عبدالودود العمراني - البابا والإمبراطور: كرسيان فوق رعية واحدة!

على إثر الثورات التي يشهدها العالم العربي والديموقراطية الموعودة، تتضح أمام المواطن الناخب عدة توجهات سياسية لعلّ أهمها التيار الإسلامي والتيار العلماني.

وتُطرح على الساحة الفكرية عمومًا علاقة الدين بالدولة، فيهرع المؤرخون ليتفحصوا المادة التاريخية الغربية المتعلقة بالفصل بين الدين والدولة، هذا يردّها للتنافس المحموم على السلطة بين البابا والإمبراطور في العصر الوسيط، وذاك يقول إنها نتيجة الثورة الفرنسية عام 1789 م وتأسيس الدولة المدنية.
عرفت أوروبا على امتداد تاريخها قطبين متنافسَين على السلطة، ادّعى كلّ منهما أنّه سلطة مطلقة وكونية وضرورية، وكانا يعتبران في البداية أنّ وظيفتيهما منفصلتان ونطاقيهما مستقلاّن كلّ عن الآخر. وعلى الرغم من وجود سلطات ثانوية أخرى على غرار الملكيات والإمارات، فقد تميّز العصر الوسيط الأوروبي بالسلطة المطلقة للبابا، زعيم الكنيسة الرومانية
وبالسلطة المطلقة للإمبراطور. ولم توجد في الحضارات الأخرى إبّان تلك الحقب التاريخية ثنائية قطبية ولا منافسة مماثلة بين سلطة دينية روحية يمثّلها كرسي البابا، وسلطة دنيوية مدنية يمثلها كرسي الإمبراطور. فلا وجود لهذَين العرشَين على سبيل المثال في العالم البيزنطي ولا في العالم الإسلامي.
كان البابا كما الإمبراطور يعتبران كرسييهما شرعيّين يستمدّان شرعيّتيهما من القضاء والقدر الإلهي، وكان كلّ منهما ينظر إلى نفسه على أنّه جزء لا يتجزأ من النظام الكوني الذي يريده
الخالق. واللافت أنّ المسيحية تتماثل وفق وجهة نظر الكنيسة الكاثوليكية مع الإنسانية كلها، ومن ذلك المنطلق، لاغرابة أن تُدمغ البابوية والإمبراطورية بسمة الكونية. أمّا إذا عدنا إلى الأصول، فثمة عنصران رئيسان وراء نشأة دولة الكنيسة: أوّلهما اضطرار أساقفة روما للدفاع عن أنفسهم وعن رعاياهم من القبائل المغيرة عليهم زمن ضعف الدولة البيزنطية، وثانيهما واجود أملاك عقارية شاسعة تحت تصرف الكنيسة، وهي الأراضي والممتلكات التي تصدّق بها المسيحيون أو ورثتها الكنيسة بعد وفاتهم.
وجرى تعريف هذا التراث العقاري منذ القرن الخامس الميادي تحت مسمّى )عقارات القديس بطرس(. ثمّ توسّعت دلالة هذا المسمّى من مجال الملكية العقارية لتبلغ المجال السياسي
المؤسساتي، وأضحت تُعرّف جملة الحقوق المادية للبابوات والمنطقة المحددة التي يمارسون فيها سلطاتهم. وأصبحت هذه المنطقة في القرن الثامن م تشمل روما الكبرى ( محافظة لاتسيو ) وجزءًا من محافظة أومبريا. كما حصل البابا أدريانو الأول ( 771 - 795 م) من الإمبراطور شارلمان على منطقة سابينا الجبلية. والغريب أنّه على الرغم من تتويج الكنيسة نفسها لشارلمان إلاّ أنها كانت تسعى لتأسيس أيديولوجية إمبريالية لنفسها بما يعني ذلك من ممتلكات وسلطات دنيوية. وقد دفع هذا المسار الأيديولوجي الذي أُطلع عليه «محاكاة الإمبراطورية » وباللاتينية Imitatio Imperi ، دفع الكنيسة إلى إنتاج أشهر وثيقة مزيّفة في العصر الوسيط: « هبة قسطنطين » .(Constitutum Constantini) ويُجمع المؤرخون على أنّ « هبة قسطنطين » وثيقة أساسية برّرت إعطاء السلطات الدنيوية للبابا رئيس الكنيسة
الكاثوليكية. وهي وثيقة حُرّرت من قبل مجهول ولا يُعرف تاريخ تحريرها. وقد اعتمد سنة 1440 م خبير اللغة اللاتينية لورنزو فالا على التحليل اللغوي والتاريخي ليُثبت قطعًا أنّ الوثيقة لا يمكن أن تعود للإمبراطور قسطنطين وأنّها وثيقة مزيّفة دون جدال. والأرجح أنّ الوثيقة من تأليف قسّ من مدينة روما ينتمي لبلاط البابا باولو الأول ( 757 - 767 م).
وتسرد وثيقة « هبة قسطنطين » أسطورة مفادها أنّ البابا سيلفستر الأول ( 314 - 337 م) شفى الإمبراطور قسطنطين من الجذام. وقبل أن يذهب هذا الأخير إلى القسطنطينية أهدى إلى البابا قصر لاتيرانو ومنحه الامتياز على بقية البطاركة وكذلك السلطة الدنيوية على روما وإيطاليا وكل مقاطعات الإمبراطورية الغربية. وتقول الوثيقة إنّه سلّمه كذلك رموز السلطة الإمبراطورية في الغرب: الإكليل )الذي رفضه البابا تواضعًاً( والوشاح، والتاج.
وتدلّ هذه القصة على وعي السلطات الكنسية بضرورة اختلاق أسطورة تأسيسية للحكم البابوي. واللافت أنّه لم يُشِر أيّ بابا إلى هذه الوثيقة قبل القرن العاشر ميلادي، ولم يلجأ إليها إلاّ البابا ليون التاسع عام 1053 م لمّا انفصلت الكنيسة الشرقية، ذلك أنّه بعد أن رسّخت
الكنيسة سلطتها، توافرت في ذلك العصر الظروف الملائمة للاستفادة من ادعاء مشطّ من هذا القبيل. بل إنّ ادعاء العلوية ظهر صراحة فيما أطلق عليه اسم «الإملاءات البابوية Dictatus »
Papa ، ويُعدّ البابا غريغوريوس السابع أوّل من فرض صراحة علوية كرسي البابا على كرسي الإمبراطور، واصطدم مع الإمبراطور أنريكو الرابع. انطلقت المعركة سنة 1076 م عندما عزل
أنريكو الرابع البابا، فردّ عليه هذا الأخير بسلاح الحرمان الكنسي )التكفير(. وقد أصبحت توبة أنريكو الرابع شهيرة في العصر الوسيط إذ تقدّم سنة 1077 م حافي القدمين إلى البابا طالبًا الصفح، وبقي ينتظر ثلاثة أيام منبطحًا على الثلوج بلباس التائب حتى نال العفو. وقد أطلق المؤرخون على الحادثة «ذلّ كانوسا » باسم المنطقة التي أقام فيها أنريكو الرابع. وتواصلت النزاعات بين الكرسي البابوي والكرسي الإمبراطوري إلى أن وقّع الطرفان «اتفاق ورمس »
سنة 1122 م. وافق الإمبراطور على التخلّي عن تعيين البابا بعد أن كان ذلك من مشمولاته، ورضي البابا أن يجري اختيار البابا بحضور الإمبراطور. وعادت السلطة الروحية إلى كرسي
البابا والسلطة الدنيوية إلى كرسي الإمبراطور.
يمكن القول إنّ تاريخ البابوية والإمبراطورية يتمثّل إلى حد بعيد في تاريخ علاقات هاتين السلطتين بشبكة المناطق تحت حكميهما، ولم تكن المواجهات بين كرسي البابا وكرسي
الإمبراطور سوى معارك للتحكم في تلك المناطق. وقد حملت هذه المواجهات التي لم تتوقف إلاّ في نهاية القرن الرابع عشر، حملت الكنيسة إلى دفع الثمن: علمانية مفرطة للفكر المسيحي، ودخول البابوات في اللعبة السياسية، والعنف واللهث وراء الثروة والسلطة. أمّا الإمبراطور الذي استقلّ كلية عن البابا، فقد وجد ملاذه فيما أطلق عليه تسمية فصل الدين عن الدولة. وكان آخر إمبراطور وضع البابا على رأسه التاج هو فيدريكو الثالث سنة 1452 م. أمّا
الإمبراطور كارلو الخامس الذي اعتلى العرش سنة 1530 م، فكانت مراسم تعيينه مدنية صرفة دون حاجة إلى أن يبارك البابا كرسيّه الإمبراطوري. كانت الطريق مفتوحة أمام ثوّار الثورة
الفرنسية ليؤسسوا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ميلادي الدولة المدنية وكي يرسّخوا مبدأ فصل الدين عن الدولة في الحضارة الغربية.
*تونس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى