بشرى ناصر - من عرش الرحمن إلى كرسي الشيطان

في غالبية ترجمات العهد القديم إلى العربية يرد (العرش) على أنه (الكرسي) بحكم البيئة الصحراوية لشبه جزيرة العرب، تكاد تكون مقولة (عرش وعروش) أقرب إلى الذهنية العربية من كلمة (كرسي)

تبدو كلمة «كرسي » مجهولة في الثقافة العربية - الإسلامية، فالكراسي، لا تمثل إلا ارتباطاً مباشراً بالملوك وهذا ما يؤكده ابن منظور، أما مقولة (العرش) فرغم دلالاتها التي تقرّبها من
الكراسي في معناها النهائي، إلا أنها أشد استخداماً وتداولاً في هذه البيئة الصحراوية، فالعرش سرير الملك كما يدلّك على ذلك عرش ملكة سبأ، وجمعها عروش وأعراش وعرشة، لكنها أيضاً وفي لغة العرب تعني السقف، فعرش البيت سقفه، إذ تشير الآية رقم 45 من سورة الحج إلى هذا السياق «فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها»، يذهب (الزجّاج) إلى خراب القرية وانهيارها على سكانها، أي انهيار سقوف بيوتها على الناس.
وهنا يُنقل عن المسلمين أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في يوم بدر: ألا نبني لك عريشاً تتظلل به؟ والعرش أيضاً الخشبة، لكن الأصل في كلمة (عرش) أربع أو خمس نخلات، ترتفع فتظلل من يجلس تحتها، وهذا أصل المعنى في المخيال الشعبي حينما يصف البيوت المصنوعة من جريد النخل بكلمة «عريشة .
لكن كلمة (عرش) مثلما ألحقت كلمة (بيت) في طور البداوة لدى العبرانيين كما لدى العرب بالإله ( أيل) فأصبحت الكلمة )بيت أيل( ضمن التركيب الشائع معبداً متنقلاً يحوي وسائل العبادة ورموزها، تم احتكار كلمة (عرش) لصالح المقدس، أو لصالح الديني، فالعرش في تفسير ( العهد القديم Old Testament ) ذات المعنى في المعاجم اللغوية العربية: سرير الملك أو كرسيّه، وأصل الكلمة في اللغة العبرانية (كسا) من الفعل ( يكسو )، وهو نفس المعنى المراد في العربية، إذ كان يغطي العرش عادة بمظلة، ففي غالبية ترجمات العهد القديم إلى العربية تتم ترجمة الآيات التي يرد فيها ذكر (العرش) على أنها ( كرسي ) باستثناء (سفر حزقيال الأول) الآيات 26 ، وفي الآية الأولى من السفر العاشر ذاته تترجم الكلمة إلى (عرش) فيما تستخدم في سفر (دانيال) الخامس - آية 20 الكلمة الآرامية الأصل (كرسي) ثم يعاد ترجمة ذات المعنى في سفر )دانيال( الإصحاح السابع آية 9 في شكل (عروش).
بيد أن القارئ المتمعّن يلمح ذلك الاختلاط الحاد بين العرش والكرسي، الذي يخلق تشوّشاً، فالكرسي في المعاجم العربية محل الجلوس لكنه أيضاً (موضع القدمين)، كما يروي (سعيد
ابن جبير) نقلاً عن (ابن عباس) فيما لا يقدّر (العرش) قدره، فالعرش مجلس الرحمن، يستوي عليه الله، كما تشير عدد من الآيات الكريمة من بينها: «إن ربّكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ،» ثم يعود الخطاب القرآني لاستخدام مصطلح (العرش) ذاته في إشارة إلى عرش الملك «ورفع أبويه إلى العرش وخرّوا له سجداً وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي »، ثم يعيد القرآن الكريم استخدام كلمة عرش الغرض ذاته في آية أخرى
تشير ضمنياً إلى (بلقيس) ملكة سبأ ولا يأتي على التصريح باسمها، لكن اقتران اسمها بالنبي سليمان يؤكد ما ذهبت إليه المثيولوجيا الإسلامية فيما يخص ملكة سبأ «إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم .»
ولم يأت الخطاب القرآني على ذكر «الكرسي » بصورته هذه التي نعرفها، وجمعها كراسيّ، إلاّ في آيتين منفصلتين وباستخدامين مختلفين، مرة كرمز للمقدس المتعالي، عبر الآية 255
من صورة البقرة والمعروفة باسم آية الكرسي: «الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه يعلم مابين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء وسع كرسيّه السماوات والأرض.»
ومرة أخرى ككرسي للملك، وذلك عبر الآية 34 من سورة «ص »، وهي سورة مكية ضرب الخطاب القرآني فيها أمثالاً للمتجبرين «ولقد فتنّا سليمان وألقينا على كرسيّه جسداً ثم أناب
إذا نظرنا إلى «التوراة » نلحظ استخدام «الكرسي » بشكل متكرر، ولا غرابة في ذلك، حيث «العبرانيون » الذين لم يكونوا طيلة التاريخ القديم سوى مجموعة من القبائل البدوية المهمّشة، تنتقل من مكان لآخر بحثاً عن الكلأ ومصادر المياه، مثلهم مثل غيرهم من البدو، حيث كل شيء في حياة البدو ممعن في التقادم، يعتبرون أنفسهم عائلة واحدة وينضوون تحت سلطة أب واحد يقودهم، بما أنهم لا يرتحلون إلا في جماعات أو أعداد كبيرة، فكلما
كثر تعداد القافلة أمنت على نفسها، وقد وجدوا العالم آنذاك مزدحماً بالإمبراطوريات والأباطرة والملوك، فيما اعتادوا هم تسليم زمام أمورهم لرجل ذي شخصية قوية قيادية ليصبح بمثابة القائد والأب الكبير لهذه القبيلة، مما خلّف تأثياً بالغ الأهمية لاحقاً على التاريخ العبراني، فقد جسّد هؤلاء الرعاة وبجدارة طيلة تاريخهم (النظام الأبوي Patriarchal ) كنظام متفرّد انعكس على كافة الجوانب السياسية منها والاقتصادية، والسياسية، وحتى الدينية.
لقد تجذرت هذه العروش والكراسي التي جلس عليها الأباطرة والملوك عميقاً في وجدان ومخيال هؤلاء، فانعكست على إرثهم الروحي أو الديني - لاحقاً، لذا يرى النبي ( أشعيا ) ضمن رؤاه «السيد جالس على كرسي عال ومرتفع ،» فالجلوس على العروش والكراسي صفة من صفات ملوك التاريخ القديم، ومكتسب لا يطاله أو يصل إليه أي شيخ قبيلة مهما علا مقامه أو ارتفع شأنه، فقد اتخذ )فرعون( كرسيّاً كما يخبرنا سفر التكوين الإصحاح 13 آية 4، وسفر الخروج الإصحاح 11 آية 5، كذلك اتخذ )نبوخذ نصّر( كرسياً كما يفضي بذلك
سفر دانيال الإصحاح الخامس آية 20 .
كذلك اتخذ الملك (أحشويروش) الذي ملك من الهند حتى (كوش) كرسياً، لذا فعندما أتيح لهم ولأول مرة في تاريخهم تأسيس مملكتهم )العبرانية المتحدة( حوالي 1250 ق.م، مملكة داود وسليمان، رغم أنهم لم يتمكنوا من بناء معابدهم ومدنهم وقصورهم فاضطروا للاستعانة في أثناء سلطانهم - أي في عهد سليمان - بالخارج، فجلبوا لهذا الغرض بنائين وعمالاً ومتفننين لم يكن بين بني إسرائيل قرن لهم.
كما لجأ سليمان إلى تزيين كرسيّه بنفس الصورة الشائعة آنذاك، بالرغم من أن كرسي
الملوكية العبراني لم يكن ثابتاً مقيماً في الأرض وإنما جعل قابلاً للحمل وسهل الانتقال، ربما لتجذّر الطبيعة البدوية فيهم، باستثناء كرسي سليمان الذي جعل من عاج مطلي بالذهب، يصعد إليه بست درجات، فيما يعتلي على مسند أيدي الكرسي أسدان، بينما توزع (اثنا عشر أسداً على الدرجات الست من هنا وهناك).
وكما اعتقد الآشوريون أن الملك مفوض من الآلهة فقد جعل العبرانيون كراسي ملوكهم «ثابتة
أمام الرب إلى الأبد .»
ويقتبس العهد الجديد كلمتين يونانيتين للتدليل على «الكرسي » أو العرش هما: كلمة (بيما Bema ) التي تفضي إلى كرسي الملك أو كرسي الولاية، كما يرد في عدد من الآيات، وكلمة ( ثرون س Thronos ) اليونانية أيضاً التي أخذت منها كلمة (Throne ) الإنكليزية التي تعني (عرش).
إذ يستخدم العهد الجديد الكلمة الثانية (ثرونس) ليدلل بها على عرش الله كما يرد ذلك في عدد من الأمثلة (ومن حلف بالسماء فقد حلف بعرش الله وبالجالس عليه)، أو ( وللوقت صرت في الروح، وإذا عرش موضوع في السماء وعلى العرش جالس)، كما يدلل بها على عرش المسيح كما يرد في (سفر رؤيا يوحنا آية 21 ، 7: 27 ) وعروش القديسين في السماء كما يرد في ( رؤيا يوحنا الرابع آية 4 و 20 : 4) والعرش العظيم الأبيض كما يرد في (رؤيا يوحنا الإصحاح 20 :11 ) فيما يذهب ( سفر رؤيا يوحنا الثاني آية 13 ، وسفر كورنثة الأول: 16 ) إلى تخصيص كرسي أيضاً للشيطان.
فيما يقول (يسوع ) باستغراب: (على كرسيّ موسى جلس الكتبة والفريسيون( في تصوير للمكانة التي حظي بها (موسى) وقدرته على تفسير (النواميس) واستحواذ الفريسيون والكتبة لهذه المكانة.
*قطر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى