الحركة الأدبية في
الوطن المحتل
وجه الحركة الأدبية، هو الصورة الأولى العامة التي يلحظها القارىء لأدب شعب من الشعوب. لان جمال الوجه هو الجمال الذي يأخذ النظر لأول وهلة. لماذا؟ لأنه الواضح العام، المكشوف للعينين، هو جمال البصر. وما يستتر خلفه، وخلف الروح جمال لا تراه العين وتدركه البصيرة.
وما بين الجمالين جمال.
جمال توحده قدرة البصر مع قدرة البصيرة، ويرفع الملموس إلى غير الملموس، فيمتزج الجمالان في تحفة أدبية خلابة، تأخذ العقل وتأخذ الروح إلى مساحات هائلة من اهتزازات المعاني الروحية الساكنة في قلب سحابات هائمة فوق الأرض، وتحت أضواء النجوم.
ولكي نصل إلى روح الأدب، لا بد لنا من المرور في محطة الوجه الأدبي، الوجه العام، أو بتعبير أدق، الصورة المميزة للأدب الذي نود معرفته. لان المحطة الأولى هي البداية نحو مضمون الجمال الباطن، مفهومه، جوهره، سره، وكنهه. والوصول إلى مثل هذه المكونات عمل ليس باليسير، كما انه ليس بالصعب. وكل ما يحتاجه ليس إلا ملكة التحليل الواعية لطبيعة الظروف التي تحتاج دوما إلى دراسة وافية فيما تحمله من تناقضات وتصارعات، تؤدي بدورها إلى تكوين قاعدة خاصة بالجمال وفق طبيعتها الحية الحاكمة لأسلوب الحياة وطريقة العقل.
ومن هنا كان الأدب ابن الحياة، تحمله في رحمها شهورا أو سنينا، ليشق طريقه في رحاب جسدها الجواد الأخضر، ليكون لنفسه رحلة تحمل في جنباتها أثقالا واعباءا، ينوء بها أحيانا، ويحملها من غير جهد مرة أخرى. فهو بين القادر والعاجز، يفهم نفسه، ويعود يجهلها، ويتساءل فيجاب، ولا يجاب، ويبحث، فيكتشف جديدا، أو يزيده اكتشافه غموضا يوقفه عند بحث جديد، ومفهوم جديد. فيحس حينئذ بان عقله يكاد ينفجر من ضيقه وصغره، ويحس بان عقله كبير، لأنه استطاع الاحاطة بقوانين لم تستطع أمه الحياة إدراكها وان حوتها. وعندئذ يكون قد نضج بما يكفيه أن يكسر غلاف الرحم، ليخرج فارزا حبات الأثير بأنامله العذبة، فيهديها لإخوته احساسات ومشاعر وانفعالات، فيها من لظى ناره غضب على ما لا يتفق وروح الجمال. وفيها من موج نفسه الهادئة، التي تنحت الصخر معجزات رائعة، وتحتضن حبات الرمال بعطف وحنان، لتهديه من ندى روحها عبيرا فواحا بالصدق والوفاء.
هذا هو الأدب، وهذا هو وجهه.
ووجه الحركة الأدبية في بلادنا أوضح من وجوه الأدب في بلاد كثيرة. كيف لا؟! وهو حوار العقول، ومدار الألسن في العالم. ولم يكن كذلك إلا لأنه ارتبط بمفهوم عميق نحو الحياة وجوهرها. فسكب فكره في بوتقة الأمل والعمل، للوصول إلى المعنى الأكبر في حق ابن الحياة أن ينهل من عطاء أمه وثروتها، ما ينهل أبناؤها في أنحاء العالم. انه أدب الكفاح، أدب الجهاد، أدب النضال من اجل الحياة وحنان الأم، وليس من اجل شرب مياه البحار والمحيطات جرعة واحدة من أنبوب قطارة الأنانية والذاتية.
هو أدب يتقلقل فيه الحب والغضب، تقلقل الروح في الجسد حين خروجها من أوردته وعروقه. هو تقلقل التمسك بجمال الحياة وغضب على امتهان الحياة. أدب الإنسان وكفاحه من اجل إثبات إنسانيته الإنسان. أدب وحدة التراب المتحرك في صحارى الصدور القاحلة، والذي يقع فيه من لا يراه وقعة النمر في حفرة الصياد.
وأدب من هذا النوع، لا بد وان يكون ساميا رغم ما ينبض بقلبه من الم. مترفعا فوق كل بيادر الحزن لأنه مسيرة الصبر التي تسعى لرد الفرحة إلى صدر الأم وإحياء المبتور من أعضائها بعد أن تعفن في صدور لقطاءها تعفن الطحالب في أنابيب مختبرات الموت والفناء.
فهل يمثل أدبنا هذه الرسالة الصعبة؟!
إن الإجابة على هذا السؤال مسؤولية عظيمة. لأنها إن سرت القليل، فهي دون شك ستغضب الكثير. لان الأمانة النقدية لمثل هذا البحث تعتبر عند الكثيرين مسا لقدسية محرم على الأقلام مسها، حتى ولو كان النقد صائبا سليما، بعيدا عن الهوى والتعصب. ومرد هذا لكون قرائنا بعيدين عن النظرة التأملية لطبيعة الأدب المطروح على الساحة، وانما هم مندفعون بحماسهم نحو كل ما يتصوروه يخدم أهدافهم من اجل الحياة. وهم في ذلك لا يملكون العذر أبدا لان واجبهم الأول النظر في خفايا ذاتهم وتطهيرها مما يشوب نقاءها وصفاءها. لان البداية بالنفس تنم عن وعي هائل وإدراك جبار لمعنى الحياة وسرها. ومثل هذا الأمر مثل قولك لمن هو جريح بجرح بليغ، دعك من جرحك، وداو جرح صديقك العميق حتى الروح. فان ترك جرحه ينزف قليلا، وأوقف نزيف الجرح في أخيه، فانه الإنسان المسئول العارف لذاته حق المعرفة، والمدرك قيمة الحياة بصورة من أرقى صورها. أما إذا حدث العكس، فان هناك صدعا ليس في الحياة، وانما الصدع في معنى الحياة الساكنة في روح وعقل من يؤمنون بصورة الحياة الهزيلة الزاحفة على أربع.
من اجل هذا كان لا بد أن يكون هذا المقال.
تمتاز الحركة الأدبية في فلسطين، بأنها أتت في مرحلة هامة وحاسمة من مراحل الأحداث العالمية. فها هو النصف الأول من القرن التاسع العشرين يودع الدولة العثمانية وداع الغريب للغريب، وها هي حركات الاستعمار تزحف على الوطن الإسلامي زحفا حثيثا لتضعه في قبضتها. وها هو الاستعمار يخرج بجنوده تاركا خلفه أفكاره ومبادئه. هادما أفكار المسلمين العرب ومرتكزات كينونتهم. وها هم العرب يصرخون ويولولون، يشنون هجوم الضعيف فينسحقوا، ويطرقون أبواب الظالمين متوسلين الرحمة والرأفة، وان لم يكن رحمة كاملة ورأفة وافية، فبعض من هذه أو تلك.
وكان الأدب وسط تلك الظروف هش البنية، ضعيف القدمين، يحار حينا ويصرخ حينا آخر بجنون الاستماتة والانتحار، ويتقلب مع الأحداث تقلب الأحداث ذاتها. فلا الأحداث مستقرة، ولا الأدب قادر أن يأخذ لنفسه خطا واضح المعالم يسير عليه حتى يستطيع توحيد الآراء والمعتقدات. فضاع العقل بين هذه الفكرة وتلك، وأصبحت النفوس حائرة لا تعرف بداية من نهاية.
ثم جاءت صحوة بسيطة حاولت أن توحد العقول العربية على خط مستقيم، يكون قاعدة للفكر العربي، ولكن دون جدوى. وكانت هذه الصحوة في محاولة الوحدة العربية. ولما فشلت الصحوة في الوحدة كان الانقسام الفكري قد اخذ مداه. فكونت كل دولة مقاييسا فكرية خاصة، تنادي دائما بتفوق آدابها على آداب العرب إخوانها، فركزت بذلك دعائم الانفصال الفكري بين الشعوب العربية، واحلب محل الوحدة نداء التعصب الإقليمي حتى في مجال الفكر.
ومن بين هذه الأجواء المشحونة، والتناقضات الكثيفة، كانت الحركة الأدبية الفلسطينية تشق طريقها ببطء شديد، ولكن بخطى ثابتة. لكنها لم تكن حركة أحداث بجوهرها ونواتها، بل كانت حركة أدبية منبثقة من مبدأ متين، راسخ الأصول في نفسية الشعب، إلا وهو مبدأ الإسلام، فخرجت في تلك الآونة حركة أدبية مبدئية ثابتة الأقدام بتراث الشعب ومنهجه العريقين. فحققت نجاحا لم يكتب له الاستمرار.
وما ذلك ألا بسبب كون المشكلة الفلسطينية أخذت تتقاذفها الأحداث تقاذف الكرة في ساحة اللعب. فعاد الأدب يلتصق بالكرة المقذوفة شرقا وغربا، حتى أصبح هو الاخر غير مستقر وغير ثابت، ومن نتيجة ذلك، أن أصبح الأدب يحمل أكثر من فكرة، وأكثر من منهج. الأمر الذي أدى به إلى التفرع نحو أكثر من مبدأ، وأكثر من عقيدة.
ونحن هنا غير معنيين بإبراز فضل القديم على الحديث. ولا ببحث القديم بأي شكل من الأشكال، لان دراسة مثل هذه، تحتاج إلى أسلوب التاريخ للمراحل التي مر بها الأدب عبر هذه السنوات التي لا تتجاوز السبعين عاما، وهو زمن قصير إذا ما قيس بكثرة المراحل التي مر بها أدبنا.
وانما نحن معنيون بتوضيح الظروف القائمة حاليا في أدبنا والتي تشبه إلى حد ما، مراحل الأدب القديمة، وحين أقول الظروف الحالية، فأنني اقصد فقط فترة لا تزيد عن السنوات الثلاثين الأخيرة إلا بشهور فقط. ولا اعني أيضا أنني سأكتب تاريخا لهذه الفترة، لا، إنما هي محاولة لتوضيح صورة الأدب الهزيلة التي تسيطر على الساحة، وأسباب هذا الهزال الذي حاق بالأدب.
إن الانقسام الذي أصاب الفكر الفلسطيني في مرحلة نضاله، أدى إلى إيجاد أيديولوجيات وبنى متنوعة لطبيعة حركة النضال. وهذا بدوره، انعكس انعكاسا واضحا على العقل العام، والأدب العام، فكان التجزؤ العقلي والأدبي، لذا كانت البلبلة النفسية والفكرية ناتجة عن اختلاف الأساليب الخاصة بالتفكير.
ووسط هذه البلبلة، كان التوزيع الفكري لدى كل جماعة تنتهج مبدأ خاصا بها يأخذ دورا عميقا في إرساء التحالف والتباين ليس من حيث الشكل فقط، وانما من حيث الجذور، بين فئات الشعب العادي، وبين الأدباء والمفكرين، وبهذا ثبت الخلاف بالشعب بدلا من الوحدة، وأصبح الأدب عاملا من عوامل نحت معابد الاختلاف، بدلا من دوره الطبيعي المرشح له بحكم حتمية الظروف.
وقد يخطر لقائل أن يقول:- إن الخلاف ظاهرة صحية في الشعب، خاصة إذا كان الهدف واحد لدى كل المختلفين. وهذا الكلام صحيح، إذا كان الخلاف القائم، خلاف الأسلوب في العمل، وإذا كانت القاعدة المبدئية واحدة. أما إذا كان الخلاف خلاف مبادىء، فلا سبيل إلى الالتقاء إطلاقا على أي أساس أو أسلوب في وحدة الهدف وطبيعته، وهذا هو المرض الفتاك القاتل الموصل حتما إلى الفشل الذريع في جميع الأحوال. وليس أدل على هذا الأمر سوى فشل الأدب الفلسطيني في جميع مجالاته وعلى جميع أصعدته. واقصد الأدب القادر على خلق نوع من الأرضية الفكرية التي تأخذ بيد الشعب نحو مسار عاطفي وفكري يلتقي مع حجم المرحلة وما يتخللها من اعدادات لإعادة العقل من مرحلة الثبات على الثوابت والحقوق إلى مرحلة القبول بأي حل قادم على حساب تلك الثوابت وعلى حساب الزخم التاريخي الذي يقف غلى جانبنا بكل ما فيه من حق ومن قوة الحق والتاريخ. واستطعنا وبتبرير بسيط أن نحول مصطلحات لا تحتمل في اللغة إلا معنى واحدا، استطعنا بعبقرية الانتقال من صف الالتصاق بتلك المعاني، إلى ابتكار معان جديدة تقود إلى إيجاد تبرير لغوي ونفسي للانتقال من الصعود إلى الهبوط حسب تقنيات المصطلحات الجديدة.
وان كان هناك شك في هذه الحقيقة فلينظر من شاء إلى جامعاتنا أولا. تلك المنابر العلمية الراقية التي يجب عليها أن تلغي جميع الخلافات من اجل الحصول على العلم، ذلك السلاح الخاص الذي يقود إلى لحظات الاستنارة الكلية والوضوح اليقيني لمفهوم الفكر الموحد. واني لأخجل من تسجيل الأحداث بتواريخها، تلك الأحداث التي حصلت في جميع جامعات " الوطن المحتل ". الأحداث التي كانت صورة مصغرة عن حرب شرسة تتلاقى فيها سيوف الأفكار لقاء التناحر، وتهوي فؤوس الخلافات على أدمغة الفكر المشتت لتحصد وحدة الروح ووحدة الهدف. تلك الأحداث التي استعملت فبها المدى والعصي والجنازير والسواطير والشرخات. تلك الأحداث التي فتحت بسببها أبواب المشافي لتستقبل الجرحى والمصابين في غرف الطوارىء، تلك الأحداث التي سال فيها الدم الفلسطيني على تراب الوطن ذاته، ولكن ليس فداءا له، بل انتقاما منه ومن ذراته التي كونت اللحم الفلسطيني ليكون مخلصا لتك الذرات إخلاص الجذر للأعماق.
ثم نأتي إلى الانتخابات الخاصة بمجلس الطلبة، فان تلك الانتخابات تشكل ساحة نضال فكري بين الجماعات الطلابية التي لا يتعدى تعدادها في الكثير أربعة آلاف طالب، وقد نكون مبالغين في هذا العدد. ففي هذه الفترة يبرز الخلاف بأسلوب حاقد رهيب، ناهيك عن التزوير والاتحادات التي تتم بين الكتل من اجل إسقاط كتلة معينة عند الضرورة، وإنني إذ أقرر هذا الكلام، فأنني أقرره عن تجربة عشتها في الجامعة التي كنت ادرس فيها. وعندها فقط آمنت بضرورة إصلاح هذه المؤسسات التعليمية قبل محاولة التشدق من اجل الأرض.
وقد اخترت الجامعات للمثال لأنها أوثق صلة بالفكر والأدب السائدين في الأرض المحتلة، ولان شباب الجامعات هم الطبقة المحسوبة مثقفة على المجتمع. وهي الفئة التي يمكن قياس حالة الأدب عليها. فإذا كانت الجامعات وشبابها هكذا فماذا تظن تكون صورة الأدب؟!
لأدبنا صور كثيرة، غير واضحة المعالم، لأنها مغلفة بغلاف التناقض والتباعد، مع أن الظروف التي نعيشها ذات طبيعة متميزة بوضوحها وثباتها كوضوح الشمس وثبات الوجود. إلا أن المشكلة تكمن دائما في العقل لأنه الذي يستطيع أن يأخذ شكل الوحدة أو التباعد، الثبات أو التحول. من اجل ذلك حرص الاستعمار دائما على تفتتيت الوحدة الفكرية يفوق حرصه على إضعاف الوحدة الجغرافية.
وصورة الأدب في أي شعب من الشعوب تنعكس بوضوح تام من خلال صحفه ومجلاته وكتبه وجامعاته، فان كانت هذه المقومات سليمة، كان الأدب سليما، وان كانت مزيفة هزيلة، كان الأدب مزيفا وهزيلا.
ونحن- والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه- لنا قصب السبق في الأمراض الأدبية الدابة في جسد صحفنا ومجلاتنا، كيف لا، ونحن السباقون دائما بالتفاخر والتشدق خلف قادة العرب، فان قالوا نحن للحرب، قلنا خلفهم، نحن للحرب. وان قالوا نحن للسلم، قلنا خلفهم، نحن للسلم، وان توسطوا توسطنا، وان تطرفوا تطرفنا. وان قبلوا أحذية الغرب قبلنا، وان ذهبوا للشرق يستعطفون، استعطفنا، وذلك لأننا شعب يملك من المبررات لكل حدث ما يناسبه، بل ويفوقه أيضا، فنحن من يسمي الهزيمة نصرا، والنكبة بنكسة، ولا نوافق على التفريط بحبة من تراب، ثم نطلب تسوية عادلة، لنا الربع، ولليهود ما تبقى. أوليس نحن أصحاب نخوة الكرم العربي الذي يقدم الأولاد وليمة سهلة إكراما للضيف والمستجير، أوليس نحن أصحاب العدالة ومقولة أن الظلم حرام، فماذا لو أعطينا اليهود جزء من أرضنا إكراما وحبا.
كل هذه الأمور افرازات أدبنا العالي الهمة، وكيف لا يكون ذا همة عالية ما دام يباع ويشرى في سوق النخاسة؟! فجرائدنا عديدة، وكل جريدة تتبع نظاما معينا، تتحدث باسمه ولا تحيد عن دربه، وهي معه على العهد والأمانة طالما هو معها على العهد والأمانة، هي بوق له ما دام يغذيها بنقوده. والطامة الكبرى حين تبدأ النزاعات بين الأنظمة من اجل احتواء جريدة معينة، فالجريدة في هذه الحالة تأخذ موقف الاعتدال بين الجميع، وتصبح سياستها الوحيدة انتظار نتائج المزاد بين المزايدين، وطبعا تستقر دوما على أعلى الأسعار، كأنها ليست رخيصة إلى الحد الذي يتصوره البعض. فتراها بين عشية وضحاها قد شنت حربا شعواء ضد من كانت تروج له بالأمس وتقول كما تقول الببغاء، دون أن تحفظ ود الأمس، وعهد أول أمس.
وليست مجلاتنا بأنزه من جرائدنا، فهي أيضا لها باع طويل في سوق النخاسة، وباعها أطول قليلا من باع الجرائد، لان مستوى كتابها وقرائها أعلى قليلا أو كثيرا من باع كتاب وقراء الجرائد، لذلك فان طبيعة المزاد تكون دائما محاطة بالغموض، لأنها أسرار لا يحق للعامة معرفتها حرصا على سلامة عقله من الضياع في دوامة المادة التي لا قيمة لها على الإطلاق.
وليس سوق النخاسة الخاص بالأدب هو كل ما في الأمر، لا، فهناك أيضا المحسوبيات الحزبية والشلليان الوطنية التي تشكل الطابع العام لوجه حركتنا الأدبية الرائدة، فالكاتب الذي لا يحمل الفكر التابع للمجلة الأدبية، لا يحق له أن يبعث لها مقالا لتنشره، لأنها إن تسامحت معه ستقول " مع الأسف الشديد مقالك غير صالح للنشر، ننتظر منك إنتاج جديد و.... معا على الدرب ". أما لو بعث لها احد المؤمنين بفكرها لها مقالة لا وزن لها ولا قيمة، فهي لا تكتفي بنشر مقالته بصفحتها الأولى، بل تدفع نقادها لإظهار مدى التفوق والإبداع في مقالة الكاتب الكبير، فتعج الصفحات بسيرته أياما أو أسابيع، والحقيقة أن مقالته لا تستحق النشر إطلاقا.
وقد ظهر في الأسماء الأدبية من جراء مثل هذه الأمور شعراء وقاصون وروائيون ونقاد، احتلوا مكان الصدارة في هذه الفترة، وأصبحوا هم سادة الأدب وصناعه. فكان لهم ما لم يحلموا به أبدا، فتعالوا فوق عقولهم، وصعدوا فوق قدراتهم، وأصبحوا في قوالب فضفاضة إلى حد لا يصدق مع حجمهم، وانزوى أدباء الكلمة الحق في سراديب النسيان، وضاعوا في متاهات الصحراء القاحلة، وأدركوا أن الأمر لا يمكن أن يتم لهم إلا إذا باعوا ضمائرهم رخيصة للتفرق الفكري بين دياجير الأحزاب. فوقفوا حائرين فترة، وباع بعضهم نفسه ثارا من الظروف، وصحا الباقون وفضلوا الصمت على الكلام، والعمل البعيد عن الأدب على الاشتغال بالأدب، لن الحركة الأدبية التي ترفع المتشاعر وترفض الشاعر ليست خليقة لان يكونوا من رجالاتها وفرسانها.
وبهذا اختلت المعايير، وعمت الفوضى، وانتشر نباح الدعيين، فأصبحت حركتنا الأدبية تعيش حالة انقلاب في الموازين، لذا أصبحت فجة هزيلة تحبو خلف ركب الأدب الملتزم، ولكن جدوى، لان بينها وبينه أميالا هائلة.
ووسط هذه التفرقات والمهاترات ضاع الهدف الذي كان الأدب قد نذر نفسه له، وأصبحت القضية الأولى هي قضية التبعية لمن يدفع أكثر، وأصبح الصراع حول هدف جديد، أي المجلات تبيع نسخا أكثر. أما قضية الواجب الذي كان من المفروض أن تحمله وسائل دعاياتنا فقد أصبح يعيش حالة عفن شديد وسط عقول المصلحة الشخصية والمكسب المادي الخاص. لان الواجب الأول، واجب المجلة أو الجريدة نحو نفسها، وأي واجب آخر يكون ثانويا يمكن النظر فيه إن بقي لدى أصحاب تلك الجريدة أو المجلة وقت كاف، ولكن مع الأسف الشديد فليس هناك وقت للتفكير، لأنهم عبيد شهرة وعبيد مادة.
وقد انتقلت عدوى الفرقة من المجلات إلى قرائها. فان احد الناس لو ذهب لزيارة معرض كتاب في إحدى جامعات الوطن المحتل فانه سيجد خمسين صنفا من الكتب، كل صنف يتبع لجهة معينة وتؤيده فئة معينة من الطلبة، وإذا ما أغرت الزائر نفسه شراء خمسين كتابا وقرأها، فانه لن يجد أدنى توافق بين أي كتاب وآخر. فكيف سيطلب من طلبة الجامعة آنذاك أن يكونوا وحدة واحدة أمام أي خطر مهما صغر أو كبر؟ وكيف يؤمل من طلاب الجامعات أن يكونوا صفا واحدا في تربية الأجيال القادمة؟ وكيف سيطلب منهم أن يحملوا أمانة العلم بعد تخرجهم؟ إنها مطالب عسيرة أمام وضع جد عسير.
إن حركتنا الأدبية تقف على حافة منحدر خطير، ولها أن تختار بين السقوط النهائي والتردي الأخير، وبين أن تستعيد مجدها وعزها من جديد. وهي في الحالة الأولى ستشكل صورة خزي عميق حتى أعماق الروح أمام محكمة التاريخ في الزمن المقبل. وفي الحالة الثانية فأنها ستضع نقاطا من نور فوق جبين التاريخ. والقضية هنا لا تحتمل حلا وسطا، كما أنها لا تحتمل تلاعبا في الأفكار والألفاظ، فإما خزي الأدب العام أمام محكمة التاريخ، وإما إضاءة جبين التاريخ بنقاط أدبية لها قيمتها ووحدتها ودلالتها الشريفة.
مأمون احمد مصطفى
فلسطين – مخيم طول كرم - 1976
الوطن المحتل
وجه الحركة الأدبية، هو الصورة الأولى العامة التي يلحظها القارىء لأدب شعب من الشعوب. لان جمال الوجه هو الجمال الذي يأخذ النظر لأول وهلة. لماذا؟ لأنه الواضح العام، المكشوف للعينين، هو جمال البصر. وما يستتر خلفه، وخلف الروح جمال لا تراه العين وتدركه البصيرة.
وما بين الجمالين جمال.
جمال توحده قدرة البصر مع قدرة البصيرة، ويرفع الملموس إلى غير الملموس، فيمتزج الجمالان في تحفة أدبية خلابة، تأخذ العقل وتأخذ الروح إلى مساحات هائلة من اهتزازات المعاني الروحية الساكنة في قلب سحابات هائمة فوق الأرض، وتحت أضواء النجوم.
ولكي نصل إلى روح الأدب، لا بد لنا من المرور في محطة الوجه الأدبي، الوجه العام، أو بتعبير أدق، الصورة المميزة للأدب الذي نود معرفته. لان المحطة الأولى هي البداية نحو مضمون الجمال الباطن، مفهومه، جوهره، سره، وكنهه. والوصول إلى مثل هذه المكونات عمل ليس باليسير، كما انه ليس بالصعب. وكل ما يحتاجه ليس إلا ملكة التحليل الواعية لطبيعة الظروف التي تحتاج دوما إلى دراسة وافية فيما تحمله من تناقضات وتصارعات، تؤدي بدورها إلى تكوين قاعدة خاصة بالجمال وفق طبيعتها الحية الحاكمة لأسلوب الحياة وطريقة العقل.
ومن هنا كان الأدب ابن الحياة، تحمله في رحمها شهورا أو سنينا، ليشق طريقه في رحاب جسدها الجواد الأخضر، ليكون لنفسه رحلة تحمل في جنباتها أثقالا واعباءا، ينوء بها أحيانا، ويحملها من غير جهد مرة أخرى. فهو بين القادر والعاجز، يفهم نفسه، ويعود يجهلها، ويتساءل فيجاب، ولا يجاب، ويبحث، فيكتشف جديدا، أو يزيده اكتشافه غموضا يوقفه عند بحث جديد، ومفهوم جديد. فيحس حينئذ بان عقله يكاد ينفجر من ضيقه وصغره، ويحس بان عقله كبير، لأنه استطاع الاحاطة بقوانين لم تستطع أمه الحياة إدراكها وان حوتها. وعندئذ يكون قد نضج بما يكفيه أن يكسر غلاف الرحم، ليخرج فارزا حبات الأثير بأنامله العذبة، فيهديها لإخوته احساسات ومشاعر وانفعالات، فيها من لظى ناره غضب على ما لا يتفق وروح الجمال. وفيها من موج نفسه الهادئة، التي تنحت الصخر معجزات رائعة، وتحتضن حبات الرمال بعطف وحنان، لتهديه من ندى روحها عبيرا فواحا بالصدق والوفاء.
هذا هو الأدب، وهذا هو وجهه.
ووجه الحركة الأدبية في بلادنا أوضح من وجوه الأدب في بلاد كثيرة. كيف لا؟! وهو حوار العقول، ومدار الألسن في العالم. ولم يكن كذلك إلا لأنه ارتبط بمفهوم عميق نحو الحياة وجوهرها. فسكب فكره في بوتقة الأمل والعمل، للوصول إلى المعنى الأكبر في حق ابن الحياة أن ينهل من عطاء أمه وثروتها، ما ينهل أبناؤها في أنحاء العالم. انه أدب الكفاح، أدب الجهاد، أدب النضال من اجل الحياة وحنان الأم، وليس من اجل شرب مياه البحار والمحيطات جرعة واحدة من أنبوب قطارة الأنانية والذاتية.
هو أدب يتقلقل فيه الحب والغضب، تقلقل الروح في الجسد حين خروجها من أوردته وعروقه. هو تقلقل التمسك بجمال الحياة وغضب على امتهان الحياة. أدب الإنسان وكفاحه من اجل إثبات إنسانيته الإنسان. أدب وحدة التراب المتحرك في صحارى الصدور القاحلة، والذي يقع فيه من لا يراه وقعة النمر في حفرة الصياد.
وأدب من هذا النوع، لا بد وان يكون ساميا رغم ما ينبض بقلبه من الم. مترفعا فوق كل بيادر الحزن لأنه مسيرة الصبر التي تسعى لرد الفرحة إلى صدر الأم وإحياء المبتور من أعضائها بعد أن تعفن في صدور لقطاءها تعفن الطحالب في أنابيب مختبرات الموت والفناء.
فهل يمثل أدبنا هذه الرسالة الصعبة؟!
إن الإجابة على هذا السؤال مسؤولية عظيمة. لأنها إن سرت القليل، فهي دون شك ستغضب الكثير. لان الأمانة النقدية لمثل هذا البحث تعتبر عند الكثيرين مسا لقدسية محرم على الأقلام مسها، حتى ولو كان النقد صائبا سليما، بعيدا عن الهوى والتعصب. ومرد هذا لكون قرائنا بعيدين عن النظرة التأملية لطبيعة الأدب المطروح على الساحة، وانما هم مندفعون بحماسهم نحو كل ما يتصوروه يخدم أهدافهم من اجل الحياة. وهم في ذلك لا يملكون العذر أبدا لان واجبهم الأول النظر في خفايا ذاتهم وتطهيرها مما يشوب نقاءها وصفاءها. لان البداية بالنفس تنم عن وعي هائل وإدراك جبار لمعنى الحياة وسرها. ومثل هذا الأمر مثل قولك لمن هو جريح بجرح بليغ، دعك من جرحك، وداو جرح صديقك العميق حتى الروح. فان ترك جرحه ينزف قليلا، وأوقف نزيف الجرح في أخيه، فانه الإنسان المسئول العارف لذاته حق المعرفة، والمدرك قيمة الحياة بصورة من أرقى صورها. أما إذا حدث العكس، فان هناك صدعا ليس في الحياة، وانما الصدع في معنى الحياة الساكنة في روح وعقل من يؤمنون بصورة الحياة الهزيلة الزاحفة على أربع.
من اجل هذا كان لا بد أن يكون هذا المقال.
تمتاز الحركة الأدبية في فلسطين، بأنها أتت في مرحلة هامة وحاسمة من مراحل الأحداث العالمية. فها هو النصف الأول من القرن التاسع العشرين يودع الدولة العثمانية وداع الغريب للغريب، وها هي حركات الاستعمار تزحف على الوطن الإسلامي زحفا حثيثا لتضعه في قبضتها. وها هو الاستعمار يخرج بجنوده تاركا خلفه أفكاره ومبادئه. هادما أفكار المسلمين العرب ومرتكزات كينونتهم. وها هم العرب يصرخون ويولولون، يشنون هجوم الضعيف فينسحقوا، ويطرقون أبواب الظالمين متوسلين الرحمة والرأفة، وان لم يكن رحمة كاملة ورأفة وافية، فبعض من هذه أو تلك.
وكان الأدب وسط تلك الظروف هش البنية، ضعيف القدمين، يحار حينا ويصرخ حينا آخر بجنون الاستماتة والانتحار، ويتقلب مع الأحداث تقلب الأحداث ذاتها. فلا الأحداث مستقرة، ولا الأدب قادر أن يأخذ لنفسه خطا واضح المعالم يسير عليه حتى يستطيع توحيد الآراء والمعتقدات. فضاع العقل بين هذه الفكرة وتلك، وأصبحت النفوس حائرة لا تعرف بداية من نهاية.
ثم جاءت صحوة بسيطة حاولت أن توحد العقول العربية على خط مستقيم، يكون قاعدة للفكر العربي، ولكن دون جدوى. وكانت هذه الصحوة في محاولة الوحدة العربية. ولما فشلت الصحوة في الوحدة كان الانقسام الفكري قد اخذ مداه. فكونت كل دولة مقاييسا فكرية خاصة، تنادي دائما بتفوق آدابها على آداب العرب إخوانها، فركزت بذلك دعائم الانفصال الفكري بين الشعوب العربية، واحلب محل الوحدة نداء التعصب الإقليمي حتى في مجال الفكر.
ومن بين هذه الأجواء المشحونة، والتناقضات الكثيفة، كانت الحركة الأدبية الفلسطينية تشق طريقها ببطء شديد، ولكن بخطى ثابتة. لكنها لم تكن حركة أحداث بجوهرها ونواتها، بل كانت حركة أدبية منبثقة من مبدأ متين، راسخ الأصول في نفسية الشعب، إلا وهو مبدأ الإسلام، فخرجت في تلك الآونة حركة أدبية مبدئية ثابتة الأقدام بتراث الشعب ومنهجه العريقين. فحققت نجاحا لم يكتب له الاستمرار.
وما ذلك ألا بسبب كون المشكلة الفلسطينية أخذت تتقاذفها الأحداث تقاذف الكرة في ساحة اللعب. فعاد الأدب يلتصق بالكرة المقذوفة شرقا وغربا، حتى أصبح هو الاخر غير مستقر وغير ثابت، ومن نتيجة ذلك، أن أصبح الأدب يحمل أكثر من فكرة، وأكثر من منهج. الأمر الذي أدى به إلى التفرع نحو أكثر من مبدأ، وأكثر من عقيدة.
ونحن هنا غير معنيين بإبراز فضل القديم على الحديث. ولا ببحث القديم بأي شكل من الأشكال، لان دراسة مثل هذه، تحتاج إلى أسلوب التاريخ للمراحل التي مر بها الأدب عبر هذه السنوات التي لا تتجاوز السبعين عاما، وهو زمن قصير إذا ما قيس بكثرة المراحل التي مر بها أدبنا.
وانما نحن معنيون بتوضيح الظروف القائمة حاليا في أدبنا والتي تشبه إلى حد ما، مراحل الأدب القديمة، وحين أقول الظروف الحالية، فأنني اقصد فقط فترة لا تزيد عن السنوات الثلاثين الأخيرة إلا بشهور فقط. ولا اعني أيضا أنني سأكتب تاريخا لهذه الفترة، لا، إنما هي محاولة لتوضيح صورة الأدب الهزيلة التي تسيطر على الساحة، وأسباب هذا الهزال الذي حاق بالأدب.
إن الانقسام الذي أصاب الفكر الفلسطيني في مرحلة نضاله، أدى إلى إيجاد أيديولوجيات وبنى متنوعة لطبيعة حركة النضال. وهذا بدوره، انعكس انعكاسا واضحا على العقل العام، والأدب العام، فكان التجزؤ العقلي والأدبي، لذا كانت البلبلة النفسية والفكرية ناتجة عن اختلاف الأساليب الخاصة بالتفكير.
ووسط هذه البلبلة، كان التوزيع الفكري لدى كل جماعة تنتهج مبدأ خاصا بها يأخذ دورا عميقا في إرساء التحالف والتباين ليس من حيث الشكل فقط، وانما من حيث الجذور، بين فئات الشعب العادي، وبين الأدباء والمفكرين، وبهذا ثبت الخلاف بالشعب بدلا من الوحدة، وأصبح الأدب عاملا من عوامل نحت معابد الاختلاف، بدلا من دوره الطبيعي المرشح له بحكم حتمية الظروف.
وقد يخطر لقائل أن يقول:- إن الخلاف ظاهرة صحية في الشعب، خاصة إذا كان الهدف واحد لدى كل المختلفين. وهذا الكلام صحيح، إذا كان الخلاف القائم، خلاف الأسلوب في العمل، وإذا كانت القاعدة المبدئية واحدة. أما إذا كان الخلاف خلاف مبادىء، فلا سبيل إلى الالتقاء إطلاقا على أي أساس أو أسلوب في وحدة الهدف وطبيعته، وهذا هو المرض الفتاك القاتل الموصل حتما إلى الفشل الذريع في جميع الأحوال. وليس أدل على هذا الأمر سوى فشل الأدب الفلسطيني في جميع مجالاته وعلى جميع أصعدته. واقصد الأدب القادر على خلق نوع من الأرضية الفكرية التي تأخذ بيد الشعب نحو مسار عاطفي وفكري يلتقي مع حجم المرحلة وما يتخللها من اعدادات لإعادة العقل من مرحلة الثبات على الثوابت والحقوق إلى مرحلة القبول بأي حل قادم على حساب تلك الثوابت وعلى حساب الزخم التاريخي الذي يقف غلى جانبنا بكل ما فيه من حق ومن قوة الحق والتاريخ. واستطعنا وبتبرير بسيط أن نحول مصطلحات لا تحتمل في اللغة إلا معنى واحدا، استطعنا بعبقرية الانتقال من صف الالتصاق بتلك المعاني، إلى ابتكار معان جديدة تقود إلى إيجاد تبرير لغوي ونفسي للانتقال من الصعود إلى الهبوط حسب تقنيات المصطلحات الجديدة.
وان كان هناك شك في هذه الحقيقة فلينظر من شاء إلى جامعاتنا أولا. تلك المنابر العلمية الراقية التي يجب عليها أن تلغي جميع الخلافات من اجل الحصول على العلم، ذلك السلاح الخاص الذي يقود إلى لحظات الاستنارة الكلية والوضوح اليقيني لمفهوم الفكر الموحد. واني لأخجل من تسجيل الأحداث بتواريخها، تلك الأحداث التي حصلت في جميع جامعات " الوطن المحتل ". الأحداث التي كانت صورة مصغرة عن حرب شرسة تتلاقى فيها سيوف الأفكار لقاء التناحر، وتهوي فؤوس الخلافات على أدمغة الفكر المشتت لتحصد وحدة الروح ووحدة الهدف. تلك الأحداث التي استعملت فبها المدى والعصي والجنازير والسواطير والشرخات. تلك الأحداث التي فتحت بسببها أبواب المشافي لتستقبل الجرحى والمصابين في غرف الطوارىء، تلك الأحداث التي سال فيها الدم الفلسطيني على تراب الوطن ذاته، ولكن ليس فداءا له، بل انتقاما منه ومن ذراته التي كونت اللحم الفلسطيني ليكون مخلصا لتك الذرات إخلاص الجذر للأعماق.
ثم نأتي إلى الانتخابات الخاصة بمجلس الطلبة، فان تلك الانتخابات تشكل ساحة نضال فكري بين الجماعات الطلابية التي لا يتعدى تعدادها في الكثير أربعة آلاف طالب، وقد نكون مبالغين في هذا العدد. ففي هذه الفترة يبرز الخلاف بأسلوب حاقد رهيب، ناهيك عن التزوير والاتحادات التي تتم بين الكتل من اجل إسقاط كتلة معينة عند الضرورة، وإنني إذ أقرر هذا الكلام، فأنني أقرره عن تجربة عشتها في الجامعة التي كنت ادرس فيها. وعندها فقط آمنت بضرورة إصلاح هذه المؤسسات التعليمية قبل محاولة التشدق من اجل الأرض.
وقد اخترت الجامعات للمثال لأنها أوثق صلة بالفكر والأدب السائدين في الأرض المحتلة، ولان شباب الجامعات هم الطبقة المحسوبة مثقفة على المجتمع. وهي الفئة التي يمكن قياس حالة الأدب عليها. فإذا كانت الجامعات وشبابها هكذا فماذا تظن تكون صورة الأدب؟!
لأدبنا صور كثيرة، غير واضحة المعالم، لأنها مغلفة بغلاف التناقض والتباعد، مع أن الظروف التي نعيشها ذات طبيعة متميزة بوضوحها وثباتها كوضوح الشمس وثبات الوجود. إلا أن المشكلة تكمن دائما في العقل لأنه الذي يستطيع أن يأخذ شكل الوحدة أو التباعد، الثبات أو التحول. من اجل ذلك حرص الاستعمار دائما على تفتتيت الوحدة الفكرية يفوق حرصه على إضعاف الوحدة الجغرافية.
وصورة الأدب في أي شعب من الشعوب تنعكس بوضوح تام من خلال صحفه ومجلاته وكتبه وجامعاته، فان كانت هذه المقومات سليمة، كان الأدب سليما، وان كانت مزيفة هزيلة، كان الأدب مزيفا وهزيلا.
ونحن- والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه- لنا قصب السبق في الأمراض الأدبية الدابة في جسد صحفنا ومجلاتنا، كيف لا، ونحن السباقون دائما بالتفاخر والتشدق خلف قادة العرب، فان قالوا نحن للحرب، قلنا خلفهم، نحن للحرب. وان قالوا نحن للسلم، قلنا خلفهم، نحن للسلم، وان توسطوا توسطنا، وان تطرفوا تطرفنا. وان قبلوا أحذية الغرب قبلنا، وان ذهبوا للشرق يستعطفون، استعطفنا، وذلك لأننا شعب يملك من المبررات لكل حدث ما يناسبه، بل ويفوقه أيضا، فنحن من يسمي الهزيمة نصرا، والنكبة بنكسة، ولا نوافق على التفريط بحبة من تراب، ثم نطلب تسوية عادلة، لنا الربع، ولليهود ما تبقى. أوليس نحن أصحاب نخوة الكرم العربي الذي يقدم الأولاد وليمة سهلة إكراما للضيف والمستجير، أوليس نحن أصحاب العدالة ومقولة أن الظلم حرام، فماذا لو أعطينا اليهود جزء من أرضنا إكراما وحبا.
كل هذه الأمور افرازات أدبنا العالي الهمة، وكيف لا يكون ذا همة عالية ما دام يباع ويشرى في سوق النخاسة؟! فجرائدنا عديدة، وكل جريدة تتبع نظاما معينا، تتحدث باسمه ولا تحيد عن دربه، وهي معه على العهد والأمانة طالما هو معها على العهد والأمانة، هي بوق له ما دام يغذيها بنقوده. والطامة الكبرى حين تبدأ النزاعات بين الأنظمة من اجل احتواء جريدة معينة، فالجريدة في هذه الحالة تأخذ موقف الاعتدال بين الجميع، وتصبح سياستها الوحيدة انتظار نتائج المزاد بين المزايدين، وطبعا تستقر دوما على أعلى الأسعار، كأنها ليست رخيصة إلى الحد الذي يتصوره البعض. فتراها بين عشية وضحاها قد شنت حربا شعواء ضد من كانت تروج له بالأمس وتقول كما تقول الببغاء، دون أن تحفظ ود الأمس، وعهد أول أمس.
وليست مجلاتنا بأنزه من جرائدنا، فهي أيضا لها باع طويل في سوق النخاسة، وباعها أطول قليلا من باع الجرائد، لان مستوى كتابها وقرائها أعلى قليلا أو كثيرا من باع كتاب وقراء الجرائد، لذلك فان طبيعة المزاد تكون دائما محاطة بالغموض، لأنها أسرار لا يحق للعامة معرفتها حرصا على سلامة عقله من الضياع في دوامة المادة التي لا قيمة لها على الإطلاق.
وليس سوق النخاسة الخاص بالأدب هو كل ما في الأمر، لا، فهناك أيضا المحسوبيات الحزبية والشلليان الوطنية التي تشكل الطابع العام لوجه حركتنا الأدبية الرائدة، فالكاتب الذي لا يحمل الفكر التابع للمجلة الأدبية، لا يحق له أن يبعث لها مقالا لتنشره، لأنها إن تسامحت معه ستقول " مع الأسف الشديد مقالك غير صالح للنشر، ننتظر منك إنتاج جديد و.... معا على الدرب ". أما لو بعث لها احد المؤمنين بفكرها لها مقالة لا وزن لها ولا قيمة، فهي لا تكتفي بنشر مقالته بصفحتها الأولى، بل تدفع نقادها لإظهار مدى التفوق والإبداع في مقالة الكاتب الكبير، فتعج الصفحات بسيرته أياما أو أسابيع، والحقيقة أن مقالته لا تستحق النشر إطلاقا.
وقد ظهر في الأسماء الأدبية من جراء مثل هذه الأمور شعراء وقاصون وروائيون ونقاد، احتلوا مكان الصدارة في هذه الفترة، وأصبحوا هم سادة الأدب وصناعه. فكان لهم ما لم يحلموا به أبدا، فتعالوا فوق عقولهم، وصعدوا فوق قدراتهم، وأصبحوا في قوالب فضفاضة إلى حد لا يصدق مع حجمهم، وانزوى أدباء الكلمة الحق في سراديب النسيان، وضاعوا في متاهات الصحراء القاحلة، وأدركوا أن الأمر لا يمكن أن يتم لهم إلا إذا باعوا ضمائرهم رخيصة للتفرق الفكري بين دياجير الأحزاب. فوقفوا حائرين فترة، وباع بعضهم نفسه ثارا من الظروف، وصحا الباقون وفضلوا الصمت على الكلام، والعمل البعيد عن الأدب على الاشتغال بالأدب، لن الحركة الأدبية التي ترفع المتشاعر وترفض الشاعر ليست خليقة لان يكونوا من رجالاتها وفرسانها.
وبهذا اختلت المعايير، وعمت الفوضى، وانتشر نباح الدعيين، فأصبحت حركتنا الأدبية تعيش حالة انقلاب في الموازين، لذا أصبحت فجة هزيلة تحبو خلف ركب الأدب الملتزم، ولكن جدوى، لان بينها وبينه أميالا هائلة.
ووسط هذه التفرقات والمهاترات ضاع الهدف الذي كان الأدب قد نذر نفسه له، وأصبحت القضية الأولى هي قضية التبعية لمن يدفع أكثر، وأصبح الصراع حول هدف جديد، أي المجلات تبيع نسخا أكثر. أما قضية الواجب الذي كان من المفروض أن تحمله وسائل دعاياتنا فقد أصبح يعيش حالة عفن شديد وسط عقول المصلحة الشخصية والمكسب المادي الخاص. لان الواجب الأول، واجب المجلة أو الجريدة نحو نفسها، وأي واجب آخر يكون ثانويا يمكن النظر فيه إن بقي لدى أصحاب تلك الجريدة أو المجلة وقت كاف، ولكن مع الأسف الشديد فليس هناك وقت للتفكير، لأنهم عبيد شهرة وعبيد مادة.
وقد انتقلت عدوى الفرقة من المجلات إلى قرائها. فان احد الناس لو ذهب لزيارة معرض كتاب في إحدى جامعات الوطن المحتل فانه سيجد خمسين صنفا من الكتب، كل صنف يتبع لجهة معينة وتؤيده فئة معينة من الطلبة، وإذا ما أغرت الزائر نفسه شراء خمسين كتابا وقرأها، فانه لن يجد أدنى توافق بين أي كتاب وآخر. فكيف سيطلب من طلبة الجامعة آنذاك أن يكونوا وحدة واحدة أمام أي خطر مهما صغر أو كبر؟ وكيف يؤمل من طلاب الجامعات أن يكونوا صفا واحدا في تربية الأجيال القادمة؟ وكيف سيطلب منهم أن يحملوا أمانة العلم بعد تخرجهم؟ إنها مطالب عسيرة أمام وضع جد عسير.
إن حركتنا الأدبية تقف على حافة منحدر خطير، ولها أن تختار بين السقوط النهائي والتردي الأخير، وبين أن تستعيد مجدها وعزها من جديد. وهي في الحالة الأولى ستشكل صورة خزي عميق حتى أعماق الروح أمام محكمة التاريخ في الزمن المقبل. وفي الحالة الثانية فأنها ستضع نقاطا من نور فوق جبين التاريخ. والقضية هنا لا تحتمل حلا وسطا، كما أنها لا تحتمل تلاعبا في الأفكار والألفاظ، فإما خزي الأدب العام أمام محكمة التاريخ، وإما إضاءة جبين التاريخ بنقاط أدبية لها قيمتها ووحدتها ودلالتها الشريفة.
مأمون احمد مصطفى
فلسطين – مخيم طول كرم - 1976
