المسرح .. ذلك العالم المدهش، المغري والجاذب لكثير من الكتاب، يمثل منطقة إبداعية شائكة، فبالرغم من دخول الكاتب إليه طواعية، وبكامل إرادته وبذائقته الإبداعية الخاصة طمعًا في التحقق الإبداعي، نظراً لأنه على خشبة المسرح تتعانق الفنون لتصنع لمشاهده تلك الحالة الممزوجة بالمتعة والخيال والرسائل المتنوعة، ولكن تظل مقولة كثير من نقاد المسرح الكبار أنه ليس بالضرورة كل كاتب بارع خارجه يكون على نفس قدرته الإبداعية في الكتابة المسرحية، وأن من استطاعوا أن يثبتوا جدارتهم هم هؤلاء الذين يعلمون جيداً كيفية التعامل مع مساحات الممثل المسرحي، الذي يصفه بعض حكماء اليونان بأن الممثل المسرحي العظيم هو ذلك الذي يعتمد على صوت مرن وذاكرة ممتازة، وكما اتفق كثير من النقاد أنه لن يخلد المسرح سوى كاتب ملم بماهية (الحبكة الدرامية، وأبعاد الشخصية، وجودة الفكرة، وإجادته للغة المستخدمة، مع علمه التام بالمنظورات المسرحية).
- ومع قراءتي لنصيِّ الكاتب (المنعطف الأخير)، و (العائد الذي ما عاد) أدركتُ أن كاتبنا الدكتور السيد إبراهيم لم يدخل إلى تلك المنطقة الشائكة في الكتابة وهي “الكتابة للمسرح” إلا بعد علم بخفاياها، ولا سيما أن نص “المنعطف الأخير” بدا لي نص جامع بين مفهومين للكتابة المسرحية، مفهوم ” الواقعية السيكولوجية” أو المسرح الواقعي، الذي يستقي مصادره من أحداث لها صلة بالواقع وليس بالخيال، وبين مفهوم مسرح العبث أو اللا معقول؛ فالحرامي الذي دلف إلى المنزل من أجل السرقة في غياب أصحاب البيت، ولم يجد ما يسرقه، وفجأة دخل صاحب الشقة عليه هنا تحدث نقطة البداية لتصور عبثي ما، فالحرامي يتحول في سياق السرد المسرحي إلى عذرائيل، ويبدأ طبقاً لنظرية الفرد في المسرح العبثي بأنه البطل الذي يحمل في يده الحل لإسعاد البشرية أو تدميرها، يبدأ الحوار الثنائي بينه وبين صاحب المنزل، فيحاول الأول أن يُعِّدل من سلوك الثاني، ويدور بينهما حوار كاشف يحمل من الدوال والشارات الكثير لإدانة مجتمع غير عادل في توزيع ثرواته، مجتمع تفشت فيه الرشوة والمحسوبية لدرجة فجة، ويتضح ذلك من قول صاحب الشقة: “بأنه موظف في الدرجة الرابعة، وأن الرشوة عنده مثل وجبة الإفطار، والسمسرة كوجبة الغذاء بالمنزل، والعمولات هي العَشاء” مما يدل على انغماسه في الفساد، وهو أيضًا صورة فجة للشخص الوصولي وقد نجح في نسج خيوطه للاستيلاء على ثروة حماه بالزواج من ابنته الوحيدة.
- وفي نقلة نوعية نجد هذا الفاسد عندما يتيقن من وقوفه على عتبة الموت، طلب المهلة يومًا أو ثلاثة أيام حتى يقابل الله بعد أن يُكَفِّر عن ذنوبه، وهنا نجد الكاتب مشترك مع مسرح العبث بمناقشة فكرة الموت، وهي فكرة رئيسة في نصوص مسرح العبث بشكل عام، وفي النص نجد معالجة تتوائم مع ما تكنه النفس البشرية من تناقض؛ فالمذنب عندما يأتيه الموت يود مهلة للتكفير عن ذنوبه ليقابل الله متخففًا من تلك الذنوب، كما جاء في الحوار بين اللص “عذرائيل” وصاحب الشقة “مشروع الميت المنتظر” نجد خلاصة لتنازع النفس البشرية بين فكرة الصراع من أجل البقاء أو الصراع من أجل المادة، فصاحب الشقة “مشروع الميت” يطلب يومًا أو ثلاثة ليُكَفِّر عن ذنوبه، ولكن حينما عرض عليه اللص “عذرائيل ” فرصة أخرى للحياة مقابل التنازل عن ماله، يدخل في صراع نفسي جديد، حيث تتنامى الحبكة الدرامية في الصعود، ويمثل له المال ضرورة وجود، كما يمثل له الموت الحرمان من المال والحياة معا، فينسى فكرة الموت ويستبدلها بالتصديق لما قرأه لبرنارد شو الذي قال أنه لن يموت إذ ليس هناك ما يبرر موته.
- يقفز بنا الكاتب من فكرة الصراع النفسي بين صاحب الشقة ورغبته في رؤية مولوده الجديد، وهي رغبة مرتبطة بغريزة حب البقاء، إلى الصراع الطبقي بين الغني والفقير باقتراحه على عذرائيل أو الحرامي بتقسيم نصف المدة مع نصف الثروة، فيأتي رد الحرامي المباغت بأنه لن ينفع التطهير مع أمثاله لأن تفكيره قائم على النفعية والمصلحة حتى في الزواج.
- الثنائية الفارقة في نص المنعطف الأخير:
- يلعب الكاتب لعبة الثنائية الفارقة بوضوح، فالنص يقوم على البطولة الثنائية بين اللص “عذرائيل” وصاحب الشقة “مشروع الميت” ، والثنائية الثانية نجدها في الصراع الدرامي القائم على فكرة الحياة والموت، والثنائية الثالثة نجدها في الحديث عن الحي الغني والحي الفقير، وتتبلور الثنائية في طبيعة دور البطل في مسرح العبث بشكل عام، وهي تخليص العالم من الشرور أو وقوع العالم في الشرور ونجد ذلك على لسان اللص، حينا تمني بأن يكون مَلكًا للموت ليخلص العالم من الأشرار أو من الفقراء لرؤيته أن حالهم أكثر بؤسًا من الأشرار، كما يختم النص بنهاية فارقة أيضًا؛ فاللص ينصرف ولكن كلماته عن ملك الموت تتمكن من صاحب الشقة كما يتملكه الخوف وهو ينظر إلى الستارة المتحركة متخيلاَ ملك الموت خلفها فيزداد خوفه وصراخه، ولا تكف الحركة ولا يصمت الصراخ إلا بسقوطه على الأرض في نهاية مفتوحة جيدة.
“مسرحية: العائد الذي ما عاد”..
في هذا النص نجد قدرة الكاتب في الجمع بين أكثر من شكل مسرحي؛ ففيه يجمع بين قسوة وقوة المسرح التسجيلي، وثراء لغة المسرح الشعري بالإضافة لروح الكوميديا الساخرة، وحسب قول “مارجوري بولتون” في كتابها الشهير “تشريح الدراما”، بأن المسرحية ليست في الحقيقة قطعة من الأدب للقراءة وإنما المسرحية الحقيقية أدب يمشي ويتكلم أمام أبصارنا، وهذا كان انطباعي لحظة قراءة هذا النص الماتع، فهو نص سياسي اجتماعي بامتياز، لا يخلو من روح الدعابة الساخرة، رغم جدية الفكرة كونها فكرة تسجيلية لانعكاسات ثورة 25 يناير وتداعياتها في مدينة السويس وتحديدًا في حي الأربعين، إلا أن تمكن الكاتب من عرض عناصر النص المسرحي من (رسم جيد للشخصيات، وتنامي الحبكة الدرامية بمنطقية تتوائم وتتوازى مع إجادته للغة المستخدمة التي وردت على لسان الشخصيات موحية ومعبرة، غير مركزة لدرجة الإلغاز والإبهام، وغير فضفاضة لدرجة الترهل والملل، بل جاءت معبرة بلسان شخصيات العمل غير مفصحة عن شخصية الكاتب، وهنا وجدت قدرة الكاتب في استخدام اللغة فلم أشعر بفكره الشخصي بقدر ما كانت اللغة سلاح ولسان حال أفكار شخصياته داخل العمل، الذين عكسوا الكثير من الرؤى والأفكار المطروحة دون مباشرة متعمدة ، ولكن في دلالات وإشارات من داخل السياق السردي حيث عبر النص عن مجموعة من القضايا السياسية والاجتماعية داخل سياقه السردي منها قضايا (الفساد، إغراق مصر في الديون، الخصخصة، قضية خضوع الصحافة والإعلام للقيادة السياسية في كل مرحلة من مراحل الحكم، كما نجد فكرة تحميل الرئيس السادات مسؤلية اختيار نائبه، وفكرة معاناة أهالي السويس وقت التهجير، وإدانة كثير من الشخصيات التي ظهرت على الفضائيات وقت وبعد أحداث ثورة يناير تحت مسميات الناشط السياسي والمحلل الاستراتيجي والفاهم في الدستور) والمدهش هو طريقة طرح كل هذه القضايا المهمة من خلال السياق المسرحي على ألسنة شخصيات العمل، حيث أجاد الكاتب في رسم ملامحهم الشكلية وبيان تنوعهم الثقافي واختلاف مستويات الحوار على ألسنتهم وتنوع حالاتهم الشعورية وانفعالاتهم النفسية، كما طرح النص المسرحي بذكاء قضية عدم تحديد المسؤوليات وتشعبها وقت الثورة، ونستدل على ذلك من سؤال سناء الأم الحائرة الملهوفة على غياب ابنها بقولها: (ابني عند مين؟! الشرطة، الجيش، الإخوان، البلطجية!”، كما يطرح النص قضية فكرية من أهم القضايا وهي الفجوة الواسعة بين ما يقدمه شيوخ الجوامع على المنابرمن خطب وما يحتاجه الناس من مناقشة أمور دنياهم ، وبصفة عامة من سيطلع علي نص العائد الذي ما عاد سيكتشف الكثير من النقد اللاذع لفترات الحكم في مصر منذ ثورة 52 حتى ثورة 25، سيجد حضورا فاعلاً للشباب داخل العمل، سيجد أربعة من القصائد الشعرية الموظفة توظيفاً جيداً داخل النص، سيجد تحقق وتوفيق من الكاتب واهتمام بفكرة العدالة الاجتماعية أكثر حتي من مسألة الرصد السياسي للقضايا السياسية، سيجد تحقق مدهش لمبدأ مسرحي مهم وهو أن الدراما في وجهها المتكامل لابد أن تتضمن على الفعل والمشاهدة، وقد تحقق لهذا النص تلك الميزة بدرجة كبيرة ليختم بختام موحي ومفتوح أترك للقارئ العزيز فرصة التعرف عليه من خلال قراءة النص المسرحي.