عبد الحافظ الحوارات - الحاجةُ إلى الصَّخَب

هل العزلة والفراغ نعمة؟ يؤمن الكثيرون بصحّة العلاقة السببيّة بين العزلة والكتابة، غير أنّي لستُ من ذاك الكثير. لمْ أستطع إنتاج شيء مكتوب باليد طيلة أسابيع الحظر الماضية، اللهم سوى آثار أقدامي في مسارات الرياضة خلف البيت. هل تُنتج العزلة في جميع حالاتها شيئاً ذا قيمة؟ يقودني هذا التساؤل لأيام دراستي الجامعيّة الأولى حينما كانت المكتبة ملاذاً طبيعياً لمن ابتُليَ مِثلي بعشق تخصص علمي كنتُ أعتقد ببلاهة أنّنا في أمسّ الحاجة إليه على مستوى الأمّة كي ننهض. ارتميتُ لأجل ذاك الهدف بين دفّات الكتب القيّمة التي تغفو فوق الرفاف الباردة للمبنى القرمزي الشهير، وخلال السِّكّة اليوميّة المتعرّجة التي كانت تقودني إليه كان ثمّة ضجيج لا يهدأ في الخارج وفي داخلي، روائحٌ تنفذ ولا تنفد، وقهقهات كثيرة كانت تصطدم بالجدار الجرانيتي الأملس لمبنى المكتبة العامّة في الجامعة الأردنية ثمّ ترتد إلى كل الفضاءات تاركة في الداخل صمت متزعزع. أدخلُ المكتبة وأنتزع أحد المراجع الضخمة لنغرق سوية في "نيرفانا" العِلم، غير أنّ حالتي المشوّشة وقبل أن تستقر على مقعد البدايات المُتزنة تحتاج إلى محو ذاكرتها البصرية وما تشبّث فيها من ملامحٍ على الطريق، ثمّ إطفاء الذاكرة السمعيّة استعداداً لمسح ذاكرة الذاكرات، في العادة كنت أستهلك في عمليات الشطب تلك نصف الساعة التي خصّصتها للصمود في ذاك الجو الرتيب لأبدأ النصف الثاني منها بالتركيز فيما بين يدي. بُعيد انقضاء الساعة تبدأ أعضائي بالمراوغة سعياً للانفكاك من قيود المكتبة. أوّل المتفلّتين أصابعي التي تتنكّر للقلم فيحدث جلبة وهو يسقط على الطاولة، وفي تلك الأثناء لا أعرف من الذي يُسارع بإغلاق دفّة المرجع الضخم أمامي، وأجهل ذاك الذي يأتي من خلفي فيحيط ضلوعي ويجذبني من تحت ذراعيّ لينهض بي عن المقعد الوقور. سرعان ما أستجيب فأحمل كُرّاستي وأتركُ شيئاً من تمائمي على الطاولة جوار المرجع كي أعود.[/SIZE]
سريعاً سوف أعود... أهمسُ لنفسي بهذه العبارة ونحن نغادر الردهات الصامتة قبل أن يتلقّفنا الخارج بضجيج حياته الصاخبة فأنتعِش. سأتّجهُ إلى كلية العلوم، لا لشيء بل "لأتعلّث" بمسار طويل أضمن أنّه سيُربي زمن تسكّعي عبر شارع نظيف ممتدّ ومسيجة جوانبه بأشجار السرو الخضراء بسيقانها البيضاء التي تُعشي أنظار طالبٍ خارج للتوّ من سكون العتمة داخل صفحات كتاب، ما أجمل شوارع الجامعة! غابات شجر وبشر يجوبها فتى يمشي كالنائم حتى يصل البهو المفتوح لمبنى" صباح السالم الصباح" الذي ينتصب فوقه قسم الجيولوجيا، وهناك في الظل كنت أرمي كرّاستي على طاولة حجريّة وسط جموع الطلبة المقهقهين في الكافتيريا، ثمّ نغرق في الفوضى وسط سحائب دخّان سجائرهم المُشبّعة بنكهة القهوة، لم أكن مُدخناً ولا أشرب قهوة المقاهي، بيد أنّي بين الفينة والأخرى "يحوفني" عطش مُبهم لا شيء يرويه إلّا الضجيج.
نصف ساعة صاخبة تكفي لإثبات أنّ الأنصاف ضرورية لتثبيت أحداث الساعات وآحادها.
هل نستطيع العيش بلا ضجيج؟
يقول جان بول سارتر: إذا كنت تشعر بالوحدة عندما تكون وحدك فأنت في صحبة سيئة"
لا أدري، أأنتجتم شيئاً يا معشر الكُتَّاب في هذه العزلة الفيروسيّة؟! ألمْ ترَوا كيف دَخَلَ القلقُ على عُزلتنا هذه الأيام فشوّهها حتى غدتْ عقيماً لا تُنتج؟
القلق صُحبة سيئة.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى