محمد عابد الجابري - ابن رشد... ومفهوم "التقدم"

عرضنا في المقال السابق لحضور ابن رشد في الفلسفة الألمانية، وبالخصوص في مناقشات الفيلسوفين الكبيرين كانط وهردر في موضوع إنشاء فلسفة للتاريخ ترصد حركته واتجاهه منذ وجود الإنسان حتى عصرهما - القرن الثامن عشر. وقد اعترضتهما صعوبة تصور الإنسانية منذ وجود الإنسان ورسم خط لسيرها خصوصًا والوضع الإنساني مختلف: حضارات متقدمة تعقبها أو تعاصرها أخرى أقل تقدمًا أو متأخرة عنها، وكانت فكرة التقدم هي التي تحرك تفكيرهما في هذا الصدد، وهي فكرة شغلت فكرة كانط بالخصوص لأنه كان يرى التقدم يمشي على رجليه في كل من فرنسا وإنجلترا بينما هو متعثر في ألمانيا القرن الثامن عشر.
هنا لجأ كانط إلى ابن رشد وفكرته عن خلود "العقل الهيولاني" أي استعداد الإنسان أي إنسان لتقبل "المعقولات" أي المفاهيم "الخالدة" التي لا تتغير بتغير الزمان والحضارات والأفراد ولا تتوقف على الإحساسات التي هي من جسم الإنسان الفرد (كالرؤية والسمع والشم واللمس وما تنقله إلى الذهن من انطباعات حسية) ليس هي التي يقوم عليها العقل الهيولاني لأنه سابق عليها ولأنها تنقطع بوفاة الإنسان بينما المفاهيم المجردة عن الحس أي المعقولات تبقى خالدة تنتقل من فرد لآخر ومن جيل لآخر ومن حضارة لأخرى. وانطلاقًا من فكرة ابن رشد هذه قال كانط إننا يمكن أن ننظر إلى التقدم البشري على أنه يتم ببطء، ولكن ليس عبر الأفراد بل عبر النوع الإنساني ككل، وأن أعلى مرحلة وصلها إلى حد الآن هي تلك التي تجسمها الحضارة الغربية.
والسؤال الآن: كيف توصل ابن رشد إلى هذه الفكرة التي أراد كانط أن يبني عليها فلسفته للتاريخ؟ وبمعنى آخر كيف برهن ابن رشد، وهو الفقيه المسلم على خلود العقل "الهيولاني" وبالتالي خلود المعقولات أي المفاهيم المجردة مثل مفهوم العدل، ومفهوم الخير ومفهوم الحرية والمفاهيم المجردة الأخرى التي تقوم عليها الفلسفة والعلم؟
للجواب عن هذا التساؤل يقرر ابن رشد أن العقل الذي يسمى بهذا الاسم (العقل الهيولاني) هو بمثابة "المكان" للمعقولات النظرية، أي المفاهيم المجردة. وبما أن المكان والمتمكن فيه يشكلان كلاً واحدًا، فليس العقل الهيولاني هو وحده أزلي، بل المعقولات النظرية أيضًا أي التصورات الفلسفية. والقول بأزلية -أي خلود- العقل الهيولاني وبخلود الفلسفة يستلزم خلود "الإنسان"، لا كأفراد، بل كنوع.
كيف يمكن تصور ذلك؟
كان ابن رشد قد أدلى قبل خوضه في مسألة "العقل" برأي طريف في مسألة "الوجود" التي كان النزاع فيها بين الفلاسفة والمتكلمين الإسلاميين يدور أساسًا حول ما إذا كان العالم قديمًا أزليًا، وهذا رأي الفلاسفة، أم أنه حادث مخلوق من عدم كما يقول المتكلمون؟ وفي رأي ابن رشد أن العالم ككل لا يمكن أن يقال فيه إنه حادث، لأن كل ما نعرفه ونشاهده هو أن العالم مسرح للكون والفساد: أشياء تتكون وأخرى تفسد. ونحن لا نستطيع أن نحكم بذلك على عالم السماء لأنه ليس موضوع مشاهدتنا، وبالتالي فإن أليق شيء بالعالم ككل، كما نشاهده، أن يقال عنه -يقول ابن رشد- ليس أنه قديم ولا أنه حادث، بل "دائم الحدوث" أو أنه في "حدوث دائم".
وقد طبق ابن رشد مفهوم "الحدوث الدائم" على مسألة العقل التي أثرناها أعلاه فقال: إنه إذا كان القول بأزلية العقل الهيولاني وأزلية المعقولات (المفاهيم الفلسفية) يؤديان إلى القول بخلود النوع الإنساني، فإنه لا شيء يمنع من قبول ذلك، خصوصًا إذا فهمنا الخلود على أنه الحدوث الدائم. وهكذا يمكن أن نفترض أن "المعمورة" لا تخلو من إنسان يكون عن إنسان عن إنسان... الخ، كما يكون الحصان عن حصان... الخ. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فلما كان الوجود البشري يقتضي قيام صناعات طبيعية بها يستقيم وجوده، فمن الممكن أن نتصور وجود صناعة الفلسفة ملازمة لوجود الإنسان. أوَ ليست الفلسفة نظرًا عقليًا، والعقل هو ما يميز الإنسان؟ أليست الفلسفة هي البحث عن الحقيقة، وهذا نزوع ملازم للإنسان؟ ويذهب ابن رشد إلى أبعد من ذلك فيقرر أن التقدم في الفلسفة، أي في فهم العالم، ممكن من حيث أن الناس يمكن أن يتعاونوا على ذلك، وأيضًا من حيث إن الخلف يستفيد مما يتركه السلف، وبعبارته هو: إن "دور السلف هو أن يكون معينًا للخلف" في التقدم على صعيد المعرفة.
واضح مما تقدم أن كلاً من هردر وكانط كانا يحيلان في سجالهما الذي عرضنا له في المقال السابق إلى نظرية ابن رشد في خلود النوع الإنساني التي شرحناها أعلاه. لقد اتفقا على أن يكون موضوع فلسفة التاريخ هو التاريخ البشري الحي الذي يصنعه الأفراد، وأن "التاريخ العام" أو الكوني الذي يتحدثان عنه يجب ألا يفهم منه "النوع" الذي هو مقولة فلسفية، مجردة، لا وجود لها في الواقع، بل المقصود هو الإنسانية في تاريخها المشخص عبر القرون والأجيال. والغالب على الظن أنهما لم يطلعا، أو على الأقل لم يستحضرا نظرية ابن رشد التي يقرر فيها إمكانية قيام المدينة الفاضلة في عالم الإنسان المشخص، عالم التاريخ: تاريخ الأجيال. ذلك أن فيلسوف قرطبة لم يوافق أفلاطون في قوله إن قيام المدينة الفاضلة غير ممكن ما دام رؤساؤها يجب أن يكونوا فلاسفة، والحال أن الفلاسفة قليلون، وإذا وجدوا فالناس لا يسلمون لهم زمام أمورهم. لقد عقب ابن رشد على هذه النتيجة اليائسة، في كتابه الضروري في السياسة: تلخيص كتاب السياسة لأفلاطون المعروف بـالجمهورية، فقال معترضًا على أفلاطون:
يمكن أن نربي أناسًا بهذه الصفات الطبيعية التي وصفناهم بها (والتي تجعل منهم فلاسفة)، كما يمكن أن ينشؤوا وقد اختاروا الناموس العام المشترك (القانون، الدستور) الذي لا مناص منه لأمة من هذه الأمم من اختياره، وتكون مع ذلك شريعتهم الخاصة بهم غير مخالفة للشرائع الإنسانية، وتكون الفلسفة قد بلغت على عهدهم غايتها. فإذا ما اتفق لمثل هؤلاء أن يكونوا أصحاب حكومة (حكم)، وذلك في زمن لا ينقطع، صار ممكنًا أن توجد هذه المدينة الفاضلة.
وبعبارة كانط: أن يواصل التاريخ طريقه نحو التقدم.
أعتقد أنه لو اطلع هردر وكانط على هذا النص لما ألحَّا ذلك الإلحاح على أنه
ينبغي أن لا تبقى فلسفتنا للتاريخ سائرة على طريق الفلسفة الرشدية.
فطريق الرشدية في "المدينة الفاضلة" طريق تاريخي يقوم على الإيمان بالتقدم التدريجي الذي قال به كانط، كما يتفق مع هردر في أن ما يجب تربيته ليس النوع البشري بل الإنسان الفرد: أعني أناسًا مشخصين، كما هو الحال "في زماننا هذا وفي ملتنا هذه"، كما يقول ابن رشد. ويمكن أن يذهب المجادل إلى أبعد من ذلك فيرى أن فكرة التاريخ العام عند كانط تنتمي هي الأخرى إلى فضاء "المدينة الفاضلة" الرشدية وليس إلى النظرة التاريخية: فـ"التقدم" الذي جعل منه كانط القانون العام الذي يحكم حركة التاريخ، يجب أن يؤدي في نظره إلى قيام دولة عالمية واحدة، أو جمعية دول يتحقق بها السلام على الأرض. وذلك هو معنى المدينة الفاضلة، فهي بالتعريف مدينة العدل والسلام منذ أفلاطون.
يمكن أن نتفهم فكرة "التقدم التدريجي" الذي يتم على صعيد النوع والذي أراد كانط بناء فلسفة التاريخ عليه من واقع أن ألمانيا كانت آنذاك في مؤخر القافلة بالقياس إلى إنجلترا وفرنسا وأن فلاسفتها كانوا أكثر وعيًا بحقيقة التغيير الذي كان يحصل لدى جيرانهم فرأوا فيه "التقدم" بعينه، فعاشوا على صعيد الحلم ما كانت تعيشه إنجلترا وفرنسا على صعيد الواقع، حسب تعبير ماركس. لقد عاشوا "التقدم" على صعيد الوعي الحالم. ولما لم يتبينوه في حاضر بلدهم بحثوا عنه في تاريخ أوروبا ككل، لا بل في التاريخ العام كله الذي أصبح منذئذ خاضعًا للمركزية الأوروبية. وستلحق ألمانيا بالركب وستحقق وحدتها وتشق طريقها على سلم التقدم لتنافس بل لتتجاوز غريمتيها فرنسا وإنجلترا... وستصبح تجربتها ملهمة لجانب مهم من الإيديولوجيا العربية في القرن العشرين!



محمد عابد الجابري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى