"إله المتاهة، رواية تناقض السائد المتوارث، وتدفع بالتأثير التغريبي نحو سياقات وفضاءات روائية واسعة، خاصة وأنها اتخذت من أدب الجنس منطلقا حقيقيا، للانطلاق بهذه الرؤى التغريبية نحو تلك الفضاءات الرحبة الواسعة.
ومن هنا لا يمكن اعتبار هذه الرواية من روايات الأدب الداعر التي تسعى لتدمير التأثير التغريبي، وقد جاءت على شكل مذكرات اعترافيه، تتخذ من الجنس منطلقا لأفكارها ورؤاها من دون أن يكون الركيزة الأساسية لبناءها الروائي، وبذلك فقد شكلت بحق تحدي ممتع وكبير، لان رواية الأدب الداعر أكثر صراحة من الناحية الشكلية من أي نوع روائي آخر، إن الرواية تتمتع بشيء من الصراحة الرمزية التي تصف بها الباليه من دون أن تنتهك حرمة هذا الفن الراقي والرائع ".
هذا ما كتبه الناشر على الغلاف الأخير للرواية، ولا اعلم حقيقة كيف استطاع أن يصل إلى هذا التحليل المفترض، عن فكرة الرواية وأسلوبها، ولا اعلم يقينا، كيف وصل إلى إثبات حقيقة أنها ليس من الأدب الداعر.
وهو أول مأخذ يمكننا التحدث عنه بتشدد و تَأَرُّب وقَسَاوَة، لما فيه من فداحة الخطأ، أو التغرير بالقارئ لمقاصد قد تكون معلومة أو مجهولة، تؤدي الى انكار المعلوم والترويج الممنهج لباطل يراد تحويله الى حق ومنطق.
أن يكون الناشر الذي يضطلع بمهمة نقل الأدب والفكر إلى المجتمع والشباب، ليس على مستوى الدراية او المعرفة بما ينقل وينشر، إما لجهل يمسك به من تلابيبه، هو وكل الطاقم الثقافي الذي يعمل في دار النشر، وإما -وهو الأعظم خطرا- أن يكون مهتما بالتسويق والتجارة، أكثر من اهتمامه بما ينقل، وتأثير هذا النقل على المستوى الثقافي والاجتماعي والفكري.
فإن كان الناشر يعيش حالة من الجهالة تعكس حالة الضياع المطلق لمفهوم التركيبة البنيوية لدور الثقافة وتأثيرها على المفهوم العام لتنمية المجتمع وتربية الأفراد والجماعات، وتصويب السلوك للمجتمعات كونها صاحبة تاريخ وحضارة وتأثير في الحياة العامة والخاصة، وفي الانتشار بين الثقافات العالمية، كعامل قادر على التأثر والتأثير، وانتقاء كل ما يتوافق مع المجتمع الذي نحيا به ونعتز بما به من قوة وصلابة ومتانة، مما يبرز بشكل واضح وقاطع خصوصية الشخصية التي نتمتع ونفاخر بها، وهي الشخصية التي منحتنا عبر عصور متواصلة تميزا وبراعة وتضلعا. فهذا أمر يمكن وصفة بقيادة الأعمى لجموع المبصرين.
وإن كان الناشر يعمل بحساب الخسارة والربح، فإنه ودون أي تردد، بمثابة مندوب وفي، شديد الوفاء لمساندة الثقافات التي من ِشأنها محو شخصيتنا وغمسها مع سبق إصرار وترصد، ومن أجل تحقيق ربح مالي، بصبغة الفكر والثقافة التي حاولت وما زالت تحاول، طمس شخصيتنا وتذويبها في شخصية لا يمكن لنا التوافق معها الا بقليل من التفاصيل. وهذا الأمر يدل على ان رعاة الفكر والوعي سلعة تباع وتشرى، وفي الحالتين، فالويل منهما أقرب الى حبل الوريد.
على كل ناشر او صاحب فكر وثقافة أن يدرك يقينا، باننا أمة حية، نابضة، متوقدة، مهما أحاط بها من ظروف تكاد من شدتها أن تجعل الكثير يصل الى المدارك السفلى من اليأس والهبوط والقنوط. والدليل على ذلك الجهود التي بذلت من المستعمرين بكل اطيافهم وأجناسهم، من أجل حجبنا عن ديننا وثقافتنا وأعرافنا وتقاليدنا، حتى أنهم أحيانا أحسوا بأنهم أنجزوا مهمتهم، وحتى ظن الملايين منا أننا أصبحنا أداة بأيديهم، لكن الصحوات المتفرقة، والرجال المخلصين، والشعوب التي تحمل بالإدراك واللإدراك، انتمائها لذاتها وماضيها وحاضرها ومستقبلها، استطاعت أن تجر المستعمر من أنفه لتريه ما نحن عليه وفاء لتاريخنا وديننا وثقافتنا.
لذلك نقول:-
الأدب الداعر ينقسم بين رؤيتين عند المثقفين في الوطن الإسلامي والعربي، هناك فريق يرى بأن العمل الأدبي أو الرواية، إذا كانت تغص وتفيض بالمشاهد الجنسية التي من شأنها استنهاض الشهوة، عبر تصوير دقيق وملتهب وبشكل تفصيلي، مما يصل بالقارئ الى حد الشهوة المتأججة والشبق المستبد، تكون حينها رواية قد لا يصلوا الى وصفها بالأدب الجنسي، لكنهم يرفضون كلمة الداعر.
وهناك من يعتقد، بان استخدام المشاهد الجنسية بتفصيل معقول، ضمن مساحة الفكرة التي تتضمنها الرواية، ينأى بها عن أن تصنف بأنها رواية تعتمد الجنس كفكرة وأسلوب من اجل استفزاز غريزة القارئ، وهذا رأي يتناوله أكثر النقاد، ومعظم كتاب الأدب، على المستوى العربي، وعلى المستوى العالمي.
على المستوى العالمي، يمكننا فقط العودة للاستفادة من التاريخ الماضي للرواية العالمية، والتي كانت تهتم بتفاصيل الإنسان، من الناحيتين، النفسية، وما يعتورها من اختلاطات وتناقضات ، ومن الناحية المستقبلية، التي تدفع العقل للعمل على الاتحاد مع عواطف القلب، وتقلبات النفس، وهواجس الشر الموزعة في الذات، وكان هم الرواية، أن تتجاوز المفهوم الإقليمي، إلى مفهوم عالمي، يتصف حقا بلفظ الإنسانية، الإنسانية التي كان الحلم المستقبلي للروائي يعذبه ويضنيه، من اجل صياغته برائعة، ينحني القارىء لها إجلالا وإكبارا، في أي مكان يتواجد فيه على سطح الكرة الأرضية.
على سبيل المثال، لو أخذنا رواية البؤساء، بصفحاتها الممتدة إلى ما يقارب ألفان وخمسمائة صفحة ، فان القارئ، يبدأ ومنذ الصفحات الأولى بالإحساس العميق للقيمة الإنسانية التي تتشكل داخل البناء الروائي الصاعد بوتيرة محسوبة ليرسم عمق المأساة الإنسانية التي يعيشها شخوص الرواية، دون الحاجة، للإسفاف أو النزول إلى المشاهد الجنسية التي من شانها استفزاز الغريزة، من اجل امتلاك القارئ، وحين ينتهي القارئ من الرواية، ستجده قد أضاف إلى إحساسه الإنساني بعدا جديدا، تأصل فيه وتجذر ليصبح مكونا أساسيا من مكونات شخصيته، مما يؤدي بالضرورة إلى صقل نفسيته وعواطفه بأداة الإنسانية التي رافقت الصفحات والأحداث والشخوص.
ولو عدنا إلى رواية " كوخ العم توم " لوجدنا التوتر المتواصل، المصحوب بالغضب والنقمة، وأحيانا بالحقد العارم، على ما حل بالزنوج من ظلم واضطهاد، ويقينا بكينا من حرقة الألم، ومن الدهشة التي تصل بما يسمى الإنسان، إلى مراحل الانحدار والتردي، حتى يتحول إلى " شيء " خارج عن نطاق التصور، بما يملك من " أشياء " تعمي بصره عن رؤية تفاصيل الإنسانية التي تتغذى بالعذاب والهول، لما يمارس ضدها من سلوكيات، لا يمكن ان تدرج، بوصف تعرفه الإنسانية، أو حتى سبقت وعرفته، وما يثبت صحة ما ندعي، أن هذه الرواية، وإذا كنا لا نستطيع أن نغامر بالقول الصريح، بأنها بما ملكت من إيمان بقيمة الإنسان، كانت هي الفتيل الحقيقي الذي أشعل الحرب في الجنوب الأمريكي، فإنها على الأقل، كانت، والاهم أنها ستبقى، رواية يمكن للتاريخ البشري، الاحتفاظ بها كمعلم فاصل في العقل الإنساني، يستحق أن يخلد، وان يصنف، على انه أكثر أهمية وعمقا وتأثيرا، من اهرامات العبودية، وبرج ايفل وبيزا، وأكثر أهمية أيضا، من صعود الإنسان إلى القمر، لان الإنسان، الذي دافعت الرواية عنه، هو " الإنسان " في كل مكان، وفي كل عصر مضى وسيأتي.
وإذا ما استرسلنا في مثل ثالث، فإننا سنتجه نحو دوستويفسكي، صاحب الروايات التي عاشت الحالة الإنسانية بكل ما فيها من تناقض واختلاف وتنافر، بكل ما فيها من خير متأصل وشر متأصل، هذه الروايات التي استطاعت ان تضع العالم على ضرورة فهم النفس البشرية، والتعامل معها، بما تملك من تناقض وتضارب، وهي التي أسست، ودون أي مبالغة، لمفهوم علم النفس الروائي القادر على وصف الحالات البشرية بطريقة قادرة في النهاية على التأثير بقبول الانقلاب النفسي، من قطب الشر إلى قطب الخير، وإن لم يكن ذلك ممكنا، فإنها ساهمت بتعريف الإنسان، بما يملك من طاقات ، يمكن الاعتماد عليها في توجيه السلوك البشري نحو مستقبل قد يتشكل مع المستقبل.
رواية " رسائل من منزل الأموات "، كانت نقطة من النقاط ذات التأثير القوي بنفسية القيصر الروسي الذي دعا بعد قراءتها، إلى إصلاح السجون، وهي أيضا، كانت من الأساسات التي أطاحت بالحكم القيصري في روسيا.
وأنا أستطيع الآن، الاسترسال بأمثلة عالمية، كبيرة وكثيرة، تقود إلى مفهوم البناء الروائي من اجل الإنسان، دون الحاجة إلى استخدام الجنس كعامل أساسي، مقزز، ومقرف، فنجحوا وأبدعوا، وخلدوا كمنارات إنسانية، لا تقف ثقافة أو دين أو تقليد من قبولها وجعلها معلما إنسانيا، يخص البشرية كلها، بحاضرها ومستقبلها.
أما بالنسبة للرواية العربية ، فإنها تنقسم إلى قسمين ، قسم استطاع أن يستخدم الفن الروائي ، يتقنية عالية ، مستسقيا مادته من المجتمع الذي يعيش فيه ، فنجح إلى حد ما ، وقسم حار بين قدرته على الصياغة من الواقع الذي يعيش فيه ، وبين تأثره بمد الثقافة الغربية بكل ما تحمل من تناقضات بيئية ومعرفية ، سيق إليها المجتمع الغربي ، تحت تأثير السطوة الرأسمالية الديمقراطية التي استخدمت الإنسان كشيء لا قيمة له في أكثر المجالات الإنسانية التي تتعامل مع غرائزه، على أنها المكون الإنساني لكينونته ، وكان تأثر الرواية العربية، تأثر القزم الذليل، أمام مارد الغرب المالك لكل أسباب القوة والسطوة والاكتشاف ، في جميع مجالات المعرفة.
وهذا تحديدا، هو الفارق بين الأدب العربي، والأدب الغربي، فإذا ما قرأت للطاهر بن جلون، أو لحنا مينا، أو لاحسان عبد القدوس، أو غادة السمان، أو نوال السعداوي، فإنك ستجد بوصلة ترشدك إلى أن جهة الجنس في الرواية العربية، هي جهة منقولة بالتأثر، لمعطيات العصر الجديد، عصر الغرب بما يمثل من قوة عسكرية واقتصادية، وقوة فكرية، استطاعت أن تقنعنا بأننا دون أولئك الذين فتحوا الحرية، بكل مجالاتها على حقيقة أن لا حدود أخلاقية تقف أمام الفكرة وأمام الكاتب.
والمفارقة الواضحة ، أن الكتاب الغربين ، وخاصة المشاهير في القدرة على صياغة الرواية والعقل والعاطفة، نأوا بأنفسهم عن الحرية تلك، والتزموا بما يملكون من مبادىء وأفكار، بعكس العرب والمسلمين، الذين أصبحوا منغمسين بتلك الحرية لإشباع عقدة النقص التي يحملون، ولنيل رضا الغرب ووسائل إعلامه، بل وامتدت الصورة، لتصنع الأبطال القادرين على اختراق الاستعمار الصهيوني، من اصل الدعارة الصرفة، والانحلال من كل قيم الدين والأخلاق والإنسان، مثال ذلك الهجان، الذي غرق بالدعارة إلى حد يعلو قمة رأسه، وكانت صورة المسلم، او المجاهد العادي، تأتي بصور منافية للذوق البشري والإنساني، وترسخ من خلال مظهرها بدائية فكرة الأخلاق والدين.
ما سبق يحدونا إلى الاستنتاج، بان المفكر والمثقف العربي، عاش الإحساس بالدونية، بالتقزم - وهناك عوامل أخرى قد يأتي ذكرها في بحث خاص – وهذا ما دعاه إلى الاعتقاد، بان ما يصدر عن الغرب، هو بحد ذاته قيمه يمكن الاعتماد عليها والبناء على أسسها.
وهذا تحديدا ما حدا بالناشر إلى قول ما قال عن رواية " إله المتاهة " لكولن ولسن.
الرواية، وباعتراف كولن ولسون نفسه تعاملت مع المفهوم الجنسي على انه الركيزة التي تقوم عليها الرواية، في محاولة يائسة نابعة من الشخصية التي يحملها الغربي الغارقة بالتبعثر والتشتت والضياع، بين المادة التي استباحت وجوده وكينونته وانسانيته، وبين الفراغ المستبد الذي يقوده بالعودة الى الغرائز في محاولة للوصول الى ذاته التي تبددت وتلاشت فأصبحت وهما يقود الى وهم.
الرواية أسرفت وبشكل مدروس في وصف المشاهد الجنسية القادرة على استنهاض الغريزة بشكل كامل، بل وتعاملت مع المشاهد الجنسية، بتصوير سينمائي متكرر، وكان الوصف دقيقا إلى حد الخجل، وأحيانا إلى حد الشذوذ.
الرواية، لو كنت املك قدرة على نقل مشاهد اللحظة الجنسية، هي رواية داعرة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، ولا فرق بينها وبين روايات جيمس بوند، التي غلفت بغلاف العميل السري المعاصر.
وللقارئ الحق بالعودة إلى الرواية ومحاولة معرفة كم الوصف الجنسي الواضح، تحت هدف البحث عن أصول الدافع الجنسي وتأثيره بالإنسان وسلوكياته، بل وأنا ادعي، بان الرواية قد وصلت إلى مرحلة الشهوة الحيوانية التي تعيش لحظة المتعة، على أنها أسمى معاني الحياة وارفعها.
أنا لا اشكك بنوايا كولن ولسن، لأن له فكرا يلتصق بما يحصل بمجتمعه والمجتمع الغربي كله، فالشذوذ الجنسي المنتشر إلى حد كل بيت وأسرة، وكل مدرسة وجامعة، والانحلال المسيطر على مفهوم الكوابح الأخلاقية الإنسانية، يجعله يعتقد اعتقادات ناشئة من تأثره بما هو حوله.
أما نحن العرب، فإننا بسبب تقزمنا، نُشْدَه، وننبهر، مما يذهب إليه الغرب، فتأثرنا السابق، بفلسفة سارتر، هو تأثر القزم بالمارد، وإلا، فماذا تعني الوجودية للمواطن العربي والمفكر العربي، الذي لم يصب بصدمة الانتقال من المجتمع البسيط إلى مجتمع الآلة الضخم المكتسح الفرد والجماعة من طريقه، أنا افهم، وأستطيع أن أتصور تأثر الإنسان الغربي بفلسفة سارتر لعمق التغير الذي انفجر وغير المجتمع بأسره، لكني ارثي، حماقة المفكر والمثقف العربي، الذي حمل الفلسفة الوجودية، محمل الجد والتأثر.
وبنفس القدر، أرثي حماقة المفكر والمثقف العربي، الذي يستطيع أن يرى برواية " إله المتاهة " رواية إنسانية أو رواية يمكن الاستفادة مما ورد فيها من أفكار تنهض على تأليه اللحظة الجنسية المتصلة بذروة اللذة والشبق.
وعلينا كعرب، أن نتناول الأدب الغربي والفكر الغربي، بشخصية الندية، التي تستطيع أن تفصل القشور عن اللباب، بروية الواثق من تاريخه وقدرته واقتداره، لا بروية القزم المتلقي والمتأثر بخزعبلات تأتينا على أنها روافد للفكر المعاصر والحديث.
كولن روائي ناجح، لكنه باحث فاشل، برغم ما قيل عنه، وخاصة بعد كتابه اللامنتمي، الذي يعتبر بحثا عن وجودية جديدة، يمكن أن تنجح بالغرب، لأنها تتصل بواقعه، تتأثر وتؤثر فيه، لكن ما قلناه عن فلسفة سارتر، نعود لنقوله عن كولن نفسه.
فقراءة سريعة ، وأقول سريعة عن قصد وتبصر ، لمجموعة من كتب كولن ولسن ، مثل كتاب " موسوعة الألغاز المستعصية " و " الحاسة السادسة " و " والإنسان وقواه الخفية " و غيرها ، يقودك إلى استنتاج واضح ، بان كولن ولسون يطارد الهباء ، فماذا يعنيني من لعنة الفراعنة؟ غير حماقة من كتب عنها وسخف من امن بها! وماذا يعنيني من السحر الأسود؟ أو الاستنباء بالعصا؟ واختفاء أغاثا كريستي مدة أيام، ثم ظهورها بدون أن تقدم تفسيرا لفترة غيابها بأحد الفنادق؟! ولماذا علي أن أطارد وهما يسمى بالأطباق الطائرة؟ أو مثلث برمودا؟!
القضايا التي يطاردها كولن هي قضايا غريبة، لذلك يشعر الإنسان بالمتعة والاستهجان والغموض حين يقرأها، تماما كالخرافات المنتشرة بالوطن الإسلامي عن الجن وتحركه بجسد الإنسان وتدمير المجتمع بلحظة غضب، مثل هذه الأمور الغيبية، تستهوي النفس، لكنها في الحقيقة، ليست سوى خرافات، يأنسها الجاهل، واقصد الجاهل الذي تؤثر معرفته بطريقة تفكيره.
لكننا نقر له بقدرته الروائية في " طقوس في الظلام " و " القفص الزجاجي " و " الشك ". بصفة خاصة، وفي كل رواياته بصفة عامه، فهو روائي متمرس يملك كل أدوات الرواية التي تشد القارئ إليها بنهم المتابعة والمطاردة. مثله مثل الخطيب المفوه، الذي يفجر المشاعر، ويشنف الآذان، بما يملك قدرات، لكنه رغم علمه بوقوفه على منبر العدالة، لا ينتمي اليها قولا وفعلا. والفرق بين امتلاك القدرة على المخادعة، وامتلاك القدرة على الخلق والابداع، لا يكمن في الأسلوب فقط، بل في المضمون الذي يستجلب الأسلوب ويستدعيه، ليكون العمل بكله جسد متصل لا عيب فيه ولا إعياء.
وأنا أدعي بثقة مطلقة نابعة عن خبرة طويلة في القراءة والكتابة، بأن الكتابة المنحلة، عن الجنس والشذوذ والمتعة، هي أسهل الكتابات على الكاتب المبتدئ الذي لم يصل مرحلة الاحتراف، لأنها لا تنتمي للنفس والاحساس والشعور، بل تنغلق على الغريزة المشوهة التي تصل الى مرحلة القرف والتقزز.
وقد قلت لصديق لي ذات يوم: - بأنني لو قررت الكتابة عن الجنس، فإنني قادر وبشكل لا يرتقي اليه شك، أن أكون مكان إبليس أو مجموعة من الأباليس. فالشهوة لا تحتاج إلى براعة وخبرة وحرفة، بل إلى وقاحة وصفاقة وانحطاط. والدليل على ذلك ان الناس في العالم أجمع يثيرهم ردف امرأة في الشارع، أكثر من أن يثيرهم هول مجزرة في الشارع ذاته. هو أدب رخيص، أدواته رخيصة، كتابه لو عرضوا بسوق نخاسة عند من يملكون ذرة من الأخلاق، لما اشتراهم أحد. لأن من لا يساوي شيئا، لا سعر له على الإطلاق.
رواية " إله المتاهة " رواية جنسية صرفه، نستطيع تصنيفها بالأدب الداعر، تماما كما نستطيع تصنيف بعض روايات حنا مينا بالأدب الداعر، وكما نستطيع أن نصنف الكثير من شعر نزار قباني بالأدب الداعر، مهما كانت حجة الكاتب أو الناقد للدفاع عن فكرة الجنس، لأن رواية " كيف سقينا الفولاذ " قد وظفت مفهوم الجنس، بصفة إنسانية، تساوقت مع الفكرة الثورية للإنسان الباحث عن حريته، وكذلك رواية " الجريمة والعقاب " وظفت الفكرة الجنسية، لمفهوم إنساني سام ونبيل، فاستطاعت الروايتان، أن يجعلانا نقف احتراما، لمفهوم الجنس الملتصق بالفكرة الإنسانية.
وليس بمفهوم الانحطاط بفكرة الجنس، إلى مستوى الشهوة التي تنزل من مرتبة الحيوانية إلى درك أسفل من ذلك، كما صورت رواية إله المتاهة، وروايات أخرى.
في إحدى قراءتي للدكتور زكي نجيب محمود، فيلسوف مصر، تحدث عن أحد مدرسيه في الجامعة، فقال: إن الأستاذ كان يخرج في كل يوم وفي جيبه بعض النقود المعدنية، لكنه كان يصاب بالدهشة والمفاجأة حين يحتاجها فلا يجدها، كانت تتبخر، تتلاشى، وكأن قوة خفية متخصصة بإزالتها من مكانها وبشكل متعمد، وبعد دراسة مطولة وتحليل مضن، لم يصل إلى نتيجة، فحار في أمره، واستعان بقدراته وحاول أن يصل للسبب الذي يخفي النقود من جيبه بشكل يومي، لكنه فشل.
وذات يوم، حين حاول غسل السروال بنفسه، اكتشف أن جيبه مخروق، وان الفتحة التي به تكفي لتسرب النقود من جيبه، فحزن وتأثر على الوقت الذي قضاه وهو يخوض مراحل التحليل النفسي والاستكشاف الداخلي التي كان يظن بأنها ستنهي مشكلة ضياع النقود المتأصلة بحياته.
هذه الرواية تتعلق وبشكل رئيس بنظرية فرويد، التي قامت على تأسيس أن الجنس يمكن أن ترد إليه كل السلوكيات البشرية، وهي تكشف عن فذاذة الأستاذ بطريقة طرحه لتفاهة النظرية الفرودوية، وتدل وبشكل واضح على سخريته من المثقفين والمفكرين الذين تعاملوا مع تلك النظرية بتسليم مطلق، وهذا مفصل من مفاصل الشخصية القوية، التي باستطاعتها أن تميز بين القدرة النابعة من خصوصية الفكرة وتفردها، وبين الفكرة المروج لها إعلاميا لتسود وتكون ضمن المحرمات التي يصعب مسها أو نقدها.
وللتدليل على ذلك، نأخذ فترة العقاد رحمه الله، تلك الفترة التي منحت طه حسين، مرتبة عميد الأدب العربي، مع العلم ان قراءة متأنية للعقاد، وقراءة سريعة لطه، تدل على البون الشاسع بين امكانات الرجلين، وهو بون نستطيع أن ندعي وببساطة وثقة، بون المفكر من الذي ما زال يسعى للوصول إلى منزلة المفكر، لكن الوضع السياسي، هو الذي قرر، وليس منطق الحق والقدرة والاقتدار.
وهذا ما يجب الآن التنبه له، لان الناس ما زالت تؤله الشهرة، وتقدسها، فكيف إذا كانت هذه الشهرة من كاتب، تملك بلاده من أسباب القوة والسطوة، ما تجعلنا نشعر بعجزنا وذلنا في الحياة؟
مأمون احمد مصطفى
فلسطين – مخيم طول كرم
النرويج – 20 – 11- 2008
ومن هنا لا يمكن اعتبار هذه الرواية من روايات الأدب الداعر التي تسعى لتدمير التأثير التغريبي، وقد جاءت على شكل مذكرات اعترافيه، تتخذ من الجنس منطلقا لأفكارها ورؤاها من دون أن يكون الركيزة الأساسية لبناءها الروائي، وبذلك فقد شكلت بحق تحدي ممتع وكبير، لان رواية الأدب الداعر أكثر صراحة من الناحية الشكلية من أي نوع روائي آخر، إن الرواية تتمتع بشيء من الصراحة الرمزية التي تصف بها الباليه من دون أن تنتهك حرمة هذا الفن الراقي والرائع ".
هذا ما كتبه الناشر على الغلاف الأخير للرواية، ولا اعلم حقيقة كيف استطاع أن يصل إلى هذا التحليل المفترض، عن فكرة الرواية وأسلوبها، ولا اعلم يقينا، كيف وصل إلى إثبات حقيقة أنها ليس من الأدب الداعر.
وهو أول مأخذ يمكننا التحدث عنه بتشدد و تَأَرُّب وقَسَاوَة، لما فيه من فداحة الخطأ، أو التغرير بالقارئ لمقاصد قد تكون معلومة أو مجهولة، تؤدي الى انكار المعلوم والترويج الممنهج لباطل يراد تحويله الى حق ومنطق.
أن يكون الناشر الذي يضطلع بمهمة نقل الأدب والفكر إلى المجتمع والشباب، ليس على مستوى الدراية او المعرفة بما ينقل وينشر، إما لجهل يمسك به من تلابيبه، هو وكل الطاقم الثقافي الذي يعمل في دار النشر، وإما -وهو الأعظم خطرا- أن يكون مهتما بالتسويق والتجارة، أكثر من اهتمامه بما ينقل، وتأثير هذا النقل على المستوى الثقافي والاجتماعي والفكري.
فإن كان الناشر يعيش حالة من الجهالة تعكس حالة الضياع المطلق لمفهوم التركيبة البنيوية لدور الثقافة وتأثيرها على المفهوم العام لتنمية المجتمع وتربية الأفراد والجماعات، وتصويب السلوك للمجتمعات كونها صاحبة تاريخ وحضارة وتأثير في الحياة العامة والخاصة، وفي الانتشار بين الثقافات العالمية، كعامل قادر على التأثر والتأثير، وانتقاء كل ما يتوافق مع المجتمع الذي نحيا به ونعتز بما به من قوة وصلابة ومتانة، مما يبرز بشكل واضح وقاطع خصوصية الشخصية التي نتمتع ونفاخر بها، وهي الشخصية التي منحتنا عبر عصور متواصلة تميزا وبراعة وتضلعا. فهذا أمر يمكن وصفة بقيادة الأعمى لجموع المبصرين.
وإن كان الناشر يعمل بحساب الخسارة والربح، فإنه ودون أي تردد، بمثابة مندوب وفي، شديد الوفاء لمساندة الثقافات التي من ِشأنها محو شخصيتنا وغمسها مع سبق إصرار وترصد، ومن أجل تحقيق ربح مالي، بصبغة الفكر والثقافة التي حاولت وما زالت تحاول، طمس شخصيتنا وتذويبها في شخصية لا يمكن لنا التوافق معها الا بقليل من التفاصيل. وهذا الأمر يدل على ان رعاة الفكر والوعي سلعة تباع وتشرى، وفي الحالتين، فالويل منهما أقرب الى حبل الوريد.
على كل ناشر او صاحب فكر وثقافة أن يدرك يقينا، باننا أمة حية، نابضة، متوقدة، مهما أحاط بها من ظروف تكاد من شدتها أن تجعل الكثير يصل الى المدارك السفلى من اليأس والهبوط والقنوط. والدليل على ذلك الجهود التي بذلت من المستعمرين بكل اطيافهم وأجناسهم، من أجل حجبنا عن ديننا وثقافتنا وأعرافنا وتقاليدنا، حتى أنهم أحيانا أحسوا بأنهم أنجزوا مهمتهم، وحتى ظن الملايين منا أننا أصبحنا أداة بأيديهم، لكن الصحوات المتفرقة، والرجال المخلصين، والشعوب التي تحمل بالإدراك واللإدراك، انتمائها لذاتها وماضيها وحاضرها ومستقبلها، استطاعت أن تجر المستعمر من أنفه لتريه ما نحن عليه وفاء لتاريخنا وديننا وثقافتنا.
لذلك نقول:-
الأدب الداعر ينقسم بين رؤيتين عند المثقفين في الوطن الإسلامي والعربي، هناك فريق يرى بأن العمل الأدبي أو الرواية، إذا كانت تغص وتفيض بالمشاهد الجنسية التي من شأنها استنهاض الشهوة، عبر تصوير دقيق وملتهب وبشكل تفصيلي، مما يصل بالقارئ الى حد الشهوة المتأججة والشبق المستبد، تكون حينها رواية قد لا يصلوا الى وصفها بالأدب الجنسي، لكنهم يرفضون كلمة الداعر.
وهناك من يعتقد، بان استخدام المشاهد الجنسية بتفصيل معقول، ضمن مساحة الفكرة التي تتضمنها الرواية، ينأى بها عن أن تصنف بأنها رواية تعتمد الجنس كفكرة وأسلوب من اجل استفزاز غريزة القارئ، وهذا رأي يتناوله أكثر النقاد، ومعظم كتاب الأدب، على المستوى العربي، وعلى المستوى العالمي.
على المستوى العالمي، يمكننا فقط العودة للاستفادة من التاريخ الماضي للرواية العالمية، والتي كانت تهتم بتفاصيل الإنسان، من الناحيتين، النفسية، وما يعتورها من اختلاطات وتناقضات ، ومن الناحية المستقبلية، التي تدفع العقل للعمل على الاتحاد مع عواطف القلب، وتقلبات النفس، وهواجس الشر الموزعة في الذات، وكان هم الرواية، أن تتجاوز المفهوم الإقليمي، إلى مفهوم عالمي، يتصف حقا بلفظ الإنسانية، الإنسانية التي كان الحلم المستقبلي للروائي يعذبه ويضنيه، من اجل صياغته برائعة، ينحني القارىء لها إجلالا وإكبارا، في أي مكان يتواجد فيه على سطح الكرة الأرضية.
على سبيل المثال، لو أخذنا رواية البؤساء، بصفحاتها الممتدة إلى ما يقارب ألفان وخمسمائة صفحة ، فان القارئ، يبدأ ومنذ الصفحات الأولى بالإحساس العميق للقيمة الإنسانية التي تتشكل داخل البناء الروائي الصاعد بوتيرة محسوبة ليرسم عمق المأساة الإنسانية التي يعيشها شخوص الرواية، دون الحاجة، للإسفاف أو النزول إلى المشاهد الجنسية التي من شانها استفزاز الغريزة، من اجل امتلاك القارئ، وحين ينتهي القارئ من الرواية، ستجده قد أضاف إلى إحساسه الإنساني بعدا جديدا، تأصل فيه وتجذر ليصبح مكونا أساسيا من مكونات شخصيته، مما يؤدي بالضرورة إلى صقل نفسيته وعواطفه بأداة الإنسانية التي رافقت الصفحات والأحداث والشخوص.
ولو عدنا إلى رواية " كوخ العم توم " لوجدنا التوتر المتواصل، المصحوب بالغضب والنقمة، وأحيانا بالحقد العارم، على ما حل بالزنوج من ظلم واضطهاد، ويقينا بكينا من حرقة الألم، ومن الدهشة التي تصل بما يسمى الإنسان، إلى مراحل الانحدار والتردي، حتى يتحول إلى " شيء " خارج عن نطاق التصور، بما يملك من " أشياء " تعمي بصره عن رؤية تفاصيل الإنسانية التي تتغذى بالعذاب والهول، لما يمارس ضدها من سلوكيات، لا يمكن ان تدرج، بوصف تعرفه الإنسانية، أو حتى سبقت وعرفته، وما يثبت صحة ما ندعي، أن هذه الرواية، وإذا كنا لا نستطيع أن نغامر بالقول الصريح، بأنها بما ملكت من إيمان بقيمة الإنسان، كانت هي الفتيل الحقيقي الذي أشعل الحرب في الجنوب الأمريكي، فإنها على الأقل، كانت، والاهم أنها ستبقى، رواية يمكن للتاريخ البشري، الاحتفاظ بها كمعلم فاصل في العقل الإنساني، يستحق أن يخلد، وان يصنف، على انه أكثر أهمية وعمقا وتأثيرا، من اهرامات العبودية، وبرج ايفل وبيزا، وأكثر أهمية أيضا، من صعود الإنسان إلى القمر، لان الإنسان، الذي دافعت الرواية عنه، هو " الإنسان " في كل مكان، وفي كل عصر مضى وسيأتي.
وإذا ما استرسلنا في مثل ثالث، فإننا سنتجه نحو دوستويفسكي، صاحب الروايات التي عاشت الحالة الإنسانية بكل ما فيها من تناقض واختلاف وتنافر، بكل ما فيها من خير متأصل وشر متأصل، هذه الروايات التي استطاعت ان تضع العالم على ضرورة فهم النفس البشرية، والتعامل معها، بما تملك من تناقض وتضارب، وهي التي أسست، ودون أي مبالغة، لمفهوم علم النفس الروائي القادر على وصف الحالات البشرية بطريقة قادرة في النهاية على التأثير بقبول الانقلاب النفسي، من قطب الشر إلى قطب الخير، وإن لم يكن ذلك ممكنا، فإنها ساهمت بتعريف الإنسان، بما يملك من طاقات ، يمكن الاعتماد عليها في توجيه السلوك البشري نحو مستقبل قد يتشكل مع المستقبل.
رواية " رسائل من منزل الأموات "، كانت نقطة من النقاط ذات التأثير القوي بنفسية القيصر الروسي الذي دعا بعد قراءتها، إلى إصلاح السجون، وهي أيضا، كانت من الأساسات التي أطاحت بالحكم القيصري في روسيا.
وأنا أستطيع الآن، الاسترسال بأمثلة عالمية، كبيرة وكثيرة، تقود إلى مفهوم البناء الروائي من اجل الإنسان، دون الحاجة إلى استخدام الجنس كعامل أساسي، مقزز، ومقرف، فنجحوا وأبدعوا، وخلدوا كمنارات إنسانية، لا تقف ثقافة أو دين أو تقليد من قبولها وجعلها معلما إنسانيا، يخص البشرية كلها، بحاضرها ومستقبلها.
أما بالنسبة للرواية العربية ، فإنها تنقسم إلى قسمين ، قسم استطاع أن يستخدم الفن الروائي ، يتقنية عالية ، مستسقيا مادته من المجتمع الذي يعيش فيه ، فنجح إلى حد ما ، وقسم حار بين قدرته على الصياغة من الواقع الذي يعيش فيه ، وبين تأثره بمد الثقافة الغربية بكل ما تحمل من تناقضات بيئية ومعرفية ، سيق إليها المجتمع الغربي ، تحت تأثير السطوة الرأسمالية الديمقراطية التي استخدمت الإنسان كشيء لا قيمة له في أكثر المجالات الإنسانية التي تتعامل مع غرائزه، على أنها المكون الإنساني لكينونته ، وكان تأثر الرواية العربية، تأثر القزم الذليل، أمام مارد الغرب المالك لكل أسباب القوة والسطوة والاكتشاف ، في جميع مجالات المعرفة.
وهذا تحديدا، هو الفارق بين الأدب العربي، والأدب الغربي، فإذا ما قرأت للطاهر بن جلون، أو لحنا مينا، أو لاحسان عبد القدوس، أو غادة السمان، أو نوال السعداوي، فإنك ستجد بوصلة ترشدك إلى أن جهة الجنس في الرواية العربية، هي جهة منقولة بالتأثر، لمعطيات العصر الجديد، عصر الغرب بما يمثل من قوة عسكرية واقتصادية، وقوة فكرية، استطاعت أن تقنعنا بأننا دون أولئك الذين فتحوا الحرية، بكل مجالاتها على حقيقة أن لا حدود أخلاقية تقف أمام الفكرة وأمام الكاتب.
والمفارقة الواضحة ، أن الكتاب الغربين ، وخاصة المشاهير في القدرة على صياغة الرواية والعقل والعاطفة، نأوا بأنفسهم عن الحرية تلك، والتزموا بما يملكون من مبادىء وأفكار، بعكس العرب والمسلمين، الذين أصبحوا منغمسين بتلك الحرية لإشباع عقدة النقص التي يحملون، ولنيل رضا الغرب ووسائل إعلامه، بل وامتدت الصورة، لتصنع الأبطال القادرين على اختراق الاستعمار الصهيوني، من اصل الدعارة الصرفة، والانحلال من كل قيم الدين والأخلاق والإنسان، مثال ذلك الهجان، الذي غرق بالدعارة إلى حد يعلو قمة رأسه، وكانت صورة المسلم، او المجاهد العادي، تأتي بصور منافية للذوق البشري والإنساني، وترسخ من خلال مظهرها بدائية فكرة الأخلاق والدين.
ما سبق يحدونا إلى الاستنتاج، بان المفكر والمثقف العربي، عاش الإحساس بالدونية، بالتقزم - وهناك عوامل أخرى قد يأتي ذكرها في بحث خاص – وهذا ما دعاه إلى الاعتقاد، بان ما يصدر عن الغرب، هو بحد ذاته قيمه يمكن الاعتماد عليها والبناء على أسسها.
وهذا تحديدا ما حدا بالناشر إلى قول ما قال عن رواية " إله المتاهة " لكولن ولسن.
الرواية، وباعتراف كولن ولسون نفسه تعاملت مع المفهوم الجنسي على انه الركيزة التي تقوم عليها الرواية، في محاولة يائسة نابعة من الشخصية التي يحملها الغربي الغارقة بالتبعثر والتشتت والضياع، بين المادة التي استباحت وجوده وكينونته وانسانيته، وبين الفراغ المستبد الذي يقوده بالعودة الى الغرائز في محاولة للوصول الى ذاته التي تبددت وتلاشت فأصبحت وهما يقود الى وهم.
الرواية أسرفت وبشكل مدروس في وصف المشاهد الجنسية القادرة على استنهاض الغريزة بشكل كامل، بل وتعاملت مع المشاهد الجنسية، بتصوير سينمائي متكرر، وكان الوصف دقيقا إلى حد الخجل، وأحيانا إلى حد الشذوذ.
الرواية، لو كنت املك قدرة على نقل مشاهد اللحظة الجنسية، هي رواية داعرة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، ولا فرق بينها وبين روايات جيمس بوند، التي غلفت بغلاف العميل السري المعاصر.
وللقارئ الحق بالعودة إلى الرواية ومحاولة معرفة كم الوصف الجنسي الواضح، تحت هدف البحث عن أصول الدافع الجنسي وتأثيره بالإنسان وسلوكياته، بل وأنا ادعي، بان الرواية قد وصلت إلى مرحلة الشهوة الحيوانية التي تعيش لحظة المتعة، على أنها أسمى معاني الحياة وارفعها.
أنا لا اشكك بنوايا كولن ولسن، لأن له فكرا يلتصق بما يحصل بمجتمعه والمجتمع الغربي كله، فالشذوذ الجنسي المنتشر إلى حد كل بيت وأسرة، وكل مدرسة وجامعة، والانحلال المسيطر على مفهوم الكوابح الأخلاقية الإنسانية، يجعله يعتقد اعتقادات ناشئة من تأثره بما هو حوله.
أما نحن العرب، فإننا بسبب تقزمنا، نُشْدَه، وننبهر، مما يذهب إليه الغرب، فتأثرنا السابق، بفلسفة سارتر، هو تأثر القزم بالمارد، وإلا، فماذا تعني الوجودية للمواطن العربي والمفكر العربي، الذي لم يصب بصدمة الانتقال من المجتمع البسيط إلى مجتمع الآلة الضخم المكتسح الفرد والجماعة من طريقه، أنا افهم، وأستطيع أن أتصور تأثر الإنسان الغربي بفلسفة سارتر لعمق التغير الذي انفجر وغير المجتمع بأسره، لكني ارثي، حماقة المفكر والمثقف العربي، الذي حمل الفلسفة الوجودية، محمل الجد والتأثر.
وبنفس القدر، أرثي حماقة المفكر والمثقف العربي، الذي يستطيع أن يرى برواية " إله المتاهة " رواية إنسانية أو رواية يمكن الاستفادة مما ورد فيها من أفكار تنهض على تأليه اللحظة الجنسية المتصلة بذروة اللذة والشبق.
وعلينا كعرب، أن نتناول الأدب الغربي والفكر الغربي، بشخصية الندية، التي تستطيع أن تفصل القشور عن اللباب، بروية الواثق من تاريخه وقدرته واقتداره، لا بروية القزم المتلقي والمتأثر بخزعبلات تأتينا على أنها روافد للفكر المعاصر والحديث.
كولن روائي ناجح، لكنه باحث فاشل، برغم ما قيل عنه، وخاصة بعد كتابه اللامنتمي، الذي يعتبر بحثا عن وجودية جديدة، يمكن أن تنجح بالغرب، لأنها تتصل بواقعه، تتأثر وتؤثر فيه، لكن ما قلناه عن فلسفة سارتر، نعود لنقوله عن كولن نفسه.
فقراءة سريعة ، وأقول سريعة عن قصد وتبصر ، لمجموعة من كتب كولن ولسن ، مثل كتاب " موسوعة الألغاز المستعصية " و " الحاسة السادسة " و " والإنسان وقواه الخفية " و غيرها ، يقودك إلى استنتاج واضح ، بان كولن ولسون يطارد الهباء ، فماذا يعنيني من لعنة الفراعنة؟ غير حماقة من كتب عنها وسخف من امن بها! وماذا يعنيني من السحر الأسود؟ أو الاستنباء بالعصا؟ واختفاء أغاثا كريستي مدة أيام، ثم ظهورها بدون أن تقدم تفسيرا لفترة غيابها بأحد الفنادق؟! ولماذا علي أن أطارد وهما يسمى بالأطباق الطائرة؟ أو مثلث برمودا؟!
القضايا التي يطاردها كولن هي قضايا غريبة، لذلك يشعر الإنسان بالمتعة والاستهجان والغموض حين يقرأها، تماما كالخرافات المنتشرة بالوطن الإسلامي عن الجن وتحركه بجسد الإنسان وتدمير المجتمع بلحظة غضب، مثل هذه الأمور الغيبية، تستهوي النفس، لكنها في الحقيقة، ليست سوى خرافات، يأنسها الجاهل، واقصد الجاهل الذي تؤثر معرفته بطريقة تفكيره.
لكننا نقر له بقدرته الروائية في " طقوس في الظلام " و " القفص الزجاجي " و " الشك ". بصفة خاصة، وفي كل رواياته بصفة عامه، فهو روائي متمرس يملك كل أدوات الرواية التي تشد القارئ إليها بنهم المتابعة والمطاردة. مثله مثل الخطيب المفوه، الذي يفجر المشاعر، ويشنف الآذان، بما يملك قدرات، لكنه رغم علمه بوقوفه على منبر العدالة، لا ينتمي اليها قولا وفعلا. والفرق بين امتلاك القدرة على المخادعة، وامتلاك القدرة على الخلق والابداع، لا يكمن في الأسلوب فقط، بل في المضمون الذي يستجلب الأسلوب ويستدعيه، ليكون العمل بكله جسد متصل لا عيب فيه ولا إعياء.
وأنا أدعي بثقة مطلقة نابعة عن خبرة طويلة في القراءة والكتابة، بأن الكتابة المنحلة، عن الجنس والشذوذ والمتعة، هي أسهل الكتابات على الكاتب المبتدئ الذي لم يصل مرحلة الاحتراف، لأنها لا تنتمي للنفس والاحساس والشعور، بل تنغلق على الغريزة المشوهة التي تصل الى مرحلة القرف والتقزز.
وقد قلت لصديق لي ذات يوم: - بأنني لو قررت الكتابة عن الجنس، فإنني قادر وبشكل لا يرتقي اليه شك، أن أكون مكان إبليس أو مجموعة من الأباليس. فالشهوة لا تحتاج إلى براعة وخبرة وحرفة، بل إلى وقاحة وصفاقة وانحطاط. والدليل على ذلك ان الناس في العالم أجمع يثيرهم ردف امرأة في الشارع، أكثر من أن يثيرهم هول مجزرة في الشارع ذاته. هو أدب رخيص، أدواته رخيصة، كتابه لو عرضوا بسوق نخاسة عند من يملكون ذرة من الأخلاق، لما اشتراهم أحد. لأن من لا يساوي شيئا، لا سعر له على الإطلاق.
رواية " إله المتاهة " رواية جنسية صرفه، نستطيع تصنيفها بالأدب الداعر، تماما كما نستطيع تصنيف بعض روايات حنا مينا بالأدب الداعر، وكما نستطيع أن نصنف الكثير من شعر نزار قباني بالأدب الداعر، مهما كانت حجة الكاتب أو الناقد للدفاع عن فكرة الجنس، لأن رواية " كيف سقينا الفولاذ " قد وظفت مفهوم الجنس، بصفة إنسانية، تساوقت مع الفكرة الثورية للإنسان الباحث عن حريته، وكذلك رواية " الجريمة والعقاب " وظفت الفكرة الجنسية، لمفهوم إنساني سام ونبيل، فاستطاعت الروايتان، أن يجعلانا نقف احتراما، لمفهوم الجنس الملتصق بالفكرة الإنسانية.
وليس بمفهوم الانحطاط بفكرة الجنس، إلى مستوى الشهوة التي تنزل من مرتبة الحيوانية إلى درك أسفل من ذلك، كما صورت رواية إله المتاهة، وروايات أخرى.
في إحدى قراءتي للدكتور زكي نجيب محمود، فيلسوف مصر، تحدث عن أحد مدرسيه في الجامعة، فقال: إن الأستاذ كان يخرج في كل يوم وفي جيبه بعض النقود المعدنية، لكنه كان يصاب بالدهشة والمفاجأة حين يحتاجها فلا يجدها، كانت تتبخر، تتلاشى، وكأن قوة خفية متخصصة بإزالتها من مكانها وبشكل متعمد، وبعد دراسة مطولة وتحليل مضن، لم يصل إلى نتيجة، فحار في أمره، واستعان بقدراته وحاول أن يصل للسبب الذي يخفي النقود من جيبه بشكل يومي، لكنه فشل.
وذات يوم، حين حاول غسل السروال بنفسه، اكتشف أن جيبه مخروق، وان الفتحة التي به تكفي لتسرب النقود من جيبه، فحزن وتأثر على الوقت الذي قضاه وهو يخوض مراحل التحليل النفسي والاستكشاف الداخلي التي كان يظن بأنها ستنهي مشكلة ضياع النقود المتأصلة بحياته.
هذه الرواية تتعلق وبشكل رئيس بنظرية فرويد، التي قامت على تأسيس أن الجنس يمكن أن ترد إليه كل السلوكيات البشرية، وهي تكشف عن فذاذة الأستاذ بطريقة طرحه لتفاهة النظرية الفرودوية، وتدل وبشكل واضح على سخريته من المثقفين والمفكرين الذين تعاملوا مع تلك النظرية بتسليم مطلق، وهذا مفصل من مفاصل الشخصية القوية، التي باستطاعتها أن تميز بين القدرة النابعة من خصوصية الفكرة وتفردها، وبين الفكرة المروج لها إعلاميا لتسود وتكون ضمن المحرمات التي يصعب مسها أو نقدها.
وللتدليل على ذلك، نأخذ فترة العقاد رحمه الله، تلك الفترة التي منحت طه حسين، مرتبة عميد الأدب العربي، مع العلم ان قراءة متأنية للعقاد، وقراءة سريعة لطه، تدل على البون الشاسع بين امكانات الرجلين، وهو بون نستطيع أن ندعي وببساطة وثقة، بون المفكر من الذي ما زال يسعى للوصول إلى منزلة المفكر، لكن الوضع السياسي، هو الذي قرر، وليس منطق الحق والقدرة والاقتدار.
وهذا ما يجب الآن التنبه له، لان الناس ما زالت تؤله الشهرة، وتقدسها، فكيف إذا كانت هذه الشهرة من كاتب، تملك بلاده من أسباب القوة والسطوة، ما تجعلنا نشعر بعجزنا وذلنا في الحياة؟
مأمون احمد مصطفى
فلسطين – مخيم طول كرم
النرويج – 20 – 11- 2008