سكنتُ منذ زمن بعيد - ولم أزل - أَتَتَبَّع كتاباتِ الوطن المُحْتل، تارةً تَتَبُّعَ الشغوفِ المتلهِّف، وتارةً تتبُّعَ الممحصِ المدقق، وكان لي في الحالتين أسبابي الخاصَّةُ.
فأنا أولاً فِلَسْطِيني، أحيا كلَّ لحظة من لحظات حياتي أحس بمأساة الشعب، وأرتجف مع ارتجاف أحداثها، حتى إنني أحس نفسي منزلِقًا إلى بُؤرة المُعَاناة بكلِّ جارحة مِن جَوَارِحي، وكل سكنة من سكناتي، فما أنا والقضية غير التحام متوحِّد متأجِّج، بغير إرادة منِّي أو قصد، وهذا ما يجعلني أحمل إحساسًا مرهَفًا جدًّا أمام كل كلمة تكتب، إنْ شعرًا أو نثرًا، حول فِلَسْطين وعذاباتها.
والثاني: أنِّي كفِلَسْطيني أعيش أحداث المأساة داخل الوطن، أقْدَرُ من غيري على فَهْم أدب الوطن ومعانيه، صدْقه ومبالغته، ما يتَّفق مع أحاسيس الشعب، وما يتناقض مع تلك الأحاسيس؛ إذًا فأنا أمْلِكُ من خلال هذا الوضع ميزانًا نفسيًّا خاصًّا، أستطيع من خلاله الحُكمَ على بعض ما يتناوَب الساحةَ من أدب، ميزانًا يمزج الإحساسَ النفسي والمفهوم الفكري، مع عادات الشعب ومعتقداته وتوجهاته الشعورية واللاشعورية، مزجًا يؤدِّي إلى خُلاصة تصلُ كلَّ ما سبق مع ما سيكون، ولن يكون لهذا الشعبِ غيرُ الطهارةِ الإحساسية والنقاءِ الشعوري.
وقد قرأتُ من كتابات الوطن المحتلِّ الكثيرَ الكثير، فلم أُسرَّ بكثير مما قرأت، كما أنني حزنت لقليل ما قرأت.
لم أسر؛ لأن أكثر الكتابات ما زالت فجةً هزيلة، لم تستطع أن تصل مرحلةَ التحدي والمواجهة، وإن كانت بعضُ هذه الكتابات قد نالت من الشهرة أكثرَ مما تستحق.
وحزنت؛ لأن الكتابات القليلة المتمرِّسة والصادقة لم تحظَ بحقِّها من الشهرة والانتشار، فكان أن أصبح أدبُ الساحة يستحق - أكثر ما يستحق - أن يُطلق عليه أدبُ العكسية، أو أدب السير على الرأس بدلاً من القدمين.
وما دفعني لقول ما قلت: أنني أمسكت قبل أيام بديوان معروف، لشاعر معروف، أما الديوان فهو: "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبِّه لهم"، وأما الشاعر فهو: سميح القاسم.
تلقفت الديوانَ بلهفة العطشان للماء، والمريض للإبلال، والسجين للانطلاق، وانزويت بنفسي بعيدًا عن صراعات الحياة وتناقضاتها؛ لأنعم بالديوان عن قرب وكثب، دون مضايقة المتفلسفين، أو لغط المتشاعرين، أخذت الديوان بيدٍ ترتعش، وقلب لا ينفك يضطرب؛ لأني حين أقرأ لشاعر فلسطيني أبدأ بالتخلخل والترجرج؛ خوفًا على نفسي من الضياع في ميادين الكلمة المقاتلة، والحروف الزاحفة، فكيف وأنا أقرأ لشاعر من شعراء المقاومة الفلسطينية؟!
لا بد وأنني سأغرق بسحرِ الكلمة، ورنَّةِ القافية، وتدفُّقِ الإحساس، وانسيابِ الكلام، وغزارةِ الخيال، وبراعةِ التصوير، وصدْقِ العاطفة؛ لأخرج بعد ذلك مُشبَعَ الفكر، مثقلَ الرأس، حائزًا شيئًا مما تتوق النفسُ إليه وتصبو.
وهكذا رحت أقرأ:
"الطقس أجمل ما يكون
لو أن البنت تانيوشكا معي
والبنت تانيوشكا تحب سفينة حمراء
في بحر صغير، فوقه قوس القزح
وأنا سأهديها قبيل الموت في منفاي سلة فاكهة
وتكون فيها صورتي (كسفينة حمراء في بحر صغير
فوقه قوس القزح)
والبنت تانيوشكا ستهديني الفرح
يومًا قبيل الموت في منفاي
أو يومًا قبيل عناقنا نحن الثلاثة
الطقس أجمل ما يكون".
وما أن وصلت بالقراءة إلى هنا، حتى أخذني العجبُ كلَّ مأخذ! ما هذا الذي أقرأ؟! وتغاضيًا أكملتُ الديوان، وكنت كلما قرأتُ قصيدة ازددتُ عجبًا، ومصدرُ ذلك العجب أنني حِرت مع نفسي، هل أقرأ شعرًا، أو نثرًا، أو ماذا؟
فالديوان مليءٌ بالأخطاء، مليء بالمبالغات، مليء بالإبهام، مليء بالتهجُّم على إحساسات الشعب الذي كُتبتْ من أجله هذه القصائدُ، وأول تلك الأخطاء الخطأُ في مفهوم الحرية الممنوحة للشاعر الذي يكتب الشعرَ الحر، فالحرية هذه ليست مطلقة كما توهم سميح، ولا هي خاضعة لمزاجه يتصرف بها كيف شاء.
والواقع أن هذه الحرية خطرة؛ لأنها تخيِّل للشاعر أنه غير ملزم باتِّباع طول معيَّن لأشطر القصيدة؛ مما يدفعه إلى تطويل بعض الأشطر إلى حدٍ يغلب فيه الطابعُ النثري على الطابع الشعري، حيث تختفي موسيقى الأوزان وموسيقى الكلمة، فيختلُّ البناء الأساس لهيكل القصيدة، الأمرُ الذي يجعل القارئَ يشعر بالاشمئزاز، والملل، وعدم الرغبة في متابعة القراءة، ويظهر هذا في المقطوعة التي نقلناها للشاعر، وحين يقول في قصيدة أخرى:
"أبصرت القمرَ العينُ العمياء على مرمى أنياب التمساح
المتحضر جدًّا، في فك التمساح المتخرج من أكبر جامعة
أوروبية
والأستاذ المتخصص في أحدث جامعة أمريكية
الضالع في الأرخولوجيا واستحضار الأرواح".
فهل يستطيع القارئُ أن يلحظ - حتى ولو بحس بسيط جدًّا - أيَّ نوع من أنواع الموسيقى؟ سواء في موسيقى الوزن، أو موسيقى الكلمة؟ وهل يستطيع القارئ أن يعتمد هذا شعرًا قادرًا على تصوير مأساةٍ تَحمِل من الأبعاد النفسية ما تعجِز الكلماتُ عن الإحاطة بها؟
لا أظن ذلك؛ لأن مثل هذا الشعر لا يعتمد على واقع نفسي حقيقي في صدر الشاعر أصلاً، وما مثل هذه الكتابة إلا ضربٌ من تنسيق غير متوازن، لكلمات غير متوازنة، في جمل تسمى إجحافًا بالشعر المقاوم، أو الشعر المنبثق من مأساة غير موجودة في قواميس الحياة التي نحياها في وطن يمثل الموتُ، والرعبُ، والدمارُ والضياعُ سماتِه المميزةَ، أضف لذلك غيابَ الإبداع البلاغي الذي يرافق حجم الوصف الذي يستحقه الوضع الخاص بطبيعة الألم والمعاناة الفلسطينية، وفي النهاية فإن هذا الشعر ليس إبداعًا يرتقي إلى مصاف الإبداع الشعري، الذي يشعر القارئ بأنه يودُّ أن يحتضنه بين جوارحه وفي ثنايا نفسه، فالشعر الذي لا يصل إلى مرحلة الإعجاز في السهولة، أو الإعجاز في تشخيص الصورة النفسية، ليس خليقًا بأن يسمَّى شعرًا، وفوق كل هذا فإن مِثلَ هذا الكلام لا يَحمل أيةَ صفةٍ فنية تجعله عصيًّا عن محاولة أي إنسان له محاولات في الأدب؛ لأن مثل هذه القصائد يمكن لأي مَن يملك هواية شعرية يسيرة أن يكتب مثلها، أو أفضل منها، لكن الفاصل بين الهاوي وبين سميح هو السمعةُ والشهرة، التي تمنح الثاني الحقَّ في أن يقول ما يشاء، وتمنع الأول مِن ادِّعاء مقدرته على صياغة مثل هذا الكلام.
ولأن الشعر نوع من السموِّ الخلاَّق، الذي يستطيع أن يصور المأساة بكلماته، بأسلوب مغاير لأسلوب المنطق والتاريخ؛ فإن الإحساس بشفافية الكلمة، ودورانها وسط مجموعة من الكلمات الأخرى، دورانًا تحرِّكه الأحاسيس الفياضة المرهفة لدى الشاعر، هي التي تعطي القصيدةَ معناها، وتماسكَها، ومتانتَها، أما إذا اعتُبرت الكلمةُ مجردَ أداة يمكن أن تستعمل؛ لكونها أداة فقط، فهذا هو الذي يذهب ببريقها، وسحرها، وشفافيتها.
والشعر طبيعة فنية، لا صنعة يمكن إتقانها بالممارسة؛ لذلك فإن الطبيعة الفنية هي التي تحدد طول الأشطر، وانتظامها بشكل خاص، وفق حالة الانفعال والتوتر التي تتقلب في صدر الشاعر، باحثة عن مخرج خاص، يتناسب وحجمَ ذلك الانفعال وذاك التوتر، فإن أخرجها الشاعر قبل أوانها فستأتي فجَّةً، هزيلة، غير ناضجة دون أدنى شك، وكذلك إذا خرجتْ بعد أوانها طبعًا.
وفوق ما ينقص القصائد في الديوان من موسيقى، فإن الشاعر قد حرَّر نفسه من الالتزام بخطة معينة وثابتة للقافية؛ مما أدَّى إلى فقدان الديوان للموسيقى النهائية الضابطة لأواخر الأشطر، والقافية في الشعر العربي لا غنى عنها، فإن ذهبتْ أصبحَتِ القصيدةُ غيرَ مستساغة وغير مقبولة إطلاقًا.
ويحضرني هنا لقاءٌ مع أحد الناس الذين لهم محاولات في كتابة الشعر، وهو من أحد أقطار الوطن العربي؛ لكنه استمدَّ أهميته من السجن الذي قبع فيه سنوات عدة، وهذا عيب ثابت في الحركة الأدبية الفلسطينية، وكذلك العربية؛ إذ يكون لزامًا على الأدب أن يستقبل الكتاباتِ التي يكتبها الناسُ الذين قضَوْا فتراتٍ من عمرهم داخل أسوار السجون، على أنها كتابات إبداعية، دون النظر إلى عذرية الشعر والأدب التي لا تُفضُّ أبدًا؛ لأنها عذرية تستعصي على كل مَن يقترب منها؛ لتظل مصدر الإلهام والحلم، الذي يسعى منذ وجود الشعر والأدب إلى الفوز بفض تلك العذرية، المحاطة بالجمال والروعة، ولكن دون جدوى؛ لهذا ظل الشعر وظل الأدب حالتين خاصتين، وسيبقيان كذلك.
قال لي ذلك الرجل في لقائي معه، بعد أن أخبرته أن ديوانه لا يمكن أن يرتقي إلى مفهوم الشعر أبدًا؛ بسبب غياب الوزن، وغياب القافية، والموسيقى والإيقاع، الذي يميز الشعر عن غيره من الآداب، قال: "أنا لا أعرف لماذا أتى الخليل بن أحمد الفراهيدي ببحور الشعر، ولماذا أتى بها أصلاً؟! ونحن في الحقيقة بعد المتنبي وبعد البارودي لم يتبقَّ لنا شيءٌ نستطيع قولَه"، وحين أخبرته بأن الفراهيدي لم يضع بحور الشعر؛ بل أتى ووجد الشعرَ العربي يدور في مجموعة من المدارات، فقام بدراسة المدارات هذه، فوجدها تنضبط في مجموعة من القواعد، فقام بإثبات القواعد تلك وتثبيتها؛ لتكون هاديًا للشعر العربي، وميزانًا للإبداع الشعري، وإن المتنبي قال ما قال ورحل، ولو كان قادرًا على وضع حد للشعر في أيامه، لما رأينا إبداعاتِ مَن أتى بعده إلى يومنا هذا؛ لذلك يجب على الناس أن تبحث عن قدراتها في المواضع التي تستطيع الإبداع فيها، وليس حتميًّا على مَن دخل السجن أن يكون شاعرًا أو أديبًا، وليس لزامًا على الأدب أن ينحني للأبطال إلا انحناءة تقدير لبطولاتهم، التي يمكن أن يبدعها غيرُهم في الشعر والأدب، ولتكن بطولتهم مصدرَ إلهام وتقدير للمبدعين، خير من أن تكون تجرُّؤًا على الأدب بما لا يملكون من أدوات وقدرات.
وانغرار سميح بهذين الأمرين - الحرية وهجر القافية - جعله ينساق دون إحساس أو دراية وراء السهولة، التي ظهرت له من خلال هذه الحرية البراقة، فانفلتتْ قصائدُه من قيود الاتِّزان، ووحدة القصيدة، وترابط المعاني، وإحكام الهيكل، فتحولتْ قصائدُه إلى نسيج فوضوي، لا يمت للشعر بصلة، ولا للأدب بمعنى.
وهذا مأخذنا الأول على الديوان.
الأوزان الحرة ذاتها تمتلك موسيقى خاصةً منفصلةً عن الموسيقى اللفظية؛ لذلك فهي عامل مهم من عوامل تضليل الشاعر غير القادر على السيطرة على تلك الأوزان سيطرة كاملة، فالشاعر حين يكتب يلمس آثارَ انسيابٍ موسيقيٍّ عذب، فينطلق مكملاً قصيدتَه على هذا النمط الموسيقيِّ الساحر، ويفُوته أن هذه الموسيقى ظاهريةٌ في الأوزان نفسها؛ مما يجعل قصيدتَه غثةً، مفككةً، غيرَ مترابطة المعاني والأفكار، وهذه المزية أوضح ما تكون في ديوان الشاعر هذا؛ لأنه لم يملك الحس الموسيقي للتفريق بين موسيقى الأوزان، وموسيقى الألفاظ.
"كيف توغلت؟!
تعديت حدودك
كيف استثنيت دمي؟!
كيف تجاهلت التفاحة؟!
والحجر الساخر من شللي
لا تمهلني
لا تنظرني
سبع سنين أخرى
خدعني
انطلق الآن كصاروخ
ابحث عن آبار النفط الأخرى
ابحث عن شجرات السلف الصالح
استنطق رعيان البرية في غرف التحقيق
واخرج بالحكمة
والقول الفصل".
فالموسيقى هنا خفية غير ظاهرة؛ مما يدل على أنها موسيقى الأوزان الخادعة، لا موسيقى الألفاظ والقوافي المصنوعة من فكر الشاعر وقريحته.
وهذا مأخذنا الثاني على الديوان.
أما مأخذنا الثالث، فهو أخطر المآخذ، وأكثرها تعقيدًا، وهو مأخذ التدفُّق الناشئ عن وحدة التفعيلة في أغلب الأوزان الحرة، فالشعر الحر يعتمد تَكرار التفعيلة عدة مرات، يختلف عددها من شطر إلى شطر؛ مما يجعل الوزن يتدفق تدفقًا مستمرًّا إلى حد لا يصدَّق، وفجأة يقصر إلى حد لا يصدَّق، الأمر الذي يؤثر على وقع القصيدة واتزانها، والتدفق أيضًا هو المسؤول عن خلوِّ القصيدة من الوقفات الثابتة عند كل معنى، والوقفاتُ ضروريةٌ؛ بل شديدة الضرورة في كل وزن؛ لأنها تمنع الانحدارَ من تفعيلة إلى أخرى دون تنفس، خاصة وأن الشعر الحر لا يمتلك وقفاتٍ ثابتةً، وإنما يترك الشاعر حرًّا يقف حيث شاء، ومن هنا ينشأ المشكِل؛ إذ إن أغلب الشعراء لا يقفون عند نهاية كل شطر، الأمر الذي يجعل القارئَ يلهث خلفهم في معترك صاخبٍ لا راحة فيه.
وهذه المزية هي التي تحدِّد مستوى الشاعر في القدرة على إيقاف المعنى في كل شطر بقافية ظاهرة رنانة، ومن ثَم الانتقال إلى شطر جديد، وتوقف جديد بقافية محاكية للأولى، ويظهر الديوانُ خاليًا من كل الوقفات المحكمة، مندفعًا وراء التدفق، يقف حيث يقف، ويستمر معه حين يستمر، ومثال ذلك:
"يا سادتي الكرام
صلُّوا على النبي
ومرة أخرى، صلوا على النبي
صلوا ثلاثًا
واذكروا أحبابه
يا سادتي الكرام
صلوا على الصحابة
ومرة أخرى على سيدنا الإمام
وخادم الإمام
لأنه خادمه
يا سادتي الكرام".
وقوله في بقية القصيدة نفسها:
"وكان يا مكان
شيخ، وكان فاضلاً
وطالما صلى على النبي
وهذه حكايتي حكيتها
في عبكم خبأتها
وجثة القتيل عند بابكم رميتها".
فالمقطوعة الأولى تبدأ بـ"يا سادتي الكرام"، وتنتهي بـ"يا سادتي الكرام"، وأي توقف قبل النهاية المذكورة يبتر المقطوعة، ويجعلها غير متماسكة في اللفظ والمعنى.
أما المقطوعة الثانية، فتبدأ من قوله: "وكان يا مكان"، وتنتهي "عند بابكم رميتها"، وأي توقف قبل ذلك يكون على حساب المدلول اللفظي والمعنوي.
وهذا الأمر يدل دلالة واضحة على أن سميحًا يكتب من خلال شهرته واسمه، الذي أخذ مكانًا في واقع الأدب أحيانًا دون أن يلتفت للإبداع الحقيقي الذي عليه أن يلتزم به، دون النظر إلى عدد الدواوين التي يمكن أن تنزل للأسواق، ودون أن يهتم بالنزوات التي تأتي للشاعر أحيانًا وهو غارق في دنيا التدفق المتواصل دون النضوج، ولو كانت كل الرعشات والدفقات التي تصيب الشعراء تستحق أن تكون من الشعر الذي ينزل إلى الأسواق، لكانت الدواوين التي بين أيدينا لشعراء العصور والفترات السابقة تفوق بعدد صفحاتها وقصائدها ما هو موجود الآن في الأسواق؛ لكنهم كانوا يتعهدون ما يعتريهم من شعر بالعناية، والتدبُّر، والتأمل، والتنقيح، والاستحسان، دون النظر لحجم المؤلفات، أو عدد الصفحات؛ لذلك استطاعوا أن يَبقَوْا في قمة مجدهم وعطائهم كشعراء مبدعين، من أول قصيدة كتبوها، إلى آخر قول قبل رحيلهم من الدنيا إلى الزوال الجسدي، لكن ليبقوا في أعماق الأدب شعراء، لا يستطيع الموتُ طيَّ أسمائِهم من سجلات الإبداع والرقي.
أما مأخذنا الرابع، فهو الرمزية الغارقُ بها الديوانُ من أول كلمة إلى آخر كلمة، فالشاعر في كل عصر يكتب للعوام والخواص، مؤديًا نفسَ الفكرة لأفراد الفئتين، وما الاختلاف في الأسلوب من عصر إلى عصر إلا اختلافُ الثقافة وألوانها، ومدى تقبُّل الناس لها، فشاعر الجاهلية كان يفهمه الأميرُ ويفهمه الراعي، العامل والمتعلم المتذوِّق لفنون الشعر؛ لأن اللغة في ذلك الوقت كانت بالنسبة له يسيرة سلسة، يسهل قيادتها وفهمها.
أما بالنسبة لنا، فالبُعد الذي حصل بيننا وبين اللغة الأصيلة، يجعلنا نستهجن مفرداتِ الحطيئة والأخطل والمعرِّي، لكننا لا نستهجن مفردات عبدالرحيم محمود ولا أبي سلمى، ولو عرضنا المفردات العصرية على جاهلي غير شاعر لاستهجنها، وقد ينكر أنها من العربية الأصيلة؛ ومن هنا نستطيع القول بأن التطور الحضاري للمفهوم الأدبي بكل صوره أمرٌ لا مناص منه؛ لأنه ناتج حتمي عن تطور الحضارات بشتى صورها.
ولكن إلى أي مدى يجب أن يصل هذا التطور؟ وعند أي حد يجب أن يقف؟ فالرمزية جزء من هذا التطور، وهي بحدِّ ذاتها أمر جيد إذا استُعمِلت استعمالاً صحيحًا، بغير تعدٍّ على الأصول، أو فيضان عن الحاجة، وخيرُ دليل في القدرة على توظيف الرمز في القصيدة بشكل صحيح، يتناسب وحجمَ الفكرة والمأساة تناسبًا تامًّا - ما يقوله محمود درويش في قصيدة مديح الظل العالي:
والآن والأشياء سيدة، وهذا الصمت عالٍ كالذبابة
هل ندرك المجهول فينا؟ هل نغني مثلما كنا نغني؟
سقطت قلاع قبل هذا اليوم، لكن الهواء اليوم حامض
وحدي أدافع عن جدار ليس لي
وحدي أدافع عن هواء ليس لي
وحدي على سطح المدينة واقف
أيوب مات، وماتت العنقاء، وانصرف الصحابة
وحدي أراود نفسي الثكلى فتأبى أن تساعدني على نفسي
ووحدي
كنت وحدي
عندما قاومت وحدي
وحدة الروح الأخيرة
رَمَز الشاعر لنفاد الصبر بموت أيوب، وموت المستحيل على أيدي المقاتلين في لبنان بموت العنقاء، وتآمر الأنظمة العربية، وترك المقاومة وحيدة في ساحة النضال والشرف، تخوض معركة المستقبل، من الطبيعي جدًّا أن يرمز له بانصراف الصحابة؛ لأن القارئَ حين يصل إلى كلمة الصحابة، فإن فِكره سيرتدُّ إلى عصر النبوة، حيث كان الإخلاصُ والتفاني العلامةَ المميزة لصحابة الرسول الكريم - عليه الصلاة والسلام - وتقديمُ كل تلك المقدمة لازمةٌ ضرورية؛ حتى يستطيع الانتقال إلى تصوير حالة الوحدة التي عاشها المقاتلون في الدفاع عن شرف ومستقبل الأمة العربية، من خلال عذابات الروح التي عاشوها في المعركة.
وديوان سميح غارق بالرمزية التي لا معنى لها من أَخمص القدمين وحتى قمة الرأس، وكأن كل قارئ لهذا الديوان يعيش بنفس الشاعر، يواكب خلجاتها، ويضطرب مع اضطراباتها، ويتحرق شوقًا لما تتشوق إليه، وأسى لما تشجن له، وهذا ليس بالصحيح؛ لأنه ليس كل قارئ قادرًا على معرفة ما بنفس الشاعر، وليس كل قارئ أيضًا قادرًا على تحليل الرمز إلى قضاياه الحقيقية الأساسية، هذا إذا كان الرمز مِن النوع الذي يستخدمه مَن لا يستطيع التعبيرَ إلا مِن خلال كلمات مشحونة بالرمزية أكثر مما يجب.
فكيف يستطيع القُراء تحليلَ رمزٍ غيرِ مقصودٍ فيه شيءٌ على الإطلاق؛ كرمز سميح في المقطوعات السابقة التي أوردناها، فهو لم يَقصد فيها شيئًا غيرَ التعميةِ على القارئ، وإيهامِه بأنها قصيدة من نوع جديد، وفي هذه الحالة نتساءل: لمن يكتب الشاعرُ قصائدَه؟ ألنفسه؟! فإن كان هذا صحيحًا، فأوجب عليه أن يحتفظ بها لنفسه، ولا يخرج بها لجمهور القُراءِ مشلولةَ الحركات، غارقةً في الإبهام الذي لا معنى له ولا أصل؛ لتظهر فوق التصور والخيال، فالقصيدة التي تعتمد الغريبَ لتدلَّك على متانتها، ليست خليقةً بصفة القصيدة الشعرية، وإنما هي أشبه ما تكون بصورة الرَّسام العاجة الصاخبة، الساترةِ خلفَها عجزَ الريشةِ التي أخرجتْها؛ وإنما القصيدة هي ذلك الجلمود الغارق بالنتوءات الصخرية، الذي تحوِّله يدُ النحات - بعد جهد وكد - إلى تمثالٍ آيةً في الدقة، وغرابةً في النحت، حتى إذا شاهدتَه خُيِّل إليك أنه إنسان يودُّ أن يحادثكَ وتحادثه.
أما مأخذنا الخامس والأخير، فهو أهم المآخذ، وأكثرها إبعادًا للشاعر عن صفة الأدب، وهو اعتماد الشاعرِ استعمالَ ألفاظ الشارع غبر المحبَّبة أو المقبولة، ومساسه بالعقائد والمناهج والمبادئ التي يعتنقها الناس بالسخرية والاستهزاء، ومثال ذلك قوله:
"سأموت إذًا يا أولاد..."
وقوله:
"وحدودكم الأمنية أمر هام؛ ولذا يستحسن أن تبقى
مدًّا جزرًا
طالعة نازلة
في خفة أنشوطة
أو في خفة..."
وقوله:
"قل لي بحياة أبيك
أحرام أني غافلت المختار الخائن
بنسوته"
وقوله:
"دعوت الله للمقهى القريب
وشربت قهوة سيدي جلت جلالته
ولم ألحف عليه لأن مولاي اعتذر
العفو يا ابني؛ إن داء السكر الملعون لا يعفو
وكانت علبة
السخرين في جيبي
ولكني خلعت المعطف الشتوي، إن الطقس...
إنهم، غير أني صرت يا مولاي جالية لدى كل الشعوب
فما تقول؟
- ونسيت يا ابني دفتر الشيكات، تدفع أنت،
ثم غدا
وودعني على أمل اللقاء"
وقد حذفتُ الكلمات النابية، ونوهت مكانها بالنقط؛ لأن القلم يقطر خجلاً حين يدفع ليخط مثل هذه الكلمات، والتي لا تدل على شيء كما تدل على فهم خاطئ لمعنى ووظيفة الأدب.
فالأدب ليس عملية تركيبية للأحرف والكلمات الشائعة، بقدر ما هو تهذيب وتقويم للنابي والمعوج من مفاهيمَ وكلماتٍ، تتركب من خلالها انطباعات الناس ومشاعرهم، وهو فوق كل ذلك عمليةُ صقل مضنية لتجارِب الماضي والحاضر؛ من أجل الوصول إلى صورة مستقبل مشرق، فيه من النقاط المشرقة ما يفوق نقاط الخزي أمام محكمة التاريخ.
إذًا؛ فليس من اللياقة والأدب أن ينفلِتَ الشاعر من قيود الكلمة الحسنة المهذبة، ليدخل عالم الكلمة المنحلَّة النابية والفاجرة؛ لأن الأولى تحمل بين ثنايا حروفها أريجَ الالتزام بالأدب الحق واللغة الحقة، أما الثانية إن دلَّت فإنها لا تدل إلا على ضعف القدرة الشعرية لدى الشاعر، وعدم قدرته اختيار الكلمة المناسبة، أو المفهوم للمعنى، أو المفهوم المناسب.
واختيار الكلمة فن قائم بذاته، لا يتوصل إلى أسباب النجاح فيه سوى دارسٍ متمرس، متعمِّقٍ في اللغة وأصولها، ملمٍّ بكل جوانب الدقة فيها، عارفٍ كلَّ صغيرة وكبيرة من جواهرها، فاختيارُ الكلمة الملائمة يدل على عظمة الشاعر والشعر في آن؛ لأنه إسقاط ما في النفس على الحدث المتحدَّث عنه؛ لذلك فإننا نستطيع القولَ: إن الارتباط القائم بين الحالة النفسية للشاعر، والحركة الشعرية للكلمات - هي حالة واحدة لا يمكن فصل إحداها عن الأخرى، ولأن هذه القاعدة لا شك فيها؛ فإن الشعر المستهتر يدل على نقصٍ في الإبداع الحقيقي المسؤول، وإذا كان الاستهتار بعقائد الناس ومبادئهم هو الصادرَ عن هذا الديوان، فأي فائدة فيه للمجتمع وللقضية التي يحياها الناس في وسط هذه التناقضات؟!
وكلُّ ما يمكن أن يقدِّمه الشعرُ المستهتر، استطاع سميح أن يقدِّمه لنا بالغزارة الفائقة، ولم يقدم شيئًا غير تلويث الطهارة الإحساسية لشعبنا العريق بطهارته، وتشويه الشعور الوطني الذي بناه شعبنا خلال أجيال طويلة بأنهار من الدماء الخصبة.
وليس من حق أي إنسان - شاعرًا كان أم كاتبًا - أن يتعدَّى بكلماته على عقائد الناس، وعاداتهم، وتقاليدهم، وأعرافهم، حتى ولو كان بينه وبين تلك العقائدِ والتقاليدِ والأعرافِ خصامٌ حادٌّ، وتباينٌ شاسع؛ لأنه لا يكتب لأناس مخصصين؛ بل يكتب للجميع، ومن حقِّ القارئ على الشاعر أو الكاتب ألاَّ يقوم أحدهما بتمزيق الستر عن عقائده وعاداته.
هذا هو الأمر الذي تناساه الشاعر، ليعتمد استخدام اللفظ المستهجن، وللتهجم على العقائد المقدسة، ظنًّا منه بأن ألسنة القُراء سوف تتداول هذا القولَ؛ لأنه جديد بجرأته وقحته اللامبالية بأحاسيس القراء أنفسهم، وهذا ظن خاطئ؛ لأن الناس يمكن أن تتنازل عن لقمة العيش أمام القهر، لكنها لا تتنازل عن الحق أمام أي قهر أو ظلم، وإن كانت الأوضاع الآن - بسبب الاستعمار - تتيح لسميح وكثير مثله أن يخرجوا على الناس بمثل هذه الأعمال، فإن التاريخ القادم سيقوم بعزل هذه الأعمال عزلاً يتناسب مع ما هي عليه حقًّا.
فالإنسان العربي يحيا في ظل عاداتٍ وتقاليدَ، ورثها منذ زمن بعيد عن آبائه وأجداده، وهي عادات يَحق له التفاخر والازدهاء بها، كالتأدب في الكلام، والخجل من استعمال الألفاظ النابية الفاضحة، الكاشفة المبتذلة، باعتبارها تُخلخل شخصيةَ المحدِّث، وتُقلل مِن سمتها ووقارها.
فإذا حاول الشاعر أن يضع العادات والتقاليد والعقائد خلف ظهره حين يكتب، فعليه أن يكتب ما يريد لنفسه فقط؛ لأن الذي لا يحترم مشاعر الناس التي يمكن أن تتناول ديوانَه؛ لتنعم بما فيه من "أدب"، فإنه بحاجة إلى مراجعة لامكاناته من جديد؛ ليعرف: هل ما يكتبه يعبِّر حقًّا عن العقل الجمعي والضمير الجمعي للشعب أو لا؟ وعلى الجواب تترتب كل معطيات المستقبل، فهل بين المستقبل وهذا الديوانِ أيُّ صلة تربطه بواقع الشعب الذي يدفع كل ما يملك؛ من أجل الحفاظ على مقدساته وعقائده؟
الجواب لي واضح، ولكن حتى يكتب الجواب بأحرف المستقبل، فما علينا سوى انتظار الرحمة القادمة مع المستقبل الذي تراق الدماء من أجله صباح مساء.
مأمون أحمد مصطفى
فلسطين- مخيم طول كرم- 1976
فأنا أولاً فِلَسْطِيني، أحيا كلَّ لحظة من لحظات حياتي أحس بمأساة الشعب، وأرتجف مع ارتجاف أحداثها، حتى إنني أحس نفسي منزلِقًا إلى بُؤرة المُعَاناة بكلِّ جارحة مِن جَوَارِحي، وكل سكنة من سكناتي، فما أنا والقضية غير التحام متوحِّد متأجِّج، بغير إرادة منِّي أو قصد، وهذا ما يجعلني أحمل إحساسًا مرهَفًا جدًّا أمام كل كلمة تكتب، إنْ شعرًا أو نثرًا، حول فِلَسْطين وعذاباتها.
والثاني: أنِّي كفِلَسْطيني أعيش أحداث المأساة داخل الوطن، أقْدَرُ من غيري على فَهْم أدب الوطن ومعانيه، صدْقه ومبالغته، ما يتَّفق مع أحاسيس الشعب، وما يتناقض مع تلك الأحاسيس؛ إذًا فأنا أمْلِكُ من خلال هذا الوضع ميزانًا نفسيًّا خاصًّا، أستطيع من خلاله الحُكمَ على بعض ما يتناوَب الساحةَ من أدب، ميزانًا يمزج الإحساسَ النفسي والمفهوم الفكري، مع عادات الشعب ومعتقداته وتوجهاته الشعورية واللاشعورية، مزجًا يؤدِّي إلى خُلاصة تصلُ كلَّ ما سبق مع ما سيكون، ولن يكون لهذا الشعبِ غيرُ الطهارةِ الإحساسية والنقاءِ الشعوري.
وقد قرأتُ من كتابات الوطن المحتلِّ الكثيرَ الكثير، فلم أُسرَّ بكثير مما قرأت، كما أنني حزنت لقليل ما قرأت.
لم أسر؛ لأن أكثر الكتابات ما زالت فجةً هزيلة، لم تستطع أن تصل مرحلةَ التحدي والمواجهة، وإن كانت بعضُ هذه الكتابات قد نالت من الشهرة أكثرَ مما تستحق.
وحزنت؛ لأن الكتابات القليلة المتمرِّسة والصادقة لم تحظَ بحقِّها من الشهرة والانتشار، فكان أن أصبح أدبُ الساحة يستحق - أكثر ما يستحق - أن يُطلق عليه أدبُ العكسية، أو أدب السير على الرأس بدلاً من القدمين.
وما دفعني لقول ما قلت: أنني أمسكت قبل أيام بديوان معروف، لشاعر معروف، أما الديوان فهو: "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبِّه لهم"، وأما الشاعر فهو: سميح القاسم.
تلقفت الديوانَ بلهفة العطشان للماء، والمريض للإبلال، والسجين للانطلاق، وانزويت بنفسي بعيدًا عن صراعات الحياة وتناقضاتها؛ لأنعم بالديوان عن قرب وكثب، دون مضايقة المتفلسفين، أو لغط المتشاعرين، أخذت الديوان بيدٍ ترتعش، وقلب لا ينفك يضطرب؛ لأني حين أقرأ لشاعر فلسطيني أبدأ بالتخلخل والترجرج؛ خوفًا على نفسي من الضياع في ميادين الكلمة المقاتلة، والحروف الزاحفة، فكيف وأنا أقرأ لشاعر من شعراء المقاومة الفلسطينية؟!
لا بد وأنني سأغرق بسحرِ الكلمة، ورنَّةِ القافية، وتدفُّقِ الإحساس، وانسيابِ الكلام، وغزارةِ الخيال، وبراعةِ التصوير، وصدْقِ العاطفة؛ لأخرج بعد ذلك مُشبَعَ الفكر، مثقلَ الرأس، حائزًا شيئًا مما تتوق النفسُ إليه وتصبو.
وهكذا رحت أقرأ:
"الطقس أجمل ما يكون
لو أن البنت تانيوشكا معي
والبنت تانيوشكا تحب سفينة حمراء
في بحر صغير، فوقه قوس القزح
وأنا سأهديها قبيل الموت في منفاي سلة فاكهة
وتكون فيها صورتي (كسفينة حمراء في بحر صغير
فوقه قوس القزح)
والبنت تانيوشكا ستهديني الفرح
يومًا قبيل الموت في منفاي
أو يومًا قبيل عناقنا نحن الثلاثة
الطقس أجمل ما يكون".
وما أن وصلت بالقراءة إلى هنا، حتى أخذني العجبُ كلَّ مأخذ! ما هذا الذي أقرأ؟! وتغاضيًا أكملتُ الديوان، وكنت كلما قرأتُ قصيدة ازددتُ عجبًا، ومصدرُ ذلك العجب أنني حِرت مع نفسي، هل أقرأ شعرًا، أو نثرًا، أو ماذا؟
فالديوان مليءٌ بالأخطاء، مليء بالمبالغات، مليء بالإبهام، مليء بالتهجُّم على إحساسات الشعب الذي كُتبتْ من أجله هذه القصائدُ، وأول تلك الأخطاء الخطأُ في مفهوم الحرية الممنوحة للشاعر الذي يكتب الشعرَ الحر، فالحرية هذه ليست مطلقة كما توهم سميح، ولا هي خاضعة لمزاجه يتصرف بها كيف شاء.
والواقع أن هذه الحرية خطرة؛ لأنها تخيِّل للشاعر أنه غير ملزم باتِّباع طول معيَّن لأشطر القصيدة؛ مما يدفعه إلى تطويل بعض الأشطر إلى حدٍ يغلب فيه الطابعُ النثري على الطابع الشعري، حيث تختفي موسيقى الأوزان وموسيقى الكلمة، فيختلُّ البناء الأساس لهيكل القصيدة، الأمرُ الذي يجعل القارئَ يشعر بالاشمئزاز، والملل، وعدم الرغبة في متابعة القراءة، ويظهر هذا في المقطوعة التي نقلناها للشاعر، وحين يقول في قصيدة أخرى:
"أبصرت القمرَ العينُ العمياء على مرمى أنياب التمساح
المتحضر جدًّا، في فك التمساح المتخرج من أكبر جامعة
أوروبية
والأستاذ المتخصص في أحدث جامعة أمريكية
الضالع في الأرخولوجيا واستحضار الأرواح".
فهل يستطيع القارئُ أن يلحظ - حتى ولو بحس بسيط جدًّا - أيَّ نوع من أنواع الموسيقى؟ سواء في موسيقى الوزن، أو موسيقى الكلمة؟ وهل يستطيع القارئ أن يعتمد هذا شعرًا قادرًا على تصوير مأساةٍ تَحمِل من الأبعاد النفسية ما تعجِز الكلماتُ عن الإحاطة بها؟
لا أظن ذلك؛ لأن مثل هذا الشعر لا يعتمد على واقع نفسي حقيقي في صدر الشاعر أصلاً، وما مثل هذه الكتابة إلا ضربٌ من تنسيق غير متوازن، لكلمات غير متوازنة، في جمل تسمى إجحافًا بالشعر المقاوم، أو الشعر المنبثق من مأساة غير موجودة في قواميس الحياة التي نحياها في وطن يمثل الموتُ، والرعبُ، والدمارُ والضياعُ سماتِه المميزةَ، أضف لذلك غيابَ الإبداع البلاغي الذي يرافق حجم الوصف الذي يستحقه الوضع الخاص بطبيعة الألم والمعاناة الفلسطينية، وفي النهاية فإن هذا الشعر ليس إبداعًا يرتقي إلى مصاف الإبداع الشعري، الذي يشعر القارئ بأنه يودُّ أن يحتضنه بين جوارحه وفي ثنايا نفسه، فالشعر الذي لا يصل إلى مرحلة الإعجاز في السهولة، أو الإعجاز في تشخيص الصورة النفسية، ليس خليقًا بأن يسمَّى شعرًا، وفوق كل هذا فإن مِثلَ هذا الكلام لا يَحمل أيةَ صفةٍ فنية تجعله عصيًّا عن محاولة أي إنسان له محاولات في الأدب؛ لأن مثل هذه القصائد يمكن لأي مَن يملك هواية شعرية يسيرة أن يكتب مثلها، أو أفضل منها، لكن الفاصل بين الهاوي وبين سميح هو السمعةُ والشهرة، التي تمنح الثاني الحقَّ في أن يقول ما يشاء، وتمنع الأول مِن ادِّعاء مقدرته على صياغة مثل هذا الكلام.
ولأن الشعر نوع من السموِّ الخلاَّق، الذي يستطيع أن يصور المأساة بكلماته، بأسلوب مغاير لأسلوب المنطق والتاريخ؛ فإن الإحساس بشفافية الكلمة، ودورانها وسط مجموعة من الكلمات الأخرى، دورانًا تحرِّكه الأحاسيس الفياضة المرهفة لدى الشاعر، هي التي تعطي القصيدةَ معناها، وتماسكَها، ومتانتَها، أما إذا اعتُبرت الكلمةُ مجردَ أداة يمكن أن تستعمل؛ لكونها أداة فقط، فهذا هو الذي يذهب ببريقها، وسحرها، وشفافيتها.
والشعر طبيعة فنية، لا صنعة يمكن إتقانها بالممارسة؛ لذلك فإن الطبيعة الفنية هي التي تحدد طول الأشطر، وانتظامها بشكل خاص، وفق حالة الانفعال والتوتر التي تتقلب في صدر الشاعر، باحثة عن مخرج خاص، يتناسب وحجمَ ذلك الانفعال وذاك التوتر، فإن أخرجها الشاعر قبل أوانها فستأتي فجَّةً، هزيلة، غير ناضجة دون أدنى شك، وكذلك إذا خرجتْ بعد أوانها طبعًا.
وفوق ما ينقص القصائد في الديوان من موسيقى، فإن الشاعر قد حرَّر نفسه من الالتزام بخطة معينة وثابتة للقافية؛ مما أدَّى إلى فقدان الديوان للموسيقى النهائية الضابطة لأواخر الأشطر، والقافية في الشعر العربي لا غنى عنها، فإن ذهبتْ أصبحَتِ القصيدةُ غيرَ مستساغة وغير مقبولة إطلاقًا.
ويحضرني هنا لقاءٌ مع أحد الناس الذين لهم محاولات في كتابة الشعر، وهو من أحد أقطار الوطن العربي؛ لكنه استمدَّ أهميته من السجن الذي قبع فيه سنوات عدة، وهذا عيب ثابت في الحركة الأدبية الفلسطينية، وكذلك العربية؛ إذ يكون لزامًا على الأدب أن يستقبل الكتاباتِ التي يكتبها الناسُ الذين قضَوْا فتراتٍ من عمرهم داخل أسوار السجون، على أنها كتابات إبداعية، دون النظر إلى عذرية الشعر والأدب التي لا تُفضُّ أبدًا؛ لأنها عذرية تستعصي على كل مَن يقترب منها؛ لتظل مصدر الإلهام والحلم، الذي يسعى منذ وجود الشعر والأدب إلى الفوز بفض تلك العذرية، المحاطة بالجمال والروعة، ولكن دون جدوى؛ لهذا ظل الشعر وظل الأدب حالتين خاصتين، وسيبقيان كذلك.
قال لي ذلك الرجل في لقائي معه، بعد أن أخبرته أن ديوانه لا يمكن أن يرتقي إلى مفهوم الشعر أبدًا؛ بسبب غياب الوزن، وغياب القافية، والموسيقى والإيقاع، الذي يميز الشعر عن غيره من الآداب، قال: "أنا لا أعرف لماذا أتى الخليل بن أحمد الفراهيدي ببحور الشعر، ولماذا أتى بها أصلاً؟! ونحن في الحقيقة بعد المتنبي وبعد البارودي لم يتبقَّ لنا شيءٌ نستطيع قولَه"، وحين أخبرته بأن الفراهيدي لم يضع بحور الشعر؛ بل أتى ووجد الشعرَ العربي يدور في مجموعة من المدارات، فقام بدراسة المدارات هذه، فوجدها تنضبط في مجموعة من القواعد، فقام بإثبات القواعد تلك وتثبيتها؛ لتكون هاديًا للشعر العربي، وميزانًا للإبداع الشعري، وإن المتنبي قال ما قال ورحل، ولو كان قادرًا على وضع حد للشعر في أيامه، لما رأينا إبداعاتِ مَن أتى بعده إلى يومنا هذا؛ لذلك يجب على الناس أن تبحث عن قدراتها في المواضع التي تستطيع الإبداع فيها، وليس حتميًّا على مَن دخل السجن أن يكون شاعرًا أو أديبًا، وليس لزامًا على الأدب أن ينحني للأبطال إلا انحناءة تقدير لبطولاتهم، التي يمكن أن يبدعها غيرُهم في الشعر والأدب، ولتكن بطولتهم مصدرَ إلهام وتقدير للمبدعين، خير من أن تكون تجرُّؤًا على الأدب بما لا يملكون من أدوات وقدرات.
وانغرار سميح بهذين الأمرين - الحرية وهجر القافية - جعله ينساق دون إحساس أو دراية وراء السهولة، التي ظهرت له من خلال هذه الحرية البراقة، فانفلتتْ قصائدُه من قيود الاتِّزان، ووحدة القصيدة، وترابط المعاني، وإحكام الهيكل، فتحولتْ قصائدُه إلى نسيج فوضوي، لا يمت للشعر بصلة، ولا للأدب بمعنى.
وهذا مأخذنا الأول على الديوان.
الأوزان الحرة ذاتها تمتلك موسيقى خاصةً منفصلةً عن الموسيقى اللفظية؛ لذلك فهي عامل مهم من عوامل تضليل الشاعر غير القادر على السيطرة على تلك الأوزان سيطرة كاملة، فالشاعر حين يكتب يلمس آثارَ انسيابٍ موسيقيٍّ عذب، فينطلق مكملاً قصيدتَه على هذا النمط الموسيقيِّ الساحر، ويفُوته أن هذه الموسيقى ظاهريةٌ في الأوزان نفسها؛ مما يجعل قصيدتَه غثةً، مفككةً، غيرَ مترابطة المعاني والأفكار، وهذه المزية أوضح ما تكون في ديوان الشاعر هذا؛ لأنه لم يملك الحس الموسيقي للتفريق بين موسيقى الأوزان، وموسيقى الألفاظ.
"كيف توغلت؟!
تعديت حدودك
كيف استثنيت دمي؟!
كيف تجاهلت التفاحة؟!
والحجر الساخر من شللي
لا تمهلني
لا تنظرني
سبع سنين أخرى
خدعني
انطلق الآن كصاروخ
ابحث عن آبار النفط الأخرى
ابحث عن شجرات السلف الصالح
استنطق رعيان البرية في غرف التحقيق
واخرج بالحكمة
والقول الفصل".
فالموسيقى هنا خفية غير ظاهرة؛ مما يدل على أنها موسيقى الأوزان الخادعة، لا موسيقى الألفاظ والقوافي المصنوعة من فكر الشاعر وقريحته.
وهذا مأخذنا الثاني على الديوان.
أما مأخذنا الثالث، فهو أخطر المآخذ، وأكثرها تعقيدًا، وهو مأخذ التدفُّق الناشئ عن وحدة التفعيلة في أغلب الأوزان الحرة، فالشعر الحر يعتمد تَكرار التفعيلة عدة مرات، يختلف عددها من شطر إلى شطر؛ مما يجعل الوزن يتدفق تدفقًا مستمرًّا إلى حد لا يصدَّق، وفجأة يقصر إلى حد لا يصدَّق، الأمر الذي يؤثر على وقع القصيدة واتزانها، والتدفق أيضًا هو المسؤول عن خلوِّ القصيدة من الوقفات الثابتة عند كل معنى، والوقفاتُ ضروريةٌ؛ بل شديدة الضرورة في كل وزن؛ لأنها تمنع الانحدارَ من تفعيلة إلى أخرى دون تنفس، خاصة وأن الشعر الحر لا يمتلك وقفاتٍ ثابتةً، وإنما يترك الشاعر حرًّا يقف حيث شاء، ومن هنا ينشأ المشكِل؛ إذ إن أغلب الشعراء لا يقفون عند نهاية كل شطر، الأمر الذي يجعل القارئَ يلهث خلفهم في معترك صاخبٍ لا راحة فيه.
وهذه المزية هي التي تحدِّد مستوى الشاعر في القدرة على إيقاف المعنى في كل شطر بقافية ظاهرة رنانة، ومن ثَم الانتقال إلى شطر جديد، وتوقف جديد بقافية محاكية للأولى، ويظهر الديوانُ خاليًا من كل الوقفات المحكمة، مندفعًا وراء التدفق، يقف حيث يقف، ويستمر معه حين يستمر، ومثال ذلك:
"يا سادتي الكرام
صلُّوا على النبي
ومرة أخرى، صلوا على النبي
صلوا ثلاثًا
واذكروا أحبابه
يا سادتي الكرام
صلوا على الصحابة
ومرة أخرى على سيدنا الإمام
وخادم الإمام
لأنه خادمه
يا سادتي الكرام".
وقوله في بقية القصيدة نفسها:
"وكان يا مكان
شيخ، وكان فاضلاً
وطالما صلى على النبي
وهذه حكايتي حكيتها
في عبكم خبأتها
وجثة القتيل عند بابكم رميتها".
فالمقطوعة الأولى تبدأ بـ"يا سادتي الكرام"، وتنتهي بـ"يا سادتي الكرام"، وأي توقف قبل النهاية المذكورة يبتر المقطوعة، ويجعلها غير متماسكة في اللفظ والمعنى.
أما المقطوعة الثانية، فتبدأ من قوله: "وكان يا مكان"، وتنتهي "عند بابكم رميتها"، وأي توقف قبل ذلك يكون على حساب المدلول اللفظي والمعنوي.
وهذا الأمر يدل دلالة واضحة على أن سميحًا يكتب من خلال شهرته واسمه، الذي أخذ مكانًا في واقع الأدب أحيانًا دون أن يلتفت للإبداع الحقيقي الذي عليه أن يلتزم به، دون النظر إلى عدد الدواوين التي يمكن أن تنزل للأسواق، ودون أن يهتم بالنزوات التي تأتي للشاعر أحيانًا وهو غارق في دنيا التدفق المتواصل دون النضوج، ولو كانت كل الرعشات والدفقات التي تصيب الشعراء تستحق أن تكون من الشعر الذي ينزل إلى الأسواق، لكانت الدواوين التي بين أيدينا لشعراء العصور والفترات السابقة تفوق بعدد صفحاتها وقصائدها ما هو موجود الآن في الأسواق؛ لكنهم كانوا يتعهدون ما يعتريهم من شعر بالعناية، والتدبُّر، والتأمل، والتنقيح، والاستحسان، دون النظر لحجم المؤلفات، أو عدد الصفحات؛ لذلك استطاعوا أن يَبقَوْا في قمة مجدهم وعطائهم كشعراء مبدعين، من أول قصيدة كتبوها، إلى آخر قول قبل رحيلهم من الدنيا إلى الزوال الجسدي، لكن ليبقوا في أعماق الأدب شعراء، لا يستطيع الموتُ طيَّ أسمائِهم من سجلات الإبداع والرقي.
أما مأخذنا الرابع، فهو الرمزية الغارقُ بها الديوانُ من أول كلمة إلى آخر كلمة، فالشاعر في كل عصر يكتب للعوام والخواص، مؤديًا نفسَ الفكرة لأفراد الفئتين، وما الاختلاف في الأسلوب من عصر إلى عصر إلا اختلافُ الثقافة وألوانها، ومدى تقبُّل الناس لها، فشاعر الجاهلية كان يفهمه الأميرُ ويفهمه الراعي، العامل والمتعلم المتذوِّق لفنون الشعر؛ لأن اللغة في ذلك الوقت كانت بالنسبة له يسيرة سلسة، يسهل قيادتها وفهمها.
أما بالنسبة لنا، فالبُعد الذي حصل بيننا وبين اللغة الأصيلة، يجعلنا نستهجن مفرداتِ الحطيئة والأخطل والمعرِّي، لكننا لا نستهجن مفردات عبدالرحيم محمود ولا أبي سلمى، ولو عرضنا المفردات العصرية على جاهلي غير شاعر لاستهجنها، وقد ينكر أنها من العربية الأصيلة؛ ومن هنا نستطيع القول بأن التطور الحضاري للمفهوم الأدبي بكل صوره أمرٌ لا مناص منه؛ لأنه ناتج حتمي عن تطور الحضارات بشتى صورها.
ولكن إلى أي مدى يجب أن يصل هذا التطور؟ وعند أي حد يجب أن يقف؟ فالرمزية جزء من هذا التطور، وهي بحدِّ ذاتها أمر جيد إذا استُعمِلت استعمالاً صحيحًا، بغير تعدٍّ على الأصول، أو فيضان عن الحاجة، وخيرُ دليل في القدرة على توظيف الرمز في القصيدة بشكل صحيح، يتناسب وحجمَ الفكرة والمأساة تناسبًا تامًّا - ما يقوله محمود درويش في قصيدة مديح الظل العالي:
والآن والأشياء سيدة، وهذا الصمت عالٍ كالذبابة
هل ندرك المجهول فينا؟ هل نغني مثلما كنا نغني؟
سقطت قلاع قبل هذا اليوم، لكن الهواء اليوم حامض
وحدي أدافع عن جدار ليس لي
وحدي أدافع عن هواء ليس لي
وحدي على سطح المدينة واقف
أيوب مات، وماتت العنقاء، وانصرف الصحابة
وحدي أراود نفسي الثكلى فتأبى أن تساعدني على نفسي
ووحدي
كنت وحدي
عندما قاومت وحدي
وحدة الروح الأخيرة
رَمَز الشاعر لنفاد الصبر بموت أيوب، وموت المستحيل على أيدي المقاتلين في لبنان بموت العنقاء، وتآمر الأنظمة العربية، وترك المقاومة وحيدة في ساحة النضال والشرف، تخوض معركة المستقبل، من الطبيعي جدًّا أن يرمز له بانصراف الصحابة؛ لأن القارئَ حين يصل إلى كلمة الصحابة، فإن فِكره سيرتدُّ إلى عصر النبوة، حيث كان الإخلاصُ والتفاني العلامةَ المميزة لصحابة الرسول الكريم - عليه الصلاة والسلام - وتقديمُ كل تلك المقدمة لازمةٌ ضرورية؛ حتى يستطيع الانتقال إلى تصوير حالة الوحدة التي عاشها المقاتلون في الدفاع عن شرف ومستقبل الأمة العربية، من خلال عذابات الروح التي عاشوها في المعركة.
وديوان سميح غارق بالرمزية التي لا معنى لها من أَخمص القدمين وحتى قمة الرأس، وكأن كل قارئ لهذا الديوان يعيش بنفس الشاعر، يواكب خلجاتها، ويضطرب مع اضطراباتها، ويتحرق شوقًا لما تتشوق إليه، وأسى لما تشجن له، وهذا ليس بالصحيح؛ لأنه ليس كل قارئ قادرًا على معرفة ما بنفس الشاعر، وليس كل قارئ أيضًا قادرًا على تحليل الرمز إلى قضاياه الحقيقية الأساسية، هذا إذا كان الرمز مِن النوع الذي يستخدمه مَن لا يستطيع التعبيرَ إلا مِن خلال كلمات مشحونة بالرمزية أكثر مما يجب.
فكيف يستطيع القُراء تحليلَ رمزٍ غيرِ مقصودٍ فيه شيءٌ على الإطلاق؛ كرمز سميح في المقطوعات السابقة التي أوردناها، فهو لم يَقصد فيها شيئًا غيرَ التعميةِ على القارئ، وإيهامِه بأنها قصيدة من نوع جديد، وفي هذه الحالة نتساءل: لمن يكتب الشاعرُ قصائدَه؟ ألنفسه؟! فإن كان هذا صحيحًا، فأوجب عليه أن يحتفظ بها لنفسه، ولا يخرج بها لجمهور القُراءِ مشلولةَ الحركات، غارقةً في الإبهام الذي لا معنى له ولا أصل؛ لتظهر فوق التصور والخيال، فالقصيدة التي تعتمد الغريبَ لتدلَّك على متانتها، ليست خليقةً بصفة القصيدة الشعرية، وإنما هي أشبه ما تكون بصورة الرَّسام العاجة الصاخبة، الساترةِ خلفَها عجزَ الريشةِ التي أخرجتْها؛ وإنما القصيدة هي ذلك الجلمود الغارق بالنتوءات الصخرية، الذي تحوِّله يدُ النحات - بعد جهد وكد - إلى تمثالٍ آيةً في الدقة، وغرابةً في النحت، حتى إذا شاهدتَه خُيِّل إليك أنه إنسان يودُّ أن يحادثكَ وتحادثه.
أما مأخذنا الخامس والأخير، فهو أهم المآخذ، وأكثرها إبعادًا للشاعر عن صفة الأدب، وهو اعتماد الشاعرِ استعمالَ ألفاظ الشارع غبر المحبَّبة أو المقبولة، ومساسه بالعقائد والمناهج والمبادئ التي يعتنقها الناس بالسخرية والاستهزاء، ومثال ذلك قوله:
"سأموت إذًا يا أولاد..."
وقوله:
"وحدودكم الأمنية أمر هام؛ ولذا يستحسن أن تبقى
مدًّا جزرًا
طالعة نازلة
في خفة أنشوطة
أو في خفة..."
وقوله:
"قل لي بحياة أبيك
أحرام أني غافلت المختار الخائن
بنسوته"
وقوله:
"دعوت الله للمقهى القريب
وشربت قهوة سيدي جلت جلالته
ولم ألحف عليه لأن مولاي اعتذر
العفو يا ابني؛ إن داء السكر الملعون لا يعفو
وكانت علبة
السخرين في جيبي
ولكني خلعت المعطف الشتوي، إن الطقس...
إنهم، غير أني صرت يا مولاي جالية لدى كل الشعوب
فما تقول؟
- ونسيت يا ابني دفتر الشيكات، تدفع أنت،
ثم غدا
وودعني على أمل اللقاء"
وقد حذفتُ الكلمات النابية، ونوهت مكانها بالنقط؛ لأن القلم يقطر خجلاً حين يدفع ليخط مثل هذه الكلمات، والتي لا تدل على شيء كما تدل على فهم خاطئ لمعنى ووظيفة الأدب.
فالأدب ليس عملية تركيبية للأحرف والكلمات الشائعة، بقدر ما هو تهذيب وتقويم للنابي والمعوج من مفاهيمَ وكلماتٍ، تتركب من خلالها انطباعات الناس ومشاعرهم، وهو فوق كل ذلك عمليةُ صقل مضنية لتجارِب الماضي والحاضر؛ من أجل الوصول إلى صورة مستقبل مشرق، فيه من النقاط المشرقة ما يفوق نقاط الخزي أمام محكمة التاريخ.
إذًا؛ فليس من اللياقة والأدب أن ينفلِتَ الشاعر من قيود الكلمة الحسنة المهذبة، ليدخل عالم الكلمة المنحلَّة النابية والفاجرة؛ لأن الأولى تحمل بين ثنايا حروفها أريجَ الالتزام بالأدب الحق واللغة الحقة، أما الثانية إن دلَّت فإنها لا تدل إلا على ضعف القدرة الشعرية لدى الشاعر، وعدم قدرته اختيار الكلمة المناسبة، أو المفهوم للمعنى، أو المفهوم المناسب.
واختيار الكلمة فن قائم بذاته، لا يتوصل إلى أسباب النجاح فيه سوى دارسٍ متمرس، متعمِّقٍ في اللغة وأصولها، ملمٍّ بكل جوانب الدقة فيها، عارفٍ كلَّ صغيرة وكبيرة من جواهرها، فاختيارُ الكلمة الملائمة يدل على عظمة الشاعر والشعر في آن؛ لأنه إسقاط ما في النفس على الحدث المتحدَّث عنه؛ لذلك فإننا نستطيع القولَ: إن الارتباط القائم بين الحالة النفسية للشاعر، والحركة الشعرية للكلمات - هي حالة واحدة لا يمكن فصل إحداها عن الأخرى، ولأن هذه القاعدة لا شك فيها؛ فإن الشعر المستهتر يدل على نقصٍ في الإبداع الحقيقي المسؤول، وإذا كان الاستهتار بعقائد الناس ومبادئهم هو الصادرَ عن هذا الديوان، فأي فائدة فيه للمجتمع وللقضية التي يحياها الناس في وسط هذه التناقضات؟!
وكلُّ ما يمكن أن يقدِّمه الشعرُ المستهتر، استطاع سميح أن يقدِّمه لنا بالغزارة الفائقة، ولم يقدم شيئًا غير تلويث الطهارة الإحساسية لشعبنا العريق بطهارته، وتشويه الشعور الوطني الذي بناه شعبنا خلال أجيال طويلة بأنهار من الدماء الخصبة.
وليس من حق أي إنسان - شاعرًا كان أم كاتبًا - أن يتعدَّى بكلماته على عقائد الناس، وعاداتهم، وتقاليدهم، وأعرافهم، حتى ولو كان بينه وبين تلك العقائدِ والتقاليدِ والأعرافِ خصامٌ حادٌّ، وتباينٌ شاسع؛ لأنه لا يكتب لأناس مخصصين؛ بل يكتب للجميع، ومن حقِّ القارئ على الشاعر أو الكاتب ألاَّ يقوم أحدهما بتمزيق الستر عن عقائده وعاداته.
هذا هو الأمر الذي تناساه الشاعر، ليعتمد استخدام اللفظ المستهجن، وللتهجم على العقائد المقدسة، ظنًّا منه بأن ألسنة القُراء سوف تتداول هذا القولَ؛ لأنه جديد بجرأته وقحته اللامبالية بأحاسيس القراء أنفسهم، وهذا ظن خاطئ؛ لأن الناس يمكن أن تتنازل عن لقمة العيش أمام القهر، لكنها لا تتنازل عن الحق أمام أي قهر أو ظلم، وإن كانت الأوضاع الآن - بسبب الاستعمار - تتيح لسميح وكثير مثله أن يخرجوا على الناس بمثل هذه الأعمال، فإن التاريخ القادم سيقوم بعزل هذه الأعمال عزلاً يتناسب مع ما هي عليه حقًّا.
فالإنسان العربي يحيا في ظل عاداتٍ وتقاليدَ، ورثها منذ زمن بعيد عن آبائه وأجداده، وهي عادات يَحق له التفاخر والازدهاء بها، كالتأدب في الكلام، والخجل من استعمال الألفاظ النابية الفاضحة، الكاشفة المبتذلة، باعتبارها تُخلخل شخصيةَ المحدِّث، وتُقلل مِن سمتها ووقارها.
فإذا حاول الشاعر أن يضع العادات والتقاليد والعقائد خلف ظهره حين يكتب، فعليه أن يكتب ما يريد لنفسه فقط؛ لأن الذي لا يحترم مشاعر الناس التي يمكن أن تتناول ديوانَه؛ لتنعم بما فيه من "أدب"، فإنه بحاجة إلى مراجعة لامكاناته من جديد؛ ليعرف: هل ما يكتبه يعبِّر حقًّا عن العقل الجمعي والضمير الجمعي للشعب أو لا؟ وعلى الجواب تترتب كل معطيات المستقبل، فهل بين المستقبل وهذا الديوانِ أيُّ صلة تربطه بواقع الشعب الذي يدفع كل ما يملك؛ من أجل الحفاظ على مقدساته وعقائده؟
الجواب لي واضح، ولكن حتى يكتب الجواب بأحرف المستقبل، فما علينا سوى انتظار الرحمة القادمة مع المستقبل الذي تراق الدماء من أجله صباح مساء.
مأمون أحمد مصطفى
فلسطين- مخيم طول كرم- 1976