الحلم هو وحده من يعمر هذا العالم، وإنّما يتيح منطق الحلم اللّقاء بين أشخاص معاصرين للشخص موضوع الترجمة كما يتيح اللّقاء بيْن الشخصيّات على تباعدها في الزمان والمكان أو في المنزلة والمقام. في ترجمة رابعة العدويّة (وفيات، مج 2 - 231) تراها خادمتها عبدة، بعد سنة من موتها، في أجمل هيأة وأبهى حلّة على زهدها في الدنيا، فتسألها عن مقامها في النعيم، ثمّ تسألها عن غيرها”فما فعلت عبيدة بنت أبي كلاب؟ (...) ما فعل أبو مالك؟ (...) وما فعل بشر بن منصور؟ “. يصير الحلم في ترجمة رابعة العدويّة محلاّ للإخبار لا عن مآلها هي وحسب، وإنّما عن مآل غيرها من الأعلام.
أمّا في ترجمة حيص بيص الشاعر (وفيات، مج 2 - 258)، فيرى الراوي الشيخ نصر اللّه بن مجلى وهو معاصر للشاعر (تـ 574 هـ) عليّا بن أبي طالب في المنام”فقلت يا أمير المؤمنين، تفتحون مكّة فتقولون من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثمّ يتمّ على ولدك الحسين يوم الطفّ ما تمّ؟“. لا يجيبه عليّ بن أبي طالب مباشرة ولكنّه يحيله على أبيات قالها ابن الصيفيّ يعني حيص بيص فيبادر الرائي إلى الشاعر ويسمع أبياته التي ما نَظَمها إلاّ في ليلته:
ملكنا فكان العفو منّا سجيّة فلمّا ملكتم سال بالدم أبطح
[..]
فحسبكم هذا التفاوت بيننا وكلّ إناء بالذي فيه ينضح
إنّ الشعر كان، في غالب الأحيان، المادّة الحاضرة في هذه التراجم، وهو هنا يمثّل إجابة عن سؤال الرائيّ، لأنّ عليّا استعاض عن الإجابة مباشرة بالإحالة على ثلاثة أبيات للشاعر تتضمّن صفوة المقال في ما بدر من آل البيت في فتح مكّة، وما صنع بنو أميّة مع الحسيْن أحد أحفاد آل البيت.
إنْ كان هذا الحلم يمكّن من اللّقاء برابع الخلفاء الراشدين فإنّ أحلامًا كثيرة أتاحت اللّقاء بالرسول أيضًا، وهو ما كان، مثلاً، في ترجمة يعقوب بن سفيان بن جُوَان (نكت، ص 312) الذي كان نسّاخًا فعمي وأسف واشتدّ بكاؤه حتّى نام، فرأى النبيّ في النوم”.. فناداني يا يعقوب بن سفيان لِمَ بكيت؟ فقلت يا رسول اللّه ذهب بصري فتحسّرت على ما فاتني من كتب سنّتك وعلى الانقطاع عن بلدي، فقال ادنُ منّي فدنوت منه فأمرّ يده على عيني كأنّه يقرأ عليهما ثمّ استيقظت فأبصرت فأخذت نسختي وقعدت أكتب في السراج“. هكذا يتّصل المنامُ باليقظة، فالبكاء في اليقظة متّصل بالبكاء في المنام، والدواء في المنام يشفي في اليقظة. إنّ هذا الصنف المخصوص من الأحلام التي يُرى فيها النبيّ على أهمّية كبيرة لما لها من منزلة بين سائر المنامات. لقد درج المسلمون على اعتبار رؤية النبيّ حقّا وصدقًا أسوة بالحديث الذي أسّس لها: من رآني فذلك حقّ لأنّ الشيطان لا يقدر أن يتلبّسني، فرؤيته في المنام واللّقاء به عدّ لقاء فيزيائيّا لا ذهنيّا. ولمّا كان الأمر كذلك أمكن للنبيّ أنْ يأمر وينهى، أي أنْ يشرّع، من وراء القبر وعبر الأحلام. في ترجمة اللّغويّ المحدّث أبي عبيد اللّه القاسم بن سلاّم (تـ223 هـ (وفيات مج 4 - 60 )) يروي ابن خلّكان عن أبي بكر الزبيدي في كتاب التقريظ أنّ ابن سلاّم بعد أنْ أتمّ الحجّ وهمّ بالعودة إلى العراق واكترى لذلك راحلة رأى في اللّيلة التي تسبق عودته النبيّ جالسًا صباحًا والناس يدخلون فيسلّمون عليه فمُنع الدخولَ على النبيّ إلاّ أنْ يلغي نهائيّا فكرة الخروج عن الحرم، فلمّا وافق أُذن له فدخل وسلّم على النبيّ. ويذكر ابن خلّكان أنّ ابن سلاّم جاور الحرم إلى أنْ مات هناك. بل إنّ الموت نفسه يغدو أمرًا نبويّا، فهذا ابن نباتة أبو يحيى عبد الرحمان تـ 374 هـ (وفيات مج 3 / 401 – 402) يرى النبيّ في المنام فيضع مِنْ لُعَابه في فيه. يخبرنا ابن خلّكان أنّ الرجل لم يمكث إلاّ قليلا حتّى مات.
أمّا أحد الزهّاد، وهو ابن مزدئن أبو عليّ القومسانيّ (الوافي، 3486) فرأى”ربّ العزّة في المنام سنة إحدى وثمانين فناولني كوزيْن شبه القوارير فشربت منهما فانتبهت وأنا أتلو هذه الآية: وسقاهم ربّهم شراباً طهورًا / الإنسان.21 .“وتظهر بوضوح ، دأبَ أحلام الزهّاد، تيمةُ الزهد وأخْذُ النفس على شظف العيش حتّى أنّ اللّه بنفسه كان يسقي القومسانيَّ شرابًا طهورًا. يروي الزاهد نفسه”رأيت مرّة ربّ العزّة في المنام في أيّام القحط فقال لي: يا أبا عليّ (يكنّيه !) لا تشغل خاطرك فإنّك عيالي وعيالك عيالي وأضيافك عيالي..“إنّ رؤية اللّه كانت من أكثر المواضيع جدلا بين مُقرٍّ بإمكانيّة الرؤية ومنكر لها، وهي من الأسئلة الكلاميّة، غير أنّ الحلم يتمرّد على المحظور. ومن الملاحظ أنّ رؤية اللّه تعلّقت بفئة من الزهّاد والأولياء.
أمّا الشاطبيّ (نكت ص 229 ) فتجادل، وإنْ لم يذكر أكان ذلك في اليقظة أم في المنام، مع الشيطان”قال السخاوي: قال لي يوما جرت بيني وبين الشيطان مخاطبة، فقال: فعلتَ كذا، فسأهلكك، فقلت: واللّه، ما أبالي بك.“
هـ - الموضوعات:
إذا استثنينا الأحداث المستقبليّة التي تتنبّأ بها بعض الأحلام المجازيّة، فإنّ أبرز الموضوعات التي تستقطب الاهتمام هي موضوعات التوبة والعقاب والغفران.
التوبة حدث يغيّر أفق الانتظار لدى قارئ التراجم، فعبر هذه اللحظة التي تتوب فيها الشخصيّة عمّا تعورف بين الناس يتغيّر مسارها ويتبدّل مصيرها. تحثّ طائفة واسعة من التراجم على طريق التوبة، لأنها من الموضوعات الدينيّة المتواترة في ذهنيّة القدماء. تتّصل مثل هذه الموضوعات، خاصّةً، بفئة الصالحين أو الزهّاد والأولياء. نقرأ في ترجمة بشر الحافي (وفيات،مج 1 ص 114) عن سبب توبته أنّه أصاب في الطريق ورقة وفيها اسم اللّه تعالى مكتوب وقد وطئتها الأقدام فأخذها واشترى بدراهم كانت معه غالية فطيّب بهاالورقة وجعلها في شقّ حائط، فرأى في النوم كأنّ قائلا يقول له: يا بشر طيّبت اسمي لأطيّبنّ اسمك في الدنيا والآخرة، فلمّا تنبّه من نومه تاب. تكمن أهمّية هذا الحلم في كونه يؤسّس لسيرة بشر الحافي الزاهد المشهور انطلاقًا من حلم يعقب حادثةً في الطريق. ولعلّه بدءا من هذه التوبة ستترسّخ صورة الرجل في أحلام كثيرة تجسّد زهده وصلاحه إلى أن يُكافأ عنهما بعد موته فيبيح له اللّه رؤية وجهه.
أمّا موضوع العقاب فإنّه ورد، على قلّته، استمرارًا لصورة الشخصيّة كما كانت في معاشها، من ذلك ما ورد في ترجمة سعيد بن جبير (وفيات، مج 2 261 ) عن الحجّاج من أنّه”رئي في النوم بعد موته، فقيل له ما فعل اللّه بك؟ فقال قتلني بكلّ قتيل قتلته قتلةً، وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلةً“. يتماسّ هذا الحلم عن الحجّاج مع الأخبار الكثيرة التي حفظتها كتب الأخبار والتواريخ عنه، بل إنّ الحلم نفسه يعكس ما عرف به من شدّة وغلظة ( في العقد الفريد لابن عبد ربّه ( ج 3 ص 25 ) ذُكر أنّ الحجّاج أجاب من رآه إجابتَه في الحلم المذكور في الوفيات، إلاّ أنّ السائل رآه ثانية في المنام بعد عام فكرّر عليه نفس السؤال وحينها أجابه الحجّاج: يا عاضّ بظر أمّه. ألم تسألنيه قبل عام وأجبتك عنه!)
ومن الملاحظ أنّ منامات العقاب إذا استثنينا منامات الحجّاج والشاعر ابن منير الطرابلسيّ، تُساق حول أشخاص ليسوا هم موضوع الترجمة، من ذلك ما نقرأه في ترجمة زبيدة أمّ الأمين (وفيات، مج 2 242 ) حين”رآها عبد اللّه بن المبارك الزمن في المنام فقال لها: ما فعل اللّه بك؟ قالت غفر لي اللّه بأوّل معول ضرب في طريق مكّة، قال: قلت وما هذه الصفرة في وجهك؟ قالت: دُفن بين ظهرانينا رجل يقال له بشر المريسيّ فزفرت جهنّم عليه زفرة فاقشعرّ لها جسدي، فهذه الصفرة من تلك الزفرة.." يمكن أنْ نعدّ هذا الحلم مزدوج الموضوع، فمن ناحية هو يتنزّل ضمن منامات الغفران بالنسبة إلى صاحبة الترجمة (زبيدة زوج الرشيد وأمّ الأمين)، ومن ناحية ثانية يتنزّل ضمن منامات العقاب بالنظر إلى بشر المريسيّ الذي سأل عنه الرائي عبد اللّه بن المبارك. ويرجّح دخول هذا الشخص في حلم يرد في ترجمة غيره أنْ يكون هو مقصد الحلم، وما زبيدة إلاّ الوسيط بين الرائيّ والمسؤول عنه.
أمّا أحلام الغفران فهي الأوسع تواترًا في التراجم، وهذا مفهوم بالنظر إلى القاعدة المؤسّسة لكتابة التراجم عامّةً، فالأعلام المذكورون فيها، وبصرف النظر عن مساوئهم ومعايبهم الخلقيّة، يمتّون بآصرة مّا تصغر أو تكبر إلى مؤلّف التراجم، وهذه الآصرة تحفزه على التقاط أيّ حلم يفيد أنّ الغفران كان هو المآل.
للحلم في الثقافة العربيّة جذور قديمة انطوى عليها كلام العرب وحياتهم وثقافتهم قبل الإسلام وبعده، بل إنّه ليجوز القول، مع غرونباوم G.E.Von Grunebaum أنْ ليس ثمّ مرحلةٌ في تاريخ الإسلام والمسلمين لم يكن للحلم فيها دورٌ ( Von Grunebaum G.E: La fonction culturelle du rêve dans l’Islam classique, in. Le rêve et les sociétés humaines, ed. G.E.von Grünbaum et Roger Caillois, Paris 1967, p.11). وكانت الأحلام مادّة خصبة لأعمال كتابيّة مختلفة، في تاريخ الإسلام تجلّت في النصّ المؤسّس وما حام حوله من مدوّنة الحديث النبويّ ومن نصوص تفسيريّة، واستوت أدبًا قائمًا بذاته مع كتب المنامات وتعبير الرؤي. لقد دلّت وفرة هذه المادّة ورسوخها على تأصّل ظواهر الأحلام والرؤى في هذه الثقافة.
أنزل الحديث النبويّ الرؤيا منزلة رفيعة، فعدّ الرؤيا الصادقة جزءًا من النبوّة وعدّ أصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثا، بل كانت الرؤيا تقود، في أحيان كثيرة، خطى النبيّ وتحدّد أعماله وتهدي المؤمنين وتستشرف لهم حوادث المستقبل. بمثل هذه المنزلة صار للرؤى والأحلام سلطة على حياة المسلم شبّهها بعضهم بالسلطة التي للحديث النبويّ نفسه لجامع التهذيب وإصلاح المعاش والتوطيد للمعاد في كليْهما. وحين غاب شخصُ النبيّ وانقطع الوحي واصل الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون الاتّكاء على هذا الإرث النبويّ، واستمرّ المسلمون في التواصل مع عالم الوحي عبر حجاب المنامات والأحلام.
إنّ للأحلام، في كلّ تجلّياتها الدينيّة والثقافيّة والأخلاقيّة وعبر مختلف تجسّداتها النصّية، خطرًا عظيما في تاريخ الإسلام أهّلها إلى أنْ تكون مصدرًا من مصادر المعرفة المتعالية ووسيلة عبرها تتنقّل الأفكار وبها تدرك الشرعيّة.
من البيان السيريّ إلى النصّ الحلميّ
تعلّق النظرُ بالفحص في البيانات السيريّة داخل كتب التراجم العامّة، من خلال مدوّنة مخصوصة هي على الترتيب “وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان مما ثبت بالنقل والسماع أو أثبته العيان” لابن خلّكان (ت 681 هـ) و“الوافي بالوفيات” و“نكت الهميان في نُكت العميان” لصلاح الدين الصفديّ (تـ 764 هـ).
تقوم هذه النماذج على مادّتين، الأولى مادّة تسجيليّة (تاريخيّة) تتوسّل “الحقائق” والثانية مادّة تصويريّة تتوسّل الخوارق، أيْ إنّها تقوم على وازع موضوعيّ تدّعيه على الأقلّ، وتعرض مادّتها على أنّها حقائق تاريخيّة يرد الحلم في سياقها عنصرا غير قارّ. ثمّة جملة من المبادئ الرئيسيّة التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار عند قراءة هذه النصوص والعمل على الاستفادة منها في التأريخ للأعلام وفي التوثيق للأحداث. فلا يمكن التعامل مع الكتابات التأريخيّة المذكورة على أنّها بيانات جافّة أيْ معطيات خام قابلة للاستخدام والاستدلال التاريخيّ أو جذاذات جاهزة للاستشهاد والاستثمار العلميّ، وإنّما ينبغي مكاشفتها كياناتٍ سيميائيّةً شديدة التعقيد. ينضاف إلى التعقيد الذي يطرحه الخطاب التاريخيّ كما يتجلّى في البيان السيريّ تعقيدٌ آخر يمسّ جوهر التقييم في وحدة الترجمة أعني تخصيصًا بنية النصّ الحلميّ. إنّ الحلم علامة لصاحبه قبل أنْ يدخل في الترجمة فإذا سيق في ترجمة معيّنة أصبح علامة داخل النسق السيميائيّ للسيرة. على أنّه لا وجود للحلم خارج اللّغة، فهو إلى السرد مشدود من خلال ارتباط الأحلام بالتأويل، والتأويل لا ينعقد إلاّ عبر سيرورة هذه التجربة “الحُلميّة” إلى أحاديث أو إلى قصص. ثمّ إنّ هذا السرد نفسه محكوم بالسياق التلفّظيّ الذي ينتظمه وهو الذي يعطيه تأطيرا مناسبا لعمليّة التأويل. واستلهاما من هذه المقاربة فإنّ النصّ الحلميّ ينضوي في البيان السيريّ ليصبّ في ما يمكن أنْ يُسمّى مرحلة التقييم، وهو تقييم يرد، في الغالب، في آخر الترجمة ويوازي، أحيانا، في طوله وأهمّيته سيرةَ المترجَم نفسها.
تبيّن، خلل الفحص في بنية الترجمة، وجود مادّة تطرح نفسها على أنّها حقائق وهي المعلومات التي لا تتغيّر عادة، إلاّ في حجمها وترتيبها أثناء مسيرتها من عمل إلى آخر، ومادّة تصويريّة تتمثّل في البناء السرديّ للترجمة. في هاتين المادّتين عناصر قارّة وأخرى غير قارّة. من العناصر القارّة التيتمثّل المعلومات الجوهريّة الأساسيّة للترجمة: لقب الشخص وكنيته واسمه ونسبه وموطنه ومجال تخصّصه وصنعته وشيوخه وتلاميذه وتاريخ مولده ومكانه وتاريخ وفاته ومكانها وفضائله ومساوئه. ومن غير العناصر القارّةشهادات المعاصرين فيه وبعض الوثائق المستمدّة من المصنّفات والشعر والرسائل ومذهبه ومسلكه وقدراته العلميّة، وقد تنضاف إلى هذه العناصر حكايةُ الحلم من خلال سرد منامات لصاحب الترجمة أو لغيره فيه.
لعلّ عنصر الحلم، وهو العنصر غير القارّ، يصير، في التراجم التي تحتوي أحلاما، منتهى الترجمة ومحلّ استقطاب سائر العناصر والنقطة البؤريّة التي يتمركز فيها تفاعل القوانين المختلفة في النصّ السيريّ.
ينتج الحلم الذي يورده المؤلّف في أدب الوفيات لصاحب الترجمة أو حوله سيميائيّة مخصوصة تسهم، سٍيريًّا، في الإحاطة بالشخصيّة، وتجيب، تاريخيًّا، عن شواغل الراهن الثقافيّ والدينيّ، وتؤصّل، بنيويّا، أدبًا كان سائرا، فيما مضى، هو أدب الحوار مع الموتى.
كتابة الحياة وكتابة الموت
إنّ الالتفات إلى الموت هو بؤرة التراجم وبخاصّة تراجم الوفيات، لأنّ كتابة الحياة تولّدت عن انتهاء هذه الحياة من خلال حدث الموت. تتحوّلُ آليّة المنام حول من مات، في هذا السياق، إلى واسطة من خلالها يصير الحلم حياة ثانية. السيريّ، إذن، موصول بالكتابة: كتابة جملة الأنشطة والأحداث التي تملأ فضاء العمر لفرد مّا بين الولادة والموت. ثمّة حياة تعاش لتعقبها الكتابة. هذا هو المنطق. في كتابة الموت، ثمّة حلمٌ (تجربة سمعيّة بصريّة لها سننها السيميائيّ المخصوص) لا يوجد إلاّ عبر الكتابة (السرد) ومن ثمّة تستخلص الحياة بعد الموت. المنطق هنا مقلوب فالكتابة في مجال الأحلام تسبق الحياة. إنّ الحلم، كما قال بول فاليري، هو مجرّد فرضيّة لأنّنا لا ندركه إلاّ من خلال التذكار. النوم هو قناة التواصل بين الحياة والموت من خلال ما يُرى أثناء المنام، إضافة إلى طرق أخرى ثانويّة لعلّ أهمّها ما تتيحه المحاورة مع أشخاص عادوا من تجربة الموت الإكلينيكيّ.
في الحلم يتمّ الصعود من العالم الأرضيّ إلى العالم العلويّ للالتقاء بمن مات كما يقع العكس، أي إنّ الميت ينزل من مقرّه العلويّ إلى الأرض ليخبر الأحياء عن الآخرة، وتتحوّل الصيغة من “رأيت في المنام” إلى “أتاني آتٍ في المنام” مع الملاحَظة أنّ شخصيّة الميّت تحافظ على سماتها الدنيويّة في الغالب. وإذا كان الموت بؤرة تراجم الوفيات فإنّ بؤرة جانب كبير من المنامات فيها تنعقد حول سؤال مركزيّ: “ما صنع اللّه بك ؟” مشفوعا، في حال الغفران، بالسؤال المشهور: بم غفر لك؟
ثمّة، إذن، ضفيرة ثلاثيّة في أدب الوفيات من خلال نماذجه المدروسة بين الحياة والموت والحلم، تفصح عنها عناوين المدوّنة (وفيات الأعيان لابن خلّكان، الوافي بالوفيات للصفديّينضاف إليهما كتاب فوات الوفيات للكتبيّ ( تـ 763 هـ ) وهو الحلقة الوسطى بين ابن خلّكان والصفديّ ). تشترك عناوين المدوّنة في الجذر (و. ف.ي)، وتتمحّض دلالة هذا الجذر على معنى التمام والاكتمال، ومِنْه أوفاه أتمّه، وتكون الوفاة وهي المنيّة والموت أو الأجل في التسمية الإسلاميّة تمامَ عمر الإنسان. على أنّ اللّحظات الأولى من النوم، أيضًا، صورةٌ للموت عندما يسري الخمود في فكر الإنسان، ولذلك فإنّه يقال للنائم توُفّي، وهو استيفاء وقت عقله وتمييزه. النوم، بهذا المعنى، شكل من أشكال الموت.
تظهر ثلاثيّة الحياة والموت والحلم واضحة في مقدّمة الصفديّ لـ“الوافي”، فهو يعتبر تراجم الأعلام محاولة لإبراز منزلة هؤلاء الأفراد، والطريف اعتباره أعمارهم أحلاما جريا على خطى أبي تمّام حين قال من قصيدته في مدح المأمون وطالعها “دِمنٌ ألمّ بها فقال سلامُ * * كمْ حلّ عقدةَ صبره الإلمامُ”:
ثمّ انقضت تلك السنونُ وأهلها ** فكأنّها وكأنّهم أحلامُ
يقول الصفديّ “..حتّى انقضت مددُهم فكأنّها وكأنّهم أحلام”، أو قوله للدّلالة على سرعة الانقضاء “..وأشبهت الحياةُ، وإنْ طال أمدهم، حلم َنايم.”
من البيّن أنّ الترجمة، وهي تأريخ لحياة الأفراد، تتحوّل من خلال تقنيّة الحلم الأخرويّ خاصّة إلى تأريخ لموتهم، ويتحوّل المعنى من كتابة الحياة إلى كتابة الموت. تقع عقدة هذا الاتّصال بين عالم الأموات وعالم الأحياء في الحلم. ولقد كان من الأفكار المقبولة في الإسلام المبكّر والوسيط أنّ يطّلع المرء، من طريق المنام، على أحوال شخص آخر بعد مماته. يمكن أن يقال، إذنْ، إنّ حياة المسلم في العصر الوسيط تشمل حياته في الآخرة، لأنّ سيرة عَلَمٍ مّا لا تنتهي بموته، وإنّما تمتدّ إلى ما بعد الموت. والوفاة لا تشكّل نقطة النهاية إذْ لا يكتمل السرد إلاّ عندما يتحدّد المصير في العالم الآخر. الموت لا يختم حياة المرء وإنّما تستمرّ العلاقة بين الأحياء والأموات وهي علاقة متبادلة فالأحياء يؤثّرون في الأموات والعكس صحيح. يفيد الأحياء من تجربة الأموات مع الموت والحساب والمآل كما يحتاج الأموات إلى صلوات الأحياء وأدعيتهم لهم وزياراتهم للقبور وقضاء ديونهم.
أحلام الأعلام
يَعْرِف المعجم العربيّ المادّتيْن “الرؤيا، الحلم”، غير أنّ النصّ القرآنيّ يخلو تماما من الفعل “حلَم: ومن المصدر”حُلْم / حُلُم“في معنى الرؤيا مفردا. لكنّ صيغة الجمع”أحلام“وردت مرّتيْن فقط مضافةً إلى كلمة أضغاث (أضغاث أحلام) ومحمّلةً، من ثمّة، بدلالة سلبيّة (يوسف 44 ، الأنبياء 5). أمّا ما عدا ذلك فترد الأحلام (من الحُْم) بمعنى العقول والإدراك وبلوغ مبلغ الرجال. على أنّ القرآن يستعمل إلى جانب الرؤيا، المنامَ الذي جعل منه آيةً إلهية.”ومن آياته منامكم بالليل والنهار“الروم /23. يورد صاحب اللّسان قولهم: صحّ الخبر أنّ الرؤيا الصادقة جزء من النبوّة، وأنّه جاء في الحديث أنّ الرؤيا من اللّه والحلم من الشيطان. غير أنّ ابن منظور لا يقرّ هذا التمييز، ويرى أنّ الحلم هو الرؤيا مسوّيا بين اللّفظيْن”والرؤيا والحلم عبارة عمّا يراه النائم في نومه من الأشياء“(ابن منظور، لسان العرب، مادّة حلم. ). ونحن سنشايع ابنَ منظور في التسوية بين الاصطلاحيْن ما دمنا نعدّ كلّ تجربة سمعيّة أو بصريّة تُروى على أنّها حدثت في النوم حلمًا دون التفات إلى الشحنة الدينيّة الإيجابيّة في كلمة الرؤيا بالقياس إلى الشحنة السالبة في الأحلام.
نميّز معجميًّا بيْن أربعة استعمالات لفعل رأى. ثمّة، أوّلا، رأى رؤية العين البصريّة وهي تتعدّى إلى مفعول واحد. وثمّة، ثانيًا، رأى العِلميّة أو القلبيّة والمصدر منها الرؤية، وهي تتعدّى إلى مفعوليْن. وثمّة، ثالثًا، رأى الاعتقاديّة، والمصدر منها الرأي كالقول: رأى رأي الخوارج. وثمّة، رابعًا، رأى الحُلميّة والمصدر منها الرؤيا. فإذا نظرنا إلى الصيغة التي ترد عليها”رأى“في البيانات السيريّة داخل كتب التراجم وجدنا أنّها ترد، في العموم، على صيغتيْن، في المعلوم والمجهول:
- رأيْتُ / رَأَى فلانٌ فلانًا في النوم.
- رُئِيَ فلانٌ بعد موته.
على أنّ بين هذه الصيغ المختلفة لمادّة”رأى“تراشحًا، فتكون”رأى“حُلميّةً باعتبار المفعول فيه (في النوم، بعد موته) وتكون بصريّةً باعتبار المفعول به المتعلّق بالرؤية وهو من المدركات البصريّة (الشخص المذكور في الترجمة)، وتكون رأى اعتقاديّة أو عِلميّةً باعتبار السياق وهو حاصل المعموليْن (المفعول به: البصريّة والمفعول فيه: الحُلميّة . وثمّة صيغة أخرى طريفة يرد عليها الجذر (ر. أ. ي.) وهي الترائي في أدب المنامات، بمعنى تراءَى القومُ أي رأى بعضُهم بعضًا في المنام (جمعها ابن أبي الدنيا في”كتاب المنام “
أ- الفضاء
لقد صار بيّنا، في أدبيّات الأحلام منذ كتاب الأحلام لأرتيميدور إيفاس Artemidore d’Ephèse
( ” Le livre des songes “ L’oneirocritica ) الفصل بيْن نمطيّن من الأحلام، الأوّل الحلم البلاغ وهو ما يمكن تسميته بالحلم الرمزيّ المجازيّ أو ذوات التأويل وهي أحلامٌ رسائلُ تتنبّأ بأحداث مستقبليّة، والنوع الثاني الحلم الواقعة وهي أحلامحرفيّة مباشرة لا تحتاج إلى تفسير أو إلى تأويل وتمثّل واقعا أو ظاهرة، وكلا النمطيْن تحفل به التراجم المدروسة. على أنّ هذا النوع وذاك يظهران في التراجم باعتبارهما وقائع تدخل في حكاية الحلم إلى جانب الوقائع السيريّة الأخرى.
ترد حكايات الأحلام، في الغالب، في وضع يتّجه نحو آخر الترجمة. يتحدّد محلّ الحلم بحسب نوعه، فإذا كان حلمًا من ذوات التأويل فمحلّه غير ثابت، فهو يرد في أثناء الترجمة كما يرد في آخرها، ولكنّه إذا كان حلمًا ظاهرًا يعرض لواقعة أخرويّة فالغالب أنْ يذيّل الترجمة لأنّه مرتبط بحدث الموت. وقلّما عيّنت، بدقّةٍ، حكاياتُ الأحلام في التراجم المدروسة مواقيتها لزمن المنام من ليل أو نهار، واُكْتُفِيَ بعبارة”رأيت في النوم“، وعلى قدر القلّة في التحديد جهد أصحاب الأحلام في تدقيق تواريخ مناماتهم باليوم والشهر والسنة.
ب - النوع
إذا كان حلمُ ذواتِ التأويل أو الحلمُ البلاغُ يتّصل، في الأساس، بمدوّنات التعبير وتفسير الأحلام فإنّ حلم الواقعة / الظاهرة وخاصّة منه ذلك الضرب من الأحلام التي تتّصل بالمصير والمآل الأخرويّ أدخل في أجناس من الأدب كالتراجم والملل ذات الطابع الثقافيّ الجدالي. ُ
* الحلم البلاغ ( المجازيّ ): يحتلّ حيّزا واسعا في التراجم المدروسة، ويقوم على آليّة التنبّؤ بحدث أو أحداث مستقبليّة، وسنقتصر على توجيه هذا النوع إلى حدثيْن هما أشكلُ بمادّة عملنا حول أحلام الأعلام في التراجم أعني حدث الولادة وحدث الموت.
حلم يتنبّأ بالحياة
في ترجمة جرير (تـ 110 هـ وفيات، 130، مجلّد 1) ترد حكاية الحلم على لسان أبي عبيدة الذي قال:”رأت أمُّ جرير في نومها وهي حامل به كأنّها ولدت حبلا من شعر أسود، فلمّا وقع منها جعل ينزو فيقع في عنق هذا فيخنقه، حتّى فعل ذلك برجال كثيرة، فانتبهت مرعوبة، فأوّلت الرؤيا فقيل لها تلدين غلاما شاعرا ذا شرّ وشدّة شكيمة وبلاء على الناس، فلمّا ولدته سمّته جريرا باسم الحبل الذي رأت أنّه خرج منها، والجرير الحبل.“من الملاحظ أنّ هذا النصّ يطرح جملة من الأطراف، فثمّة المرئيّ موضوع الترجمة، هنا، وهو جرير الشاعر الأمويّ، أمّا الرائي فهي أمّ جرير، وهذه الرؤية لم تصل إلينا إلاّ عبر واسطة الراوي وهو أبو عبيدة، أمّا عقدة التأويل في الحلم فهي رمزيّة الحبل. إنّنا، هنا، إزاء أمريْن، الأوّل هو الحلم كما رأته أمّ جرير مع تأويله، أمّا الثاني فهو حكاية الحلم في نصّ الترجمة مسندًا إلى أبي عبيدة، وهو ما يندرج في سيميائيّة الترجمة. الحلم رمزيّ مجازيّ وظيفته تنبئيّة، فكأنّ شخصيّة شاعر الهجاء والنقائض الأمويّ جرير قد تشكّلت من قبل أنْ يولد، وهذا يدفعنا إلى التساؤل عن المسافة بين زمن الحلم وزمن الحكاية، إذ لا شكّ في أنّ ما يعلنه الحلم وتأويله وحكايته قد صيغ كلّه بعد أنْ اتّضحت شخصيّة جرير على ما نعرفه عنه في نقائضه وهجائيّاته لتصبّ في موقف رافض لغرض شعريّ بذاته أكثر منه رفضا لشاعر بعينه.
الصيغة العكسيّة لحلم جرير نجدها في ترجمة الإمام محمّد بن إدريس الشافعيّ (تـ 204 هـوفيات، مج4ترجمة558ص163)”.. وحكى الخطيب في “تاريخ بغداد” عن ابن عبد الحكم قال: لمّا حملت أمّ الشافعيّ به رأت كأنّ المشتري (الكوكب) خرج من فرْجها حتّى انقضّ بمصر، ثمّ وقع في كلّ بلدٍ منه شظيّة، فتأوّل أصحاب الرؤيا أنّه يخرج منها عالم يخصّ علمُه أهلَ مصر ثمّ يتفرّق في سائر البلدان..“. ورد هذا الحلم في وسط الترجمة لا في آخرها. السند هنا فيه حلقتان، فمن جهة هناك الخطيب البغداديّ صاحب”تاريخ بغداد“ومن جهة أخرى هناك عَلَم هو ابن عبد الحكم. الرائي هو أمّ الإمام الشافعيّ والملاحظ، هنا، أنّ هذا الحلم غريب لأنّه محفوف بالحرج، فإذا كان يُقبل من أمّ جرير أنْ ترى في منامها كأنّه ولدت حبلا فإنّه من غير السهل أنْ تخبر أمّ الإمام الشافعيّ أنّها رأت في المنام كأنّ كوكبًا يخرج من فرْجها لينزل في مصر وتقع في كلّ بلد منه شظيّة. على أنّ الخطيب لم يجد في كلّ ذلك أيّ وجه للغرابة مادام يخدم عقيدته أثناء تحوّله عن الحنابلة إلى مذهب الشافعيّ. وهذا الحلم، تمامًا، كالأوّل يبدو أنّه نتاج عصر متأخّر تحدّدت فيه معالم شخصيّة الشافعيّ واحتدّت فيه الخصومة المذهبيّة.
حلم يتنبّأ بالموت
ومن الأمثلة على الحلم الرمزيّ المجازيّ الذي يتنبّأ بالموت ما ورد في ترجمة الحسن البصريّ (تـ 110 هـ نفسه،156)،”... وقال رجل قبل موت الحسن لابن سيرين: رأيت كأنّ طائرا أخذ أحسن حصاة بالمسجد، فقال إنْ صدقت رؤياك مات الحسنُ، فلم يكن إلاّ قليلا حتّى مات الحسن، ولم يشهد ابن سيرين جنازته لشيء كان بينهما ثمّ توفّي بعده بمائة يوم“. من الملاحظ أنّ السارد، وهو هنا الرائي، رجلٌ نكرة، ولذلك اشترط ابن سيرين صدق رؤياه كي يصدق تأويله، غير أنّه يستمدّ المعرفة من المسرود له، وهو هنا المعبِّر الذائع الصيت محمّد بن سيرين، أمّا موضوع الحلم المسرود عنه فهو الفقيه المشهور الحسن البصريّ. عقدة التأويل في حلم الحسن البصريّ تكمن في رمزيّة الحصاة: أحسن حصاة بالمسجد يأخذها طائر. مبعث التأمّل في هذا الحلم تشبيه البصريّ بأحسن حصاة في المسجد، وهل في الحصى مراتبُ في الحُسْن؟ على أنّ في صيغة التفضيل”أحسن“بعض الإجابة، أليس بين اسم التفضيل (أحسن) واسم العلم (الحسن) قرابة الصفة؟ أمّا الطائر فدلالته في الحلم هي الصلة بين الأرض والسماء أيْ بين عالم الشهادة وعالم الغيب ومدلوله الرمزيّ على الهداية والتعليم والإرشاد والإخبار والإنباء معلوم. إذا كان المثير تشبيهَ الحسن البصريّ بأحسن حصاة في المسجد، فالغريب هو تعقيب ابن خلّكان نفسه على الحلم إذ أضاف أنّ ابن سيرين تخلّف عن حضور جنازة الحسن البصريّ”لشيء كان بينهما“، فـمات بعد ذلك بمائة يوم. السؤال: لِمَ هذا التعقيب، وما وجه إدراج هذه الشذرة السيريّة التي تعود إلى ابن سيرين في ترجمة الحسن البصريّ، إنْ لم تكن هناك علاقة بين الأمريْن؟ إنّ ابن سيرين المعبّر والمحدّث أيضًا، على معرفته بأنّ البصريّ هو أحسن ما في المسجد، والمسجد بدلالته العامّة أي جماعة المسلمين في وقته، لم يحضر جنازته لأمر دنيويّ، ولذلك”مات“بعده بمائة يوم. على أنّ هذا الضرب من الأحلام المجازيّة قد يكون قائمًا على الإخبار بالموت إلى حدّ التنبّؤ التاريخيّ وهو ما نجده في ترجمة الحجّاج (وفيات، 149مج2) حول موت أخيه وابنه في يوم واحدوكان قد رأى في منامه أنّ عينيْه قُلعتا، فطلّق زوجيْه اعتقادًا منه أنّ رؤياه تتأوّل بهما، فلم يلبث أنْ جاءه نعي أخيه محمّد من اليمن في اليوم الذي مات فيه ابنه محمّد، فقال: واللّه هذا تأويل رؤياي، محمّد ومحمّد في يوم واحد.
ونقرأ في ترجمة خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاريّ، وهو تابعيّ (تـ 99 هـ وفيات، مج2ترجمة211ص223) وأبوه زيد الصحابيّ أحد كتبة الوحي:” ..وذكر محمّد بن سعد كاتب الواقديّ في الطبقات أنّ خارجة قال: رأيت في المنام كأنّي بنيت سبعين درجة فلمّا فرغت منها تدهورت وهذه السّنةَ لي سبعون سنةً قد أكمَلْتها. قال: فمات فيها..“
*الحلم الواقعة: يطرح هذا النوع الثاني من أحلام الأعلام نفسَه واقعًا لا بلاغًا، ويصدر هذا الطرح عمّا تذهب إليه أدبيّات الأحلام مِنْ أنّ كلّ ما يقوله لك الميّت في المنام حقّ لأنّه في عالم الحقّ.
يعرض هذا الحلم نفسه واقعا ظاهرا لا يقبل بتأويل الرمز أو المجاز. ويمثّل هذا الحلم الذي يعكس ما يدور في المعاد بالأساس أطرفَ أحلام المدوّنة. ما إنْ يموت أحدهم حتّى يراه بعض الناس في المنام في درجات النعيم أو في دركات الجحيم. من الأمثلة على هذا النوع الحلمُ الوارد في ترجمة الشاعر صالح ابن عبد القدّوس (ت 167 هـوفيات، مج2 / 303)”... قال أحمد بن عبد الرحمان المعبّر: رأيت صالح بن عبد القدّوس في المنام ضاحكا مستبشرا فقلت له: ما فعل بك ربّك؟ وكيف نجوت ممّا كنت ترمى به؟ قال: إنّي وردت على ربّ لا تخفى عليه خافية، فاستقبلني برحمته، وقال: لقد علمت براءتك ممّا كنت تقذف به..“. سواء كان الراوي معبّرا للأحلام أو لم يكن كذلك، فإنّ حكاية الحلم، في حدّ ذاتها، تتضمن خلاصة التأويل. ثمّة ثلاث درجات سرديّة، الأولى طرفاها المؤلّف ابن خلّكان وقرّاء الوفيات، الثانية طرفاها الرائي المعبّر ابن عبد الرحمان وموضوع الترجمة ابن عبد القدّوس، الدرجة الثالثة طرفاها ابن عبد القدّوس والله. تقوم حكاية الحلم هذه، بمختلف درجاتها، على عناصر متدرّجة من الهدوء البادي في هيئة الشاعر ابن عبد القدّوس (الضحك والاستبشار) إلى التوتّر في سؤال الراوي له عن كيفيّة نجاته ممّا كان يرمى به إلى التوازن النهائيّ حين حسم الشاعر الأمر ونفى جميع ما رُمِي به، فاللّه الذي قُتِل ابنُ عبد القدّوس بأمره في الدنيا لا تخفى عليه خافية، وهو”قد علم“ببراءته ممّا كان يُقْذَف به. ينكشف، عندئذ، أنّ إدراج مثل هذا الحلم عن مآل ابن عبد القدّوس يتضمّن موقفا إيجابيّا من صاحب الترجمة.
ج – التركيب:
إنّ المتتبّع لمدوّنة الأحلام في تراجم الوفيات يصطدم بتعقّدها، فليست أحلامُ علمٍ مخصوص مندرجةً في ترجمته بالضرورة، إذ قد يُورَد حلمُ شخصٍٍ مّا في ترجمته، كما يورد في ترجمة غيره. وقد يرد الحلم من أحد وجهيْن، إمّا أنْ يكون مَن رأى الحلم هو صاحب الترجمة، وإمّا أنْ يكون الرائي غيرَ صاحب الترجمة. هذا النوع الثاني قد يكون أحد معاصري موضوع الحلم أو أحدَ معارفه (ابنه مثلا) كما في ترجمة داود الظاهريّ (وفيات، مج 2 ص 223 )” ..وقال ولده أبو بكر محمّد رأيت أبي داود في المنام فقلت له: ما فعل اللّه بك؟ فقال غفر لي وسامحني فقلت: غفر لك، ففيم سامحك؟ فقال: يا بنيّ الأمر عظيم، والويل كلّ الويل لمن لم يُسامحْ..“وقد يكون الرائي هو المؤلّف نفسه، كما هو في الحلم الوارد في ترجمة أبي علي الفارسيّ (نفسه، 163)، حين رأى ابنُ خلّكان في المنام في سنة ثمانية وأربعين وستمائة بالقاهرة ثلاثة أشخاص أنشده أحدهم ثلاثة أبيات لأبي علي الفارسيّ ولم يكن المؤلّف يعهده شاعرا، فلمّا استيقظ علق على خاطره البيت الأخير منها. وقد يكون الرائي نكرة (ترجمة الحسن البصريّ المذكورة)، أو مجهولا، كما في ترجمة سعيد بن جبير (نفسه، 261)”..ويُقال إنّه رئي الحجّاج في النوم بعد موته، فقيل له ما فعل اللّه بك؟ فقال قتلني بكلّ قتيل قتلته قتلةً، وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلةً“. ومن الملاحظ أنّ حكاية الأحلام في ترجمة سعيد بن جبير قد دارت حول الحجّاج ممّا يطبعها بالمقتضيات التاريخيّة.
على أنّ التركيب قد يظهر في مستوى آخر، فقد يكون الحلم بسيطًا مجازيّا أو حرفيًّا، يتناول شخصًا واحدًا ويستهدف اتّجاها معيّنا في التأويل، ولكنّه قد يكون مركّبًا يتضمّن الشكليْن معًا، فيتنبّأ بحدث الموت من جهة ويخبر عن أحوال المعاد من جهة أخرى. يورد الصفديّ في ترجمة الشريف المرتَضى (الوافي، ج 1 ص 49) قول أبي العبّاس الجوهريّ” رأيت السيد أبا المعالي بعد موته وهو في الجنّة وبين يديه طعام، وقيل له ألا تأكل؟ فقال لا حتّى يجيء ابني فإنّه غداً يجيء، فلمّا انتبهتُ وذلك في رمضان سنة (بياض) وتسعين وأربعمائة قتُلِ َابنه أبو الرضا ذلك اليومَ...“. نحن في هذا الحلم المزدوج أمام خبر عن مصير المرتضى من جهة فهو من أهل الجنّة المكرّمين، ومن جهة أخرى نحن أمام تنبّؤ بموت ابنه من الغد. الملاحظ في حلم الجوهريّ تحديده تاريخًا دقيقًا لزمن الرؤيا، وهو شهر رمضان سنة ؟49 ولكنّ الطريف أنّه استعمل عبارة”فلمّا انتبهت“وليس أفقت أو استيقظت، ممّا يدعم كونَه حلمًا نهاريًّا أو إغفاءة رمضانيّة بدليل حضور الطعام بين يديْ المرتضى!
يظهر مستوى آخر من التركيب في مدوّنة الأحلام حين يكون الحلم متواردا بين شخصيْن، كما هو الحال في ترجمة المتوكّل على اللّه (وفيات، مج 1 - 134)، وهو حلم طريف يرويه عليّ بن الجهم الشاعر، ويجمع بين المتوكّل وجاريته محبوبة، وقد غضب عليها فهجرها إلى أن رآها في المنام وكأنّه رضي عنها وصالحها. قال ابن الجهم:”..فواللّه إنّا لفي ذلك إذ جاءت وصيفة فقالت يا أمير المؤمنين سمعت صوت عود من حجرة محبوبة، فقال قم بنا يا عليّ ننظر ما تصنع، فنهضنا حتّى أتينا حجرتها فإذا هي تضرب العود وتغنّي:
فهل شفيع لنا إلى ملك ** قد زارني في الكرى وصالحني
حتّى إذا ما الصباح لاح لنا ** عاد إلى هجره فصارمني
قال فصاح أمير المؤمنين وصحت معه[ ...] قالت يا مولاي رأيت في ليلتي كأنّك رضيت عنّي فتعللّت بما سمعتَ، قال وأنا واللّه رأيت مثل ذلك، فقال لي يا عليّ رأيت أعجب من هذا كيف اتّفق؟..“
د - الشخصيّات:
تتنوّع الشخصيّات التي نلتقي بها في الأحلام، فليس الشخص موضوع الحلم هو وحده من يعمر هذا العالم، وإنّما يتيح منطق الحلم اللّقاء بين أشخاص معاصرين للشخص موضوع الترجمة كما يتيح اللّقاء بيْن الشخصيّات على تباعدها في الزمان والمكان أو في المنزلة والمقام. في ترجمة رابعة العدويّة (وفيات، مج 2 - 231) تراها خادمتها عبدة، بعد سنة من موتها، في أجمل هيأة وأبهى حلّة على زهدها في الدنيا، فتسألها عن مقامها في النعيم، ثمّ تسألها عن غيرها”فما فعلت عبيدة بنت أبي كلاب؟ (...) ما فعل أبو مالك؟ (...) وما فعل بشر بن منصور؟ “. يصير الحلم في ترجمة رابعة العدويّة محلاّ للإخبار لا عن مآلها هي وحسب، وإنّما عن مآل غيرها من الأعلام.
أمّا في ترجمة حيص بيص الشاعر (وفيات، مج 2 - 258)، فيرى الراوي الشيخ نصر اللّه بن مجلى وهو معاصر للشاعر (تـ 574 هـ) عليّا بن أبي طالب في المنام”فقلت يا أمير المؤمنين، تفتحون مكّة فتقولون من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثمّ يتمّ على ولدك الحسين يوم الطفّ ما تمّ؟“. لا يجيبه عليّ بن أبي طالب مباشرة ولكنّه يحيله على أبيات قالها ابن الصيفيّ يعني حيص بيص فيبادر الرائي إلى الشاعر ويسمع أبياته التي ما نَظَمها إلاّ في ليلته:
ملكنا فكان العفو منّا سجيّة فلمّا ملكتم سال بالدم أبطح
[..]
فحسبكم هذا التفاوت بيننا وكلّ إناء بالذي فيه ينضح
إنّ الشعر كان، في غالب الأحيان، المادّة الحاضرة في هذه التراجم، وهو هنا يمثّل إجابة عن سؤال الرائيّ، لأنّ عليّا استعاض عن الإجابة مباشرة بالإحالة على ثلاثة أبيات للشاعر تتضمّن صفوة المقال في ما بدر من آل البيت في فتح مكّة، وما صنع بنو أميّة مع الحسيْن أحد أحفاد آل البيت.
إنْ كان هذا الحلم يمكّن من اللّقاء برابع الخلفاء الراشدين فإنّ أحلامًا كثيرة أتاحت اللّقاء بالرسول أيضًا، وهو ما كان، مثلاً، في ترجمة يعقوب بن سفيان بن جُوَان (نكت، ص 312) الذي كان نسّاخًا فعمي وأسف واشتدّ بكاؤه حتّى نام، فرأى النبيّ في النوم”.. فناداني يا يعقوب بن سفيان لِمَ بكيت؟ فقلت يا رسول اللّه ذهب بصري فتحسّرت على ما فاتني من كتب سنّتك وعلى الانقطاع عن بلدي، فقال ادنُ منّي فدنوت منه فأمرّ يده على عيني كأنّه يقرأ عليهما ثمّ استيقظت فأبصرت فأخذت نسختي وقعدت أكتب في السراج“. هكذا يتّصل المنامُ باليقظة، فالبكاء في اليقظة متّصل بالبكاء في المنام، والدواء في المنام يشفي في اليقظة. إنّ هذا الصنف المخصوص من الأحلام التي يُرى فيها النبيّ على أهمّية كبيرة لما لها من منزلة بين سائر المنامات. لقد درج المسلمون على اعتبار رؤية النبيّ حقّا وصدقًا أسوة بالحديث الذي أسّس لها: من رآني فذلك حقّ لأنّ الشيطان لا يقدر أن يتلبّسني، فرؤيته في المنام واللّقاء به عدّ لقاء فيزيائيّا لا ذهنيّا. ولمّا كان الأمر كذلك أمكن للنبيّ أنْ يأمر وينهى، أي أنْ يشرّع، من وراء القبر وعبر الأحلام. في ترجمة اللّغويّ المحدّث أبي عبيد اللّه القاسم بن سلاّم (تـ223 هـ (وفيات مج 4 - 60 )) يروي ابن خلّكان عن أبي بكر الزبيدي في كتاب التقريظ أنّ ابن سلاّم بعد أنْ أتمّ الحجّ وهمّ بالعودة إلى العراق واكترى لذلك راحلة رأى في اللّيلة التي تسبق عودته النبيّ جالسًا صباحًا والناس يدخلون فيسلّمون عليه فمُنع الدخولَ على النبيّ إلاّ أنْ يلغي نهائيّا فكرة الخروج عن الحرم، فلمّا وافق أُذن له فدخل وسلّم على النبيّ. ويذكر ابن خلّكان أنّ ابن سلاّم جاور الحرم إلى أنْ مات هناك. بل إنّ الموت نفسه يغدو أمرًا نبويّا، فهذا ابن نباتة أبو يحيى عبد الرحمان تـ 374 هـ (وفيات مج 3 / 401 – 402) يرى النبيّ في المنام فيضع مِنْ لُعَابه في فيه. يخبرنا ابن خلّكان أنّ الرجل لم يمكث إلاّ قليلا حتّى مات.
أمّا أحد الزهّاد، وهو ابن مزدئن أبو عليّ القومسانيّ (الوافي، 3486) فرأى”ربّ العزّة في المنام سنة إحدى وثمانين فناولني كوزيْن شبه القوارير فشربت منهما فانتبهت وأنا أتلو هذه الآية: وسقاهم ربّهم شراباً طهورًا / الإنسان.21 .“وتظهر بوضوح ، دأبَ أحلام الزهّاد، تيمةُ الزهد وأخْذُ النفس على شظف العيش حتّى أنّ اللّه بنفسه كان يسقي القومسانيَّ شرابًا طهورًا. يروي الزاهد نفسه”رأيت مرّة ربّ العزّة في المنام في أيّام القحط فقال لي: يا أبا عليّ (يكنّيه !) لا تشغل خاطرك فإنّك عيالي وعيالك عيالي وأضيافك عيالي..“إنّ رؤية اللّه كانت من أكثر المواضيع جدلا بين مُقرٍّ بإمكانيّة الرؤية ومنكر لها، وهي من الأسئلة الكلاميّة، غير أنّ الحلم يتمرّد على المحظور. ومن الملاحظ أنّ رؤية اللّه تعلّقت بفئة من الزهّاد والأولياء.
أمّا الشاطبيّ (نكت ص 229 ) فتجادل، وإنْ لم يذكر أكان ذلك في اليقظة أم في المنام، مع الشيطان”قال السخاوي: قال لي يوما جرت بيني وبين الشيطان مخاطبة، فقال: فعلتَ كذا، فسأهلكك، فقلت: واللّه، ما أبالي بك.“
هـ - الموضوعات:
إذا استثنينا الأحداث المستقبليّة التي تتنبّأ بها بعض الأحلام المجازيّة، فإنّ أبرز الموضوعات التي تستقطب الاهتمام هي موضوعات التوبة والعقاب والغفران.
التوبة حدث يغيّر أفق الانتظار لدى قارئ التراجم، فعبر هذه اللحظة التي تتوب فيها الشخصيّة عمّا تعورف بين الناس يتغيّر مسارها ويتبدّل مصيرها. تحثّ طائفة واسعة من التراجم على طريق التوبة، لأنها من الموضوعات الدينيّة المتواترة في ذهنيّة القدماء. تتّصل مثل هذه الموضوعات، خاصّةً، بفئة الصالحين أو الزهّاد والأولياء. نقرأ في ترجمة بشر الحافي (وفيات،مج 1 ص 114) عن سبب توبته أنّه أصاب في الطريق ورقة وفيها اسم اللّه تعالى مكتوب وقد وطئتها الأقدام فأخذها واشترى بدراهم كانت معه غالية فطيّب بهاالورقة وجعلها في شقّ حائط، فرأى في النوم كأنّ قائلا يقول له: يا بشر طيّبت اسمي لأطيّبنّ اسمك في الدنيا والآخرة، فلمّا تنبّه من نومه تاب. تكمن أهمّية هذا الحلم في كونه يؤسّس لسيرة بشر الحافي الزاهد المشهور انطلاقًا من حلم يعقب حادثةً في الطريق. ولعلّه بدءا من هذه التوبة ستترسّخ صورة الرجل في أحلام كثيرة تجسّد زهده وصلاحه إلى أن يُكافأ عنهما بعد موته فيبيح له اللّه رؤية وجهه.
أمّا موضوع العقاب فإنّه ورد، على قلّته، استمرارًا لصورة الشخصيّة كما كانت في معاشها، من ذلك ما ورد في ترجمة سعيد بن جبير (وفيات، مج 2 261 ) عن الحجّاج من أنّه”رئي في النوم بعد موته، فقيل له ما فعل اللّه بك؟ فقال قتلني بكلّ قتيل قتلته قتلةً، وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلةً“. يتماسّ هذا الحلم عن الحجّاج مع الأخبار الكثيرة التي حفظتها كتب الأخبار والتواريخ عنه، بل إنّ الحلم نفسه يعكس ما عرف به من شدّة وغلظة ( في العقد الفريد لابن عبد ربّه ( ج 3 ص 25 ) ذُكر أنّ الحجّاج أجاب من رآه إجابتَه في الحلم المذكور في الوفيات، إلاّ أنّ السائل رآه ثانية في المنام بعد عام فكرّر عليه نفس السؤال وحينها أجابه الحجّاج: يا عاضّ بظر أمّه. ألم تسألنيه قبل عام وأجبتك عنه!)
ومن الملاحظ أنّ منامات العقاب إذا استثنينا منامات الحجّاج والشاعر ابن منير الطرابلسيّ، تُساق حول أشخاص ليسوا هم موضوع الترجمة، من ذلك ما نقرأه في ترجمة زبيدة أمّ الأمين (وفيات، مج 2 242 ) حين”رآها عبد اللّه بن المبارك الزمن في المنام فقال لها: ما فعل اللّه بك؟ قالت غفر لي اللّه بأوّل معول ضرب في طريق مكّة، قال: قلت وما هذه الصفرة في وجهك؟ قالت: دُفن بين ظهرانينا رجل يقال له بشر المريسيّ فزفرت جهنّم عليه زفرة فاقشعرّ لها جسدي، فهذه الصفرة من تلك الزفرة.." يمكن أنْ نعدّ هذا الحلم مزدوج الموضوع، فمن ناحية هو يتنزّل ضمن منامات الغفران بالنسبة إلى صاحبة الترجمة (زبيدة زوج الرشيد وأمّ الأمين)، ومن ناحية ثانية يتنزّل ضمن منامات العقاب بالنظر إلى بشر المريسيّ الذي سأل عنه الرائي عبد اللّه بن المبارك. ويرجّح دخول هذا الشخص في حلم يرد في ترجمة غيره أنْ يكون هو مقصد الحلم، وما زبيدة إلاّ الوسيط بين الرائيّ والمسؤول عنه.
أمّا أحلام الغفران فهي الأوسع تواترًا في التراجم، وهذا مفهوم بالنظر إلى القاعدة المؤسّسة لكتابة التراجم عامّةً، فالأعلام المذكورون فيها، وبصرف النظر عن مساوئهم ومعايبهم الخلقيّة، يمتّون بآصرة مّا تصغر أو تكبر إلى مؤلّف التراجم، وهذه الآصرة تحفزه على التقاط أيّ حلم يفيد أنّ الغفران كان هو المآل.