محمد سلام جميعان - ظلال الكرسي الأخرس..

أعرفك جيدا أيها الكرسي، منذ أن دخل علينا المعلم وجلس عليك، وضرب الطاولة، بعصاه قائلا لي: اسكت يا (كر). والكر عند البدو: الحمار الصغير، وعند المعجميين: مكيال لأهل العراق يعادل ستين قفيزا، أو أربعين اردبا.

ولأنني لا أحسن (الكر) والفر، خانتني شجاعة عنترة واعتراني الحلب اللاارادي، رغم الصر الشديد للحيلولة دون أن أسوخ في مستنقع ساخن ينسرب تحت الدرج.
أخافك أيها الكرسي، فعليك يجلس معاوية ويزيد، (وينقص)، والقضاة، وممثلو الشعب، والمتهمون، وسائقو باصات مؤسسة النقل العام، والمرضى في عيادات تخطيط القلب، وغيرهم من كائنات عالم الانس والجان، وحين أراك أحتار من الجالس ومن المجلوس عليه.
الفرق بيني وبينك أيها الكرسي، أنني من لحم ودم ومشاعر، وأنت من خشب، لا مشاعر لك، حتى لو كنت من خشب الزان و«الصندل» أخافك، وأتمناك لأضرب الطاولة بالعصا .
حتى عندما أركب سيارات السرفيس، أحب أن أجلس في الكرسي الأمامي، لا أحب أن يشاركني فيك أحد، رغم نصيحة الوالدة بأن من يركب في الكرسي الأول معرض للموت أكثر ممن يجلس في الكراسي الخلفية لا فرق عندي بين أن أموت عليك أو أن استميت من اجلك .
تذكرني جيدا أيها الكرسي حين دخلت المقهى، وكانت الكراسي مقلوبة على الطاولة.. أمسكت بك لأجلس عليك، فنهرتني. قلت لي بفظاظة وخشونه: دعني، انا لست لك، انا محجوز لشخص آخر سيأتي على ظهر دبابة أو نعامة أو سلعوة، لكنني عنيد ومكابر؛ إذ حاولت انتزاعك، فانهالت الكراسي على راسي... أصابتني بسببك عاهة سلبتني قدرة قدمي على المشي( مع الاعتذار إلى القاص سعود قبيلات) صرت مواطنا مقعدا، يصحبه إلى الساحات العامة، والمخابز، وحدائق الحيوان، وزيارة المتطفلين والغشاشين، كرسي متحرك. وحين يسألني باعة الصحف عما حل بي، أكذب على حالي وعليك، وأنكر أنك أيها الكرسي كنت السبب، وأقول مزورا للحقيقة: خطأ طبي، فهذه الكذبة الناصعة تتوافق تماما مع (الديموكراسية) التي ابتدعها اليونانيون، وتمتع بها المساجين، وثاني أكسيد الكربون، والوجبات السريعة، والمشاجرات، والشعر الرديء، والمصران الأعور، وحصان طروادة....
أيها الكرسي، أنا لا أحبك، تماما مثل( سوار الذهب) الذي أعلن الاستغناء عنك بلهجة تلفزيونية جعلت الشاشة أكثر بياضا من الحليب، ومن قلوب الأولياء .
الآن أتذكر أيها الكرسي، ما قاله الأب لويس صابونجي ترجمان الحضرة السلطانية: (في صدر القاعة يقوم عرش أمير المؤمنين متجها نحو البحر، وهو كرسي مستطيل الشكل كالسرير، وكله قطعة واحدة من الذهب الإبريز المسبوك سبكة واحدة، على ظاهرة النقوش، وسمك جداره ثلاث عقد، ومقعده محشو بريش النعام، وغطاؤه من الحرير الأحمر المنقوش بالذهب) لقد غنمه السلطان سليم الغازي سنة 1512من عائلة الغوري المملوكية المصريه رغم أنها قرأت عليه(آية الكرسي)، ليبقى منيعا شديدا بعيدا عن أعين الحساد والطامعين، والجان، وتمائم المكائد وأحجبة سموم الاغتيال... وبقع الشيكولاته .
أيها الكرسي أنت مصدر خلاص الأمة من أزماتها، أنت العاطف على شجن المخنوقين، المسير لنشرات أحوال الجو .
يا أشهى ما تتغذى عليه النزاعات، والعادات المحرمة كالدم والميته ولحم الخنزير... يا دم الغزال الذي يفوح مسكا بعيدا عن الذئاب القطبية .
أيها الكرسي، لن أذهب نحوك، فأنا لا أتقن المبارزة والمصارعة والملاكمة، ولا أحب دخول المونديال لما فيه من تصفيات، ولا أحب ريا وسكينة، ولا عبد الحكيم عامر... فأنا الذكر الوحيد الذي أنجبته أمه على ثلاث بنات، ولا أرغب في أن تفجع بي أمي... سأكتفي في الذهاب الى ( كرسي الحلاق) فعليه يتداول أصحاب الشعور الطويلة، السلطة... والحلاق آه من الحلاق، الذي حدث زبونه عن وقائع الحرب العالمية الثانية، وكلما قال للزبون: هنا ضرب (رومل) ضربته المؤثرة حزت الموس جزءا من أذن الزبون، فإذا رد ( هتلر) على ضربة( رومل) حزت الموس جزءا من الأذن الثانية من الزبون، وما انتهت الحرب حتى كان الزبون يرشح دما لم تنفع معه الصودا المبلولة بالماء... لا.. لا، سأكتفي بكرسي الشاعر طاهر رياض:
ندماني الليلة كرسي
يشغله في العادة ظلان
ظلي وأنا أحمل كأسي
والآخر ظل الكرسي
فهو الوحيد الذي سيمنحني (كرسي دائم) في مجلس الأمن.
* كاتب أردني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى