محمد عدناني - بنية الإيقاع في المشهد الشعري المغربي الجديد.. 1/2

1- مقدمة نظرية

1-1 التباس الإيقاع بالوزن
اقترن الإيقاع بالوزن اقتران وجوب, حتى أن نُطْقَ كلمة" وزن" يُغْنِي عن التفكير في مستويات الإيقاع المفارقة للعروض والقافية. وقد شاع الاعتقاد أن الوزن أشمل من الإيقاع وأقوى منه حضورا في القصائد، بل الأكثر من ذلك تم اختزال الإيقاع في الوزن نهائيا، تماما كما اخْتُزِل الوزن في التفعيلات والقوافي.
وقد كان للتعاريف الموضوعة للشعر الدور الحاسم في هذا الاختزال. إذ أن بنية القصيدة الشعرية التي تقوم على نظام الشطرين المتساويين من حيث الكَمُّ, أسعف كثيرا في هيمنة هذا التصور وذُيوعه وتغذيته باستمرار .
إن الوقوف عند الملمح العروضي، وِفْقا لهذا الفهم، كافٍ لإلغاء العناصر الإيقاعية المختلفة، والأسوأ من كل ذلك، أن هذه العناصر غالبا ما تمت مناقشتها في مستوى آخر من مستويات الدراسة الشعرية، أي فَصْلُها عن مبحث الإيقاع وإدراجُها ضمن مباحث أخرى كان التَّوَهُّم كبيرا في أنها ليست من صميم الإيقاع وأن هذا الإيقاع ليس جزء منها 1.

لقد بلغ اهتمام القدماء بالوزن إلى أعلى درجاته، حتى أنهم تَواتَروا التعريف القديم للشعر : " كلام موزون مُقَفًّى يدل على معنى" دون مراجعة حقيقية تُعَدِّلُ فيه وتستدرك تحولات الكتاب الشعرية لإبراز جوانب أخرى تقوم عليها القصيدة .
وقد تتبع قُدامة بن جعفر مفردات هذا التعريف بالتفسير في وقت مبكر , فأحال بالكلام على ما يناسب قول الشعر من الألفاظ، وأحَلَّ الوزن والقافية محل الخِصِّيصة المميزة التي تُدْخِلُ الكلام إلى دائرة الشعر 2 . وقد ظل هذا التصور قائما مُتداوَلا بين جمهور النقاد العرب القدامى الذين اعتبروا عنصري الوزن والقافية حَدَّيْنِ فاصلين بين الشعر وغيره من الأجناس الأخرى لا يمكن التواطؤ عليهما أو استبدالهما . وفي هذا السياق أكد ابن رشيق أن " الوزن والقافية أعظم أركان الشعر وأولاهما به خصوصية، وهو مشتمل على القافية وجالب لها ضرورة " 3.
الوزن إذن هو مالا يشترك فيه الشعر وباقي الأجناس الكلامية، ثم تدخل القافية لتكمل مشهد التميز. لكن ليس من حيث هي ميزة خاصة بالشعر دون غيره، ولكن من حيث طريقة توظيفها وإلزامية ذلك. فقد تأتي كلمات مُقَفاة داخل كلام ما دون أن يكون ذلك كافيا لعده شعرا. يقول ذ. محمد العمري: " هناك أنساق من القوافي الحرة وغيره المُطَّرِدة أو التَّسْجيع"4. فهذه مشتركة بين مختلف أجناس القول .

1-2 التدرج من الوزن إلى الإيقاع.
استمر الالتباس طويلا حتى بدت ملامح التجديد تظهر على القصيدة العربية من الناحية الشكلية، ثم جاءت التحولات الجذرية مع حركة الحداثة لتعطي الحق في التفكير في حل هذا الالتباس وَفَكِّ شفرته. فقد بدأ التحلل واضحا من استثمار القوافي في القصيدة في وقت مبكر من القرن الماضي، بل كانت الدعوة إلى تَرْكِها ركيزة من ركائز هذه الحداثة ومشروعا من مشاريعها التأسيسية. في حين ظل الوزن صامدا رغم ما أصاب توظيف التفاعيل من تنويع ,ليتم بعد ذلك الإجهاز على العنصرين معا في قصيدة النثر، لما صار التمرد على الحدود الفاصلة بين الشعر والنثر مستساغا .

لقد قطع الحديث عن الوزن والقافية والإيقاع, والعلاقة بينهما، أشواطا مهمة حكمت بدخول الإيقاع شريكا للوزن، ثم تعميم الإيقاع واختزال الوزن إلى درجة تغييبه نهائيا في فترة لاحقة . وذلك في إطار التدرج في الحديث عن الشعر من وحدة الوزن والقافية إلى التنويع والاختلاف تبعا لأفول نظام الشطرين وما صاحب ذلك من توليدٍ لمصطلحات استُبْدِلَتْ بها أخرى , فقد قام السطر مقام الشطر وأصبح الحديث عن القوافي المتتالية والمُتناوبة والمتراوحة والمتباعدة ممكنا عِوَضَ التوشيح والإيغال...5. كما أصبحت الوقفة معيارا يقاس به ما يعادل البيت في النظام القديم. وأخذ الحديث عن الوقفة يتسع إلى دلالية ,نظمية ,و عروضية... ويمتد إلى مراقبة ما بين هذه الوقفات من انسجام واختلاف . كما أضحى ما كان عيبا وعاهة في الشعر القديم ,مستحسنا في القصيدة الحديثة , فكان الانحدار إلى ما لا حصر له من الإشكالات التي رافقت هذه التحولات بشكل سريع ومُطَّرِدٍ , دون الحسم فيها. إذ لا زال الكثير من القضايا على قدر كبير من الغموض والالتباس نتيجة الإغراق في الآراء الشخصية , والتمادي في الانطباعات المُنْفَلِتة من أي ضابط نظري واضح .

أمام اختلاط المستويات وعدم وضوح الحدود الفاصلة بينها , كانت الخطوة الأولى للتدرج من الوزن إلى الإيقاع الخارجي والداخلي , وجر القافية إلى هذا الأخير باعتبارها أصواتا . يقول ذ. العمري : " القافية جزء من البنية التوازنية , فمن الأجدى أن ننظر إليها نظرة شمولية باعتبارها تَرَدُّدا صوتيا في آخر الوحدات المتوازنة , منها مستوىً مُنْتَظِمٌ ومستوى حرٌّ وشبهُ حُرّ"6.
ينضاف التباس تجربة الحداثة الشعرية إلى التباس مفهوم الإيقاع وغموضه , فهذا سهم من تلك لا يقبل الوضوح ولا يحيى إلا غائما , لا سيما الجانب الذي سَمَّوْهُ داخليا, والذي لا تُعْرَفُ محدداته بشكل يُمَكِّنُ من تجسيد عند كل دراسة . فإذا كان الإيقاع الخارجي محَدَّدا سلفا بالوزن والقافية قبل سَلْبِه إياها, فإن الإيقاع الداخلي مَصْدَرٌ للالتباس . فهو مفهوم " غامض , غير أن غموضه لم يصرف الدارسين عن استعماله برغم كل البدائل المقترحة حسب التوجهات النظرية"7.

إن إصرار الدارسين على ضرورة الحديث في الإيقاع كعنصر مميز للشعر ،صادر عن الوعي بأهمية الالتزام بفكرة الأنواع الأدبية ومجافاة فكرة الكتابة التي تقلص من حجم النوع وتحد من خصوصيته وتُبارك الإدماج والتداخل بحلول نوع في آخر إلى درجة التماهي ، حتى أن الحالَّ والمحل لا تعرف حدودهما.فيُنْتِجان جنسا ثالثا وربما رابعا أو خامسا... وقصيدة النثر نموذج لذلك.

قد توضع عشرات التعاريف للشعر تحط من شأن عناصر وتُعْلي من حضور أخرى , حتى تصل إلى درجة التناقض . لكن الذي لا تناقضَ فيه و لا اختلاف هو ضرورة الإبقاء على ما يُذَكِّرُ بعنصر الإيقاع الذي هو " الملمح النوعي للشعر العربي منذ القديم ، أو على الأقل ، هو الملمح الحاضر في كل النصوص التي لم يُنازَع في شِعْرِيَّتِها ، وحين أقول: المميز ، لا أعني الكافي . بل أعني الشرط الضروري لدخول نص ما منطقة الشعر , ثم تبدأ ، التركيبات الكيميائية حوله . ويبدو، لحد الآن ،أنه عنصر غير قابل للتعويض إلا من طينته ومادته"8.
هكذا تبدو الحاجة مُلِحَّة إلى وجود إيقاع مميِّز للنص حتى يستوعب إصرار الدارسين على إدراجه في منطقة الشعر الذي تجاوز الوزن العروضي والقافية ليحتفي بعناصر أخرى اعْتُبِرَتْ بدائل لغياب العنصرين القديمين .

1-3- التوازن الصوتي بديل عن الوزن العروضي .
نتيجة لِضُمور دور الوزن والقافية في القصيدة ، بدت الحاجة ماسة إلى بدائل تعطي للحديث عن الإيقاع مشروعيته، فكان الصوت هو حبل النجاة الذي تمسك به الباحثون للإبقاء على هذا المبحث داخل الدراسات الشعرية ، بحيث أصبح الصوت مكونا مركزيا وجوهريا في الإيقاع،"مكون موسيقي صوتي ، وأقول المركزي ولا أقول الوحيد, وهذا مُبَرِّرُ نعت البنية الإيقاعية بموسيقى الشعر حينا وبالمستوى الصوتي حينا آخر ..الخ . من هنا فلا أرى من المناسب جعل العروض والقافية مساويين للإيقاع، كما يفهم من العبارات الاختزالية لبعض الباحثين حين يقولون: الإيقاع أو الوزن أو القافية أو العروض عامة. بل إن الوزن نفسه لا يعني، في تعريف المدققين من القدماء، الوزن العروضي المجرد وحده. فَقُدامة بنُ جعفر الذي طالما حمل وِزْر تعريف الشعر باعتبار الوزن. يقول: " ومن نعوت الوزن الترصيع" والترصيع مُكَوِّنٌ شعري حر "9.
وبالتالي فهو مكون عام ومشترك. يبدو هذا النص مدخلا ملائما لتوسيع دائرة الإيقاع المبنية على الصوت لتمتد إلى كل أنواع " التقسيمات النحوية التوازنية ( التوازي) داخل الأبيات ( مما يسمى ترصيعا وتطريزا وتسميطا والتي نازَعَتِ العروض سلطته ولم تترك له أكثر من تمييز الفضاء الخارجي للنص، وهو الفضاء نفسه الذي يوفر اتساق التفعيلات في القصيدة الحديثة.
فأصبحنا ، كما قال العسكري ، أمام وزن ( توازني) في وزن ( عروضي) أي أمام وزن نثري يقوم على الأسجاع والمعادلات المقولية والنحوية والتوازنات الترصيعية الصوتية داخل الأوزان العروضية"10.

لا يجد هذا التصور مرجعيته في التصور الغربي للشعر الذي اختزله رومان ياكبسون في كتابة : قضايا الشعرية 11 . بل تكمن مرجعيته الصلبة في التحققات النصية العربية , فالشعراء أمام تحللهم من إسار العروض والقافية تَلَقَّفَتْهُم التوازنات بمختلف أشكالها ، فَحَشَوا أشعارهم بها إلى درجة التُّخْمَة ، ولا يُسْتَثْنَى من هذا التوجه أصحاب قصيدة التفعيلة . فهي ظاهرة شاملة ومشتركة بين هؤلاء ، وتكاد تكون بالطريقة نفسها. نقرأ هذا المقطع البارز في قصيدة : وطني جريمة .. كل جُغْرافيتي جسد العَذارى , لإدريس المَلْياني :12.

أَنَا المُقَدَّسُ والمُدَنَّسُ والمُسَدَّسُ في الحِزامِ
أنَا التَّقِيُّ الدَّاعِرُ الوَارِعُ الدَعِيُّ الهَامِلُ البَطَلُ الهُمامُ
أَنا الوَضِيئُ أنَا الوَطِيئُ أنَا الحَكِيمُ أنا البَذِيءُ
أنا المُدانُ أنا البَرِيءُ أنا المُهانُ أَنا المُهابُ أنا المَهيبُ
أنَا الجَبانُ أنا الضَّجيجُ أنا الهُدوءُ أَنا اللَّجوجُ أَنَا
اللَّخُوخُ أَنا اللحَّوُح ُأنا الوَدودُ أنا اللَّدودُ أنا
اللَّحوسُ اللَّحْوَسُ النَّزِقُ النَّزِئُ أنا النَّسِيئُ أنَا
الهَنِيءُ أنا الدَّنِيءُ أنا الإِمامُ أنَا البَطِيءُ.

فَسَّرَ صلاح بوسريف هذا الانتظام القوي بسلطة النسق العروضي, وجعله مُؤْتَمِرًا بأمره13. غير أن لهذا الانتظام قراءة إضافية تتجاوز العلاقة بين الوزن والتوازن ، وهي أن هذه التوازنات تُلْغي سلطة الوزن العروضي ،فلا يُنْظَر إليه إلا إذا أراد القارئ معرفة ذلك . لأن الإيقاع الذي يخلقه هذا التردد , يدفع إلى إغفال الوزن . أما إذا نُظِر إليه في علاقته بالوزن , فإننا هنا نصبح أمام " وزن نثري يقوم على الأسجاع والمعادلات المقولية والنحوية والتوازنات الترصيعية الصوتية داخل الأوزان العروضية ". ويبدو أن هذا التوازن مُبالَغ فيه إلى درجة إلغاء الوزن العروضي والقافية ، وذلك بتردد مثير للقوافي الداخلية14 .
إن الملياني من أشد الشعراء إخلاصا لهذا المبدإ , بحيث يُكْثِرُ في قصائده بنية التوازي، حتى أن الحديث عن التفعيلة ودورها يصير لاغيا وغير مُجْدٍ . نقرأ له في قصيدة : الكاهنة هذين المقطعين:15.

سَيَأْتِي إلَيْكِ النَّسيمُ العَليلُ
سَتَأْتِي إلَيك الرِّيَاُح
وتَأتى إِليْك السُّيولُ
(...)
وَيَأْتي إليْكِ النَّجيعُ
ويَأتي إليك القَطِيع
ويَأْتي إِلَيْك الرُّعاةُ – الرِّعاعُ
ويأتي إِليك ِالشِّباع
ويأتي إليك الجِياع
ويَأتي إليك الصُّراخُ – الصِّياحُ
ويأْتي إليْكِ النُّواحُ
ويأتي إليكِ الأنِين
بِمَنْ تَحْتَمِين
ومَن تَتَّقِين

لقد تصرف الشاعر في البنية المجردة بمستوييها : الكمي المسطح الذي تتساوى فيه صِيَغُ : النجيع / القطيع / الرعاع/ الجياع / الأنين / النواح ... فكلها تشترك في مقابل عَروضي واحد يقوم على حركتين, سكون وحركة (//0/) . دون أي اعتبار للأداء كما أن التصرف في المستوى التعبيري لم يُفْقِدِ المفردات أي درجة من درجات فصاحته16 .
ونجد هذا الاعتناء عند شاعر آخر هو أحمد العمراوي ، لا سيما في ديوانه الأول: "مجمع الأهواء" نقرأ له في قصيدة : انشطار قوله :17.

أَلاَ لاَ لَوْنَ لِلَّوْنِ
لا جِسْمَ لِلْجِسْمِ
لا صَدْرَ لِلرُّوحِ
(...)
رَفِيقٌ ، قَريبٌ
وَدودٌ ، سَلامٌ
(...)
نارٌ عَلى الْقَلْبِ
ماءٌ علَى الجَنْبِ
نَسْغُ تُراب
قطرة ريح
(...)
نُونٌ ــ لِنَفْسٍ
سِينٌ ــ لِطَيْرٍ
هَاءٌ ـ لِنَبْتٍ
(...)
أَلفُ زَمانٍ
وَألفُ كلامٍ
وألف حَنان

ولا تخرج مليكة العاصمي عن هذه القاعدة، إذ يحفل ديوانها : "شيء له أسماء" بما لا يُحْصى من مظاهر التوازنات الصوتية .
وبالحجم نفسه تحضر هذه الظاهرة عند حسن مورصو في ديوانه: "قصائد للمعشوقة والوطن" نقرأ على سبيل المثال هذين المقطعين من قصيدة "أبواب" 18:

وَالصَّخْرُ يُلْقِي بِظِلِّك في الْبَحْرِ
والبحرُ يُلقي بطَيْفِك في لُجَّةِ القَمَر
والقَمَر مَوْعِدُنا
يا بَهِيَّة والبَحْرُ مَوْرِدُنا
يابهية والصخر مضجعنا
(...)
- الزَّيْزَفونُ الّذي يَحْجُبُ الأُفقَ عَنّا
- الزَّيْزفونُ الذِي يَسْلُبُ العِشْق مِنا
- الزيزَفُون الّذي يَسْكُبُ الحِنْقَ فِينا
وعلى الشاكلة نفسها تكتب أمل الأخضر قصيدتها : فوضى. تقول :19.
بارِجَةُ الشَّوْقِ واللَّهَبِ
بارِجة السَّوْطِ والجَلْــدِ
بارجَةُ الحّبِّ والغَضَبِ
بَارجةُ التَّيْهِ والصَّخَبِ
دُنْيَا.. نَتيهُ في غَوْرِ رَهافَتِها
نَسيلُ في صَمْتِ لُزوجَتِها
نَضيعُ في قَلْبِ لَذَاذَتِها

وقبل المرور إلى شكل آخر من أشكال التوازنات , الذي يتعدى مستوى الصيغة المفردة إلى المقطع الشعري عامة ، نختم بهذا المقطع لحسن مورصو من قصيدة: بيانات زئبقية . يقول :20 .

... الشُّعَراءُ الصَّدى، الأُمْسِياتُ , الأَغاني , النَّحيبُ ، النَّشِيجُ
الضَّجيجُ , البّكاءُ، الرِّثاءُ، العَويلُ ، الصَّهيلُ ، المَخاضُ ،الوِلادَةُ ،وَأْدُ الحَقائِقِ ، نَسْفُ العَواطِفِ ، مَوْتُ الأَمانِي ، الذِّئابُ ، الكِلابُ،
الصُّراخُ ...

وختاما لهذه الجولة في هذه الدواوين التي خصصناها لإبراز جوانب التوازن فيها على كافة المستويات، نقرأ من ديوان : "هبة الفراغ"لمحمد بنيس الذي يحقق في بعض قصائده مُعادَلَة أخرى من معادلات التوازنات . معادلة لا تكفي بأن تكون أطرافها مفرداتٍ منفردة تحقق نوعا من التوازي ، بل تطمع في المقاطع المُشَكِّلَة للقصيدة ككل . وقصيدة: "طيش" نموذج واضح لذلك . يقول :21.

لاَ تَسْأَلوه
عَنِ
المَسالِك
رُبَّما
ثَقُلَتْ عَلَيْهِ
لُيُونَةُ الأغْصانِ
في أُفُقٍ يُهَدِّدُ ُصَمْتُه
لا تَسْألوه
عنِ
المَهالِك
رُبّما
عَبَرَتْ إِلَيْهِ نِهايَةٌ
مِنْ شَوْقِه
لا تَسأَلوه
عَنِ
المَناسِك
إِنَّهُ
طَيْشٌ رَمى
بِدِمائِه
وانْقادَ لِلنِّسْيان .

ففي هذه القصيدة ينضاف إيقاع بحر الكامل الذي تتردد فيه تفعيلة "متفاعلن" دون تعديل كبير ، إلى هذا التوازي المحقق في نواحي عدة من المقاطع الثلاثة، لا سيما في مطالعها ( الأسطر الأربعة الأولى) .
يبدو أن رهان الشعراء على التوازنات، باعتبارها عنصرا تعويضيا، رهان رابح إيقاعيا، لكنه لا يشتغل بشكل فعال إلا داخل قصائد تخضع لنظام التفعيلة بمعنى أن حضورها يبرز مع التفعيلة أكثر مما يبرز داخل نماذج أخرى يكون الطابع النثري هو الموجِّه لها إيقاعيا . ولعل النماذج التي قدمناها تسير ، في جلها ، في هذا الاتجاه .

وهذا ما تنبه إليه ياكبسون حين ميز بين التوازنات في الشعر والنثر . يقول:" ليس التوازي شيئا خاصا باللغة الشعرية . إن هناك أنماطا من النثر الأدبي تتشكل وفق المبدإ المنسجم للتوازي (...)، ومهما يكن الأمر فإن هناك فارقا تراتبيا ملحوظا بين توازٍ في الشعر وبينه في النثر. ففي الشعر يكون الوزن بالضبط هو الذي يفرض بنية التوازي : البنية التطريزية للبيت في عمومه ، الوحدة النَغْمِية وتكرار البيت والأجزاء العروضية التي تكونه، تقتضي من عناصر الدلالة النحوية والمعجمية توزيعا متوازيا ، ويحظى الصوت هنا حتما بالأسبقية على الدلالة، وعلى العكس من ذلك، نجد في النثر أن الوحدات الدلالية ذات الطاقة المختلفة هي التي تُنَظِّمُ بالأساس البنيات المتوازية " 22.

لطالما دافع ياكبسون عن هذا التصور، ولطالما أصر على أن التوازي أحد أهم مقومات الشعر بشكل عام, حتى أنه كرر ذلك في موضعين من كتابه. يقول: " فالأمر يتعلق بالدور الهام الذي يلعبه توازي التعبير. لقد فهم شاعرنا أن بِنْيَةَ الشعر هي بنية التوازي المستمر "23 . ليعود في آخر الكتاب مشددا على هذه الملاحظة بقوله: " إن الجانب الزُّخْرُفي في الشعر، بل وقد لا نخطئ حين نقول كل زخرف يتلخص في مبـدإ التوازن، إن بنية الشعر هي بنية التوازي المستمر "24 .
إنه تصور واضح، تسعف التحققات النصية في تمثله وتطبيقه في حدود خصوصية كل تجربة، شريطة استجابتها للوزن ولو في حدوده الدنيا . فما موقع قصيدة النثر من هذا التصور وقد تحللت نهائيا من عنصري الوزن والقافية ؟

2- طبيعة المتن الشعري

تعتبر الظاهرة الشعرية من أبرز الظواهر الأدبية استجابة لمنطق التحول والاختلاف، وتاريخ الشعر العربي يشهد بتعدد لحظات التحول، بل باطراد منعطفات حاسمة في طبيعة القصيدة ومقوماتها .
فقد أدرك الناس الشعر مَبْنِيًّا حسب مقتضيات نظام الشطرين، وهو بناء ظل يُوَجِّه شكل القصيدة ويحدده، لأنه سابق عليها، بالرغم من الانزياحات المستمرة التي كانت تقع بالموازاة مع هذا البناء. وهي انزياحات لم يكن بوسعها خَلْخَلَةُ النظام العام لشكل القصائد، ولذلك ظلت هامشية لا اعتبار لها إلا بمعارضتها بالمركز، فهُوِيَتها كامنة في مقارنتها به. أعني أن الحديث عن هوية مستقلة لهذه الهوامش هو اعتراف بمركزيتها وإقرار بتميزها وتوجيهها للمناخ الشعري المهيمن25.

ولعل أكبر تحول شهدته القصيدة العربية هو الانزياح الشكلي الكلي الذي حققته قصيدة التفعيلة مُتَوِّجَةً حركة دَؤُوبَة ومتتالية انتعشت في بداية القرن الماضي مع ظهور الحركات الشعرية السابقة على تجربة الشعر الحر26 .فكان أن نتج شكل آخر مُفارِق لشكل القصيدة الكلاسيكية، شكلٌ يُؤَسِّسُ لِمَرْكَزِيَّةٍ جديدة لا هوامش لها لأنها منفتحة على التعدد، مُغْرِقَةٌ في المرونة والتساهل، معادية للحصر والتقنين. إذ الشكل فيها لا حق عن القصيدة .

وربما كان هذا الإطلاق هو مبرر بعض الباحثين في ربط العلاقة بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر باعتبارها تتويجا لقانون التنوع والتسَيُّب . يقول نجيب العوفي : " ومن هنا أميل شخصيا إلى اعتبار قصيدة النثر تطويرا لقصيدة التفعيلة وتنويعها عليها ، وليس إلغاءً أو إقصاء لها ، ففي مجال الإبداع لا أحد يقصي أو يلغي أحد، ولا أحد ينوب عن أحد "27. والفكرة نفسها نجدها عند باحث آخر يؤكد فيها أن فك حجم القصيدة الكلاسيكية أتاح الفرصة لإنتاج العديد من الأشكال. يقول مُشْتاق عباس مُعِنّ: " لقد بلغ التطور بالشكل الذِّرْوَة، ابتداء من فك التَّحْجِيم للشعر العمودي ومرورا بتنوع الإطار والقافية للشعر الحر وانتهاء بقصيدة النثر"28.

وتبعا لهذا التتبع لدورات الشعر الكبرى عبر منعطفاته وقطائعه الحاسمة، ننقل عن ذ العمري ترسيمة ذات طابع شمولي تسعف في تحديد طبيعة المتن الشعري مع إمكانية التعديل فيها بما يلائم مميزات هذا المتن وخصائصه 29، فكل دراسة إنما تتحدد بطبيعة المُنْجَز الشعري وهيمنته في فترة قيام دراسة ما.
الشعر←← منتظم ← قصيد وتوشيح
الشعر←← حر ← تفعيلي ونثير

2-1 مساران في الكتابة:
تستوعب هذه الترسيمة كل مسارات الكتابة الشعرية بَدْءً من القَصِيدِ وصولا إلى قصيدة النثر مرورا بالتوشيح والتفعيلي : لكن أمام اجْتِزائِيَةِ التجربة الشعرية المغربية في الفترة المحددة لهذه الدراسة يصبح من الضروري التصرف في هذه ا الترسيمة بإلغاء شِقِّها الأول ( المنتظِم)، أو تجميده إلى حين تعميم الدراسة على المشهد الشعري المغربي في فترة زمنية أطول تستجيب لتكامل أطراف هذه الترسيمة الشاملة. فقط، نُبْقي على الشق الثاني ( الحر) بشكليْه التفعيلي والنَّثير لأنهما العنصران المهيمنان في هذا المشهد. وإن كانت تجربة مصطفى الشّْليح تجعل إمكاية تشغيل الشق الأول من الترسيمة ممكنا لكن بكثير من التعديل كما سنرى .
فقد أعددنا لهذه الدراسة أكثر من عشرين ديوانا، تم تجميعها بشكل عشوائي ودون أي اعتبارات مُسْبَقَة .فقط، كان الحرص على أن تكون تواريخ النشر بعد سنة 1990. وأن تكون هذه الدواوين لشعراء ينتمون لأزمنة مختلفة، أي من فئات عمرية متباينة : ومن خلال جرد أسماء الدواوين وأصحابها وإثبات تواريخ نشرها يتضح جليا تنوع هذه التجارب ، وهي كالتالي:

- قصائد للمعشوقة والوطن لحسن مورصو(1991)
- هِبَة الفراغ لمحمد بنيس (1992).
- صَحْراءُ.. حِنّاء.. زَعْفَران لعزيزة احْضيه عمر ( شقراوي) (1993)
- كتاب الحب لمحمد بنيس (1995) .
- لا أحد في النافذة لعبد العزيز أزغاي (1997)
- شيء له أسماء لمليكة العاصمي (1997)
- مجمع الأهواء لأحمد العمراوي ( 1997) .
- حجرة وراء الأرض لمحمود عبد الغني (1998)
- عابر المرايا لمصطفى الشليح (1999) .
- وماء العراق...يشربه القصف لمصطفى الشليح ( 1999).
- تراتيل لزهر الرمان لعبد الوهاب الرامي ( 1999)
- عطر الذاكرة لعزيز الحاكمي(2000)
- الكلب الأندلسي لمحمد عزيز الحصيني (2000)
- Mannequins لياسين عدنان ( 2000)
- شجر النوم لصلاح بوسريف (2000)
- حداد علي.. لإدريس الملياني (2000)
- عزلة الزمن لسعيد أنوس (2001)
- البحر في بداية الجزر لإيمان الخطابي(2001)
- الحب والحياة لعبد الحق الحاكمي (2001)
- حرائق العشق لمحمد غرافي (2001)
- حق الصمت لبشرى برجال (2003)
- دموع قلب لسعيد وجيه (2003)
- ينابيع مائية لأحمد العمراوي (2003)

إضافة إلى عدد مهم من القصائد المنفردة المنشورة على أعمدة بعض الجرائد المغربية في السنوات الثلاث الأخيرة: لأمل الأخضر، محمد بوجبيري، مصطفى مَلَح ،أبو بكر مُتاقي، بوجمعة العوفي...
ويمكن، في البداية، تسجيل الملاحظات التالية بخصوص هذه التجارب:
أ‌- تحرر أغلبها من إِسار الوزن والقافية وإعلانها الوَلاء الُّصراح لقصيدة النثر. من ذلك : حجرة وراء الأرض ، لا أحد في النافدة Mannequins
ب‌- إصرار بعض الشعراء على تقديم دواوينهم بكلمات تتناول بعض القضايا المتصلة بكتابة الشعر: أعني : كتاب الحب ، الحب والحياة، حق الصمت: مع الإشارة إلى ظاهرة الإهداءات على رأس القصائد في الكثير من الدواوين.
ج‌- اختلاف توجهات الشعراء ومشاربهم الثقافية ومستوياتهم، إذ منهم المثقف على أعلى مستوى ومنهم ذو الثقافة المتوسطة، ومنهم المحامي( بشرى برجال)، والمهندس( عبد الحق الحاكمي). والأستاذ الجامعي( بنيس، الشليح) ومنهم الذي لا مهنة له سوى شواهد من جامعات مختلفة ( مصطفى ملح) ومنهم الذي يكتب خارج الحدود( محمد غرافي).
د‌- إخلاص بعض التجارب لقصيدة التفعيلة : وأخص بالذكر تجربة بنيس والملياني وبصورة أوضح وأقوى مصطفى الشليح الذي يسمح شعره بإعادة انتظامه على شكل الشطرين المتساويين كميا .
هـ- اختلاف التحققات النصية لهذه التجارب من حيث نَفَسُها القصير أو الطويل، فهي تتوزع بين هذين النَّفَسَين إلى درجة المُفارقة التامة : فقد وقفنا في " بنية اللغة" على تجربة سعيد وجيه وإيمان الخطابي التي تُوثِر النفَس القصير، وعلى النقيض منها تماما تأتي تجربة أحمد العمراوي لا سيما ديوانه: ينابيع مائية ، الذي هو قصيدة واحدة طويلة جدا تمتد على مساحة 120 صفحة. وبينهما تجربة بنيس في: كتاب الحب, ومصطفى الشليح في : وماء العراق .. يشربه القصف .

2-1-1 تغليب النثيرة.
يكاد يكون توجه الشعراء نحو قصيدة النثر هو الغالب ، وهذا واقع لا مِراء فيه ولا حاجة إلى إنكاره مهما حاولت بعض التجارب الصمود في وجه هذا الاجتياح. فقد اكتسحت قصيدة النثر ساحة الكتابة ، وأُجْبِرَتْ قصيدة التفعيلة على التَّواري والرجوع إلى الخلف راضية بِتَقْزِيمِ إمبراطوريتها وتفتيتها بعد أن كانت سيادتها شِبْهَ كاملة على ساحة الإبداع قرابة نصف قرن، ففي الوقت الذي كانت فيه هذه القصيدة تحتل المركز بعد ضُمور الشعر المنتظم بِشِقَّيْه، وجدت نفسها الآن مدفوعة إلى الزاوية الحادة حتى أنها صارت هامشية لا قيمة لها ولا مركز. ويبدو أن هذه النهاية أمر طبيعي لكل تجربة لم تُحَصِّنْ نفسها من الناحية الشكلية ، أي لم تضع حدودا مميزة لها عن باقي التجارب، ولذلك فنهايتها كانت مرسومة في ولادتها لما دشنت مشروعها التأسيسي على هدم الشكل الكلاسيكي للقصيدة ، وانفتاحها الَّلامشروط على كل الأشكال. وبذلك كانت تحمل كل جِنات الموت في طياتها لأنها لم تعمل على تقديم بديل حقيقي ( محصن) للشكل الشعري القديم ، تُعْرَفُ له حدود يجب الذَّوْدُ عنها من أي غزو محتمل يترصدها من أشكال أخرى منافسة .

لقد بَيَّنَ اختبار التجارب الشعرية المرصودة أن استجابتها للطابع النثري أكثر وضوحا من إخلاصها للتفعيلة ،وهي نماذج مصغرة لمشهد شعري مغربي كبير سَلَّمَ زمام قيادته لهذا الشكل من الكتابة منذ الثمانينات : يقول ذ. العوفي : " قصيدة النثر، ظاهرة إبداعية قائمة ومهيمنة على المشهد الشعري العربي من محيطيه إلى خليجه. إنها أمر واقع . والواقع لا يرتفع ولا سبيل إلى نكرانه أو تجاوزه أو التنصل منه.
لقد أصبحت ملاذا ومُنْتَجَعا لكل شاعر ، وطريقة أثيرة يسيرة للقول الشعري . سيما في العقود الثلاثة الأخيرة التي تلت ازدهار وانتشار قصيدة التفعيلة (..) وفي المغرب ، يمكن اعتبار عقد الثمانينات من القرن الآفل ، هو السياق الزمني الذي ازدهرت فيه قصيدة النثر ، وغمرت المشهد الشعري على نحو لافت حيث تكاثرت من حولها الدِّلاءُ والأسماء (...) من حيث تراجعت نسبيا قصيدة التفعيلة وانحصرت كتابتها في مجال محدود ولدى مبدعين معدودين "30.

ومع هذا الحضور لم يجد الباحثون بُدّا من الاعتراف بأن الرهان موصول عليها لإشراقة شعرية جديدة ، لكن هل تملك لذلك آليات مسعفة ؟
لقد رافقت هذه القصيدة عدة إشكاليات أبرزها ما يتعلق بالمعنى والإيقاع . فحينما بدا الحديث عن الإيقاع مستعصيا وجاحدا في هذه القصيدة ، بدأ التماس البدائل لهذا الغياب الشكلي ، فكان أن شَرَعَ البعض في تمهيد الطريق لأن يحل المعنى محل الإيقاع كبديل مُنْتِجٍ ومُنقِذ من أزمة أفول الإيقاع ، لكن الذي ظهر للعارفين بخبايا الشعر ومقوماته هو أن هذا البديل غير ممكن ، على الأقل ، مع هذه التجارب الجديدة ، يقول ذ. محمد العمري : " يلتقي بعض الدارسين صراحة وضمنا حول القول بالتعويض الدلالي لِما ضاع من المُقَوِّم الإيقاعي . والذي يبدو لحد الآن هو أن التعويض الكمي واقعة لا غبار عليها (...)، أما إذا قُصِدَ التعويض النوعي ، فإن لم يكن نثرا شعريا كنثر جبران والريحاني ومن على شاكلتهم فسيتعلق الأمر بِمولودٍ نُسَمِّيه حين يستصرخ " 31 .

إن هذا الرأي ليس من قبيل الرجم بالغيب ، أو من قبيل الاستهواء وتغليب الظن والتخمين ، وإنما هو رأي مُسْنَدٌ بعمل دقيق كانت النصوص الشعرية القديمة والحديثة مادته ، إنه رأي صادر عن معرفة بخبايا أدق مقومات الشعر وحدوده، جاء ليضع حدا للفوضى والالتباس الذي بدأت تتسرب منه نصوص نقدية موازية للنصوص الشعرية تتحدث بإطلاق عن إيقاعها ، وبكثير من التعميم غير القابل للتجسد ولا يصمد أمام اختبار النصوص، بحيث يحس الباحث بمفارقة عجيبة بين ما تُقِرُّهُ النصوص الشعرية وما تأمله هذه الآراء النقدية . تقول رجاء عيد: " إن كسر الإيقاع يتيح تجاوز رتابته في تواليه النمطي، حيث ينطلق الإيقاع ، في القصيدة الجديدة ، من داخل القصيدة ويمتد في فاعلية تشكيلها ، وفي حركية مسارها، و إيقاع باطن يحوم على كون الكلمات وكينونة الأداء"32.
وهو ما دفع بالأستاذ العوفي إلى فتح أبواب الانتقاد اللاذع لهذه القصيدة وممثليها يقول: " ليس لقصيدة النثر قوانين بصرية، مكانية تلتزم بها، كما ليس لها قوانين إيقاعية، زمانية تلتزم بها . إنها أُفُق مفتوح ومتحرك ومتحول ، وهذه نقطة قوتها وضعفها في آن "33.

وَلِلَمْلَمَة جوانب ضعفها المعلومة والكامنة في الإيقاع بالخصوص ، دون أن ننسى باقي المستويات ، بدأ الحديث في الإيقاع الداخلي أثيرا ، لأنه يعفى بالتباسه من الإحراج ، ويمنح إمكانية الهروب من المُساءلة العلمية . يقول ذ. العوفي "كل الأجناس الأدبية لها إيقاعها الخاص ، منتظِما أو غير منتظم ، وإلا لَتَعَذَّر تحديدها وتجنيسها كأنواع أدبية ، لكن مع قصيدة النثر ، يبدو الأمر مختلفا وصعبا وشائكا ، فتعبير " الإيقاع الداخلي" الذي يتوكأ عليه أصحاب قصيدة النثر ، تعبير مراوغ وزِئْبَقِي من الصعب القبض عليه وتحديده وتوصيفه توصيفا موضوعيا ، شيء " يُشَمُّ ولا يُفْرَك " ، كما يقول النُّحاةُ عن عِلَلِهِم الخفية الواهية " 34.
لا مفر من الاعتراف بهذه الحقيقة الجارحة ، ولا مَنْدوحة من ترديدها أمام من يصر على وجود إيقاع في قصيدة النثر قابل للمراقبة والدراسة سواء غالطت الناس بشكلها الذي يقترب من قصيدة التفعيلة، بل يماهيها ، أو شكلها النثري الصريح وهو ما سنقف عنده حالا .

أ- تَمَثُّلُ التفعيلة :
التجأ الشعراء إلى الكتابة في قصيدة النثر بطريقتين مختلفتين إما بشكل مستقل أو بالجمع بينهما ، تتجلى الطريقة الأولى في استنساخ شكل قصيدة التفعيلة بحذافره ،أي الكتابة على شكل أسطر مختلفة في الطول والقصر مع ترك البياضات والفراغات ، تماما كما يفعل أصحاب التفعيلة ، وطبعا يكون التحلل من القافية كاملا .
والنصوص المكتوبة بهذه الطريقة كثيرة جدا لا يكاد يخلو منها ديوان من دواوين الشعراء الذين يسلكون مسلك النثيرة ، نُمَثِّل لها بنموذجين لشاعرين مع الإشارة إلى إمكانية تعميم هذا التوجه على أغلب شعراء قصيدة النثر. نقرأ في ديوان :Mannequins لياسين عدنان هذا النص : 35

هَكَذا هُمُ الشُّعراءْ
تُحِبُّهُمْ بَناتٌ أَقَلّ جَمالا
مِنْ عَشيقاتِ المُغَنِّين
وَنُجومِ كُرة القَدَم
لا تَأْبَهُ بِهِمْ سِكْرتِيراتُ الدَّواوين
وَتَسْتَثْقِلُهُم مُذيعاتُ القَناةِ الأُولى
حَتَّى بَّارْميطاتِ الحَانات الرَّخيصَة
غالِبا ما يُلَبِّين نَبيذَهُم بِضَجَر

يوحي هذا التوزيع بأن الشاعر ملتزم بمقتضيات قصيدة التفعيلة ، غير أن لا شيء من ذلك موجود ، فلا وزن ولا قافية ، وحده التقطيع العشوائي متحكم في هذا النص ، جمل متناثرة في مساحة تحددها رغبة الشاعر.
كل ما يُحْسَب للشاعر تحسره على حال الشعراء الذين هَوَتْ بهم ظروفهم إلى أرذل المقامات، وإن كان هذا التحسر فاقدا لجمالية التعبير، مُغْرِقا في التقريرية الجافة التي تُساوي بين قول الشعر وقول عامة الناس. وهذه سِمَة الديوان ككل.
ومثله قول عبد العزيز أزغاي في قصيدته : العالم يكاد :36

حالَتُكَ سَيِّئَـة
الأمْرُ يُشْبِهُ – عَنْ غَيْرِ قَصْد –
خَطَأً بُيُولُوجِيًّا يُفَكِّرُ هُو الآخَر في نُزْهَة الآحادِ
وَفي الهَواءِ الَّذي يَكْفي لِمُداعَبَـة .
أَرَقِّ القُمْصــان
ويستمر هذا التوزيع حتى آخر النص:
سَيِّئَةٌ حالَتُك لِلْغابَة
والعالَمُ مِنْ حولِك
يَكاد !

فبالرغم من شكل هذين المقطعين اللذين يُوهمان بالاقتراب من قصيدة التفعيلة ، فإنهما يتميزان بطابعهما النثري المتحرر من كل الضوابط الإيقاعية ، فلا اهتمام بالتفعيلة ولا التفاتٌ إلى القافية ومالهما من دلالة في النص . بل إن المصيبة تصبح مضاعفة حين يحكم الشاعر على المعنى، المراهن عليه كعنصر تعويضي للإيقاع، بالموت والإجهاز التام .
هذا إذن ملمح من ملامح كتابة قصيدة النثر ، وبالموازاة معه يوجد ملمح آخر يُلْغي بشكل نهائي هذا التماهي مع قصيدة التفعيلة وينصرف إلى النثر الصراح الذي لا فراغ ولا بياض فيه بين الجمل .

ب – مجافاة التفعيلة:
ينهض إلى جانب الملمح الأول ، ملمح ثانٍ يقدم نفسه على شكل نثر صريح لا مجال للتفكير في درجات اقترابه أو ابتعاده من القصيدة الشعرية . ملمح يُعفي الناظر إليه من استنفار معرفته بمقومات الجنس الأدبي للبحث عن الخصوصيات .
إنه شكل مُفارِق تماما لشكل القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة ، بل غالبا ما يحس القارئ أنه أمام أجزاء من خواطر أو روايات أو قصص، وإن كانت هذه أكثر شاعرية وأوضح معنى في كثير من الأحيان من طلاسيم قصيدة النثر التي أطال روادها الحديث عن البدائل دون الاستقرار على رأي .
ويعتبر ديوان "حُجرة وراء الأرض" لمحمود عبد الغني مثالا بارزا يغني عن التوسع في الحديث في غيره . يقول في قصيدة : الحب يحذف الكتابة37.

تَبْدأ القَضِيَّةُ مِن كُلِّ نَظْرةٍ إلى اسْتِغْراق
وبَعْدما نَرْمي الُّلغَةَ تَفْقِدُ الأراضِي شَجاعَتَها
وَيَهْتدي المَوْتُ إلى اليَقَظَة . في مُنْتَصَف
كُلِّ سَهْرَةٍ تُقيمُها العائِلة ، نَتَعَرَّفُ علَى الشُّطَّار
لا نَرْفَعُ أعْيُنَنا عَنْهُم كَيْ يَنْضُجوا قَبْلَ الأَوان.

إن الحديث في طريقة كتابة النص يصبح مكرورا ، فنحن نعلم أنه مكتوب طباعا على شكل نص نثري ، تأخذ الجُمل بِنواصي بعضها البعض في استرسالٍ واطِّراد دون مساحات فارغة تُلْجِمُ هذا التتابع المُمِلّ .
بينما يعد البحث عن المعنى كالبحث عن أسباب " مَرَضِ الوهم" . لا تجد له طرفا لتمسك به كي يوصلك إلى شيء ما، فهو موجود في كل مكان ولا مكان له . وهذه مصيبة إضافية حلت بالشعر يوم فَرَّطَتِ الأمة في كل مقوماتها ، وسَلَّمَتْ أن زمن امرئ القيس وأبي تمام والمتنبي ، وربما بدر شاكر السياب والمجاطي وَلَّى بدون رِجْعَة ، يوم أدركت أنه لا قيمة ولا معنى لوجودها في زمن تجاوزها بكثير .
وأشد من كل هذا وذاك ، هذا المقطع من قصيدة : بِقَسْوَةٍ يتَهَجَّوْن أفعال الحب ، بعنوان : "مِيسْيو غيشاغْ مُكَرر":38

الرَّجُل الذي صَفَعَتْه الحَربُ في النَّوم ، الَّذي يَجْلِس كُلَّ الوقْتِ في
بَهْوِ حديقَتِه البُّورنوغْرافِيَّة ، الّذي زَوْجَتُه " مِيسْزْ" سَقَطَتْ
مُنْذُ الماضي في مَطْبَخ الإِشاعات .. ما الذي جاءَ بِهِ إلى هَذِهِ الصَّحْراء ؟
تَعْلَمُ السَّيِّدةُ " جُوسْلين" الغَجَرِيَّة اللَّعوب الَّتي تَعْشَقُ الرِّهانَ عَلى
الخُيولِ العَربِيَّة في الصَّقيعِ أَنَّ جارَها الحَيَوان لَمْ يَمُتْ قَطُّ في أَرْشيفِ
البَحْرِ الأَحْمَرِ والَّذي بَكَى بِالأَمْسِ عَمودَ الشِّعْر والمُتَنَبِّي وَمَلاهِي
بَيْرُوت القُصْوى هُو نَفْسُه الَّذي إسْمُه في فَهْرَسِ أُورُبَّا اليَوْم " مِيسْيو
غيشاغ" بالفَرَنْسِي الفَصيح !
فَلِماذا إِذَنْ يُتَّهَمُ الحَرْبُ بالْبِغَاء
الرَّجُل الّذي يَجْلِسُ كُلّ الوَقْت في بَهْوِ حديقَتِه البُّورْنُوغْرافية
ويَبْكي مِثْلَ تِمْساحٍ أَليفٍ صَديقَتُه كالِيغُولاَ
الَّتِي قَتَلَها فَقْرُ الجِنْسِ ؟

ماذا قال ؟ وأية رسالة حملها هذا النص الطويل العريض "المتمرد"؟! وعن أي إيقاع أو لغة يمكننا الحديث فيهما ؟ لا أدري! كل ما أستطيع قوله هو أن وقوع الشعر في يد هؤلاء يعني جره إلى الخراب والموت بدون شك وعبر كل الأبواب.

ج- الجمع بين الشكلين
تُصِرُّ قصيدة النثر على حقها في الانتماء إلى دائرة الشعر ، والأكيد أن هذه الدائرة تَسَعُ كل ما يَمُتُّ بِصِلَةٍ لها ، بينهما تضيق على ما دون ذلك، ولهذه القصيدة حق الإنتماء ما اعتنت بلغتها تصويرا ومعناها وضوحا..
أمام هذا، يبدو لي، على الأقل في مستوى الشكل ، أن جمع الشعراء بين مقاطع نثرية وأخرى شعرية في القصيدة نفسها انسجام مع طبيعة التسمية وتجاوز للإشكالات التي يُوقع فيها الجمع بين متنافرين على مستوى المفهوم. وربما وعى الشعراء هذه الحقيقة ، فاتجهوا إلى المجاورة بين النمطين حيث الشكل شعرا والروح نثرا ، هذا إذا لم نقل شكلا بلا روح ولا معنى .
ويمثل ديوانا: "لا أحد في النافذة "لأزغاي و"قصائد للمعشوقة والوطن" لحسن مورصو ، نموذجا مثاليا لهذا التزاوج المثير. يقول أزغاي في قصيدة: خَميس المَلائِكَة :39.

الكائِنُ الذي يَلْحَسُ النَّادِلَ بِعَيْنَيْنِ قارِصَتَيْن لَيْس هُو نَفْسُه
مَنْ يَدْعو الوَصيفَةَ الَّتي في الطَّابَقِ الخامِسِ يَسارًا عَبْرَ هاتِفِ
الشَّاي:
- ألُو 732
- نَعَمْ أُسْتَاذ
- هَلْ لَدَيْكَ ما يُطْفِئُ الحريق الّذي سَقَطَ في حُبِّ رصيدِ البَنْكِ .
- لَكِنْ أُسْتاذ..
- طَيِّبْ.. لاَ عَلَيْك، الْمَطْلوبُ رَأْسُ صاحِبِ الشُّقَّة الَّذي يَكْتَري بَرْقَ المَلائِكَةِ...
أَقْصِدُ
أُريدُ فَقَط مَنْ يَدُلَّني عَلى أقْرَب نِسْيانٍ بالتَّقْسْيط المُريح
وَعَلى كُلِّ حالٍ
شُكْرا لِخَميس المَلائِكًة

تذكرنا لفظة " على كل حال" بكلمة" ما الفرق" التي صَنَّفَ من خلالها أبو العباس بيت ابْنِ النحوي بأنه قول فقيه .
وهذا أهون وجوه النشاز في هذه القصيدة ، وأعلى منه، الشكل الذي كُتِبَتْ به. إنه كلام نثري تقريري يتوسطه حوار لا معنى له . إنها محاولة لقلب المعطى الأدبي المشهور بِتَخَلُّلِ لحظات شعرية رائعة لروايات وقصص ومقالات نقدية ، لكنها محاولة غير مضمونة العواقب . أضف إلى كل ذلك، الغُصَّة التي يستشعرها القارئ وهو يحاول فك هذه الألغاز ، وتلك الأرقام المُطَلْسَمة التي لم يكلف الشاعر نفسه كتابتها بالحروف.
وعلى المنوال نفسه كتب حسن مورصو جزء كبيرا من ديوانه. نقرأ له من قصيدة : أبواب40.

.. ومالِحَةٌ قِصَّتي، مالِحٌ لَيْلِي المُتَراخي عَلى كَتِفي، أَحْرُفُ اللَّيْلِ مالِحَةٌ،
مَالِحٌ عِشْقي المُتَرَهِّل، مالِحَة كَلِماتي، المَسافاتُ مالحَةٌ، وَطَني مالِحٌ،
زَمَني مالِحٌ ، يا ابْتِسامَةَ أمِّي الِّتي شَرَّدَتْنٍِي
أَيَحْيى الَّذي ماتَ ما بَيْنَ دَمْعٍ وصَمْتٍ ....؟
فَاسْأَلِينِي عنِ الّليْل وَالخَيْل وَالصَّحراءِ التِي ضَيَّعَتْنِي طَويلا
وامْسَحي عَنْ جَبينِكِ لَوْنَ القَدَر .
واسْتَريحي عَلى راحَتِه قَليلا
لا تَعْشَقِيني .. فَقَدْ يَعْشَقُ الَّليْلُ آخِرَ أُغْنِيَّةٍ في دَمي
يا ابْتِسامَةَ أُمِّي
تَنام المَدينَةُ ما بَيْنَنا
ونَحْنُ عَشيقانِ خَلْفَ الصُّوَر
تَنامُ وَتَأْتِيني فاتِحَةً لِلنُّبُوءَاتِ
تَأْتِينا مُثْقَلَةً بالقَصائِد
لَيْتَكِ تَمْضِين
تَنْسَيْن
تُخْفِين خَلْفَ ابْتِسامَتِكِ المُسْتعارَة مَسْخَرَةَ الشُّعَراء!

هذه ، إذن هي قصيدة النثر، في نظر هؤلاء، تستبيح كل المقدسات في الشعر ، كالكارثة تأتي على كل شيء جميل ليظهر قُبْحُها حُسْنا في نظر المُطَّهدين والضِّعاف ."لقد أصبحت مَطِيَّةً ذَلولا ومتاعا مُشاعا لكل من هَبَّ ودَبَّ من أنْصاف وأَرْباع الشعراء وَمُفْلِسِيهِم وعاطِليهم : وهذا باب مُشْرَعٌ على فوضى إبداعية ورياح متلاطمة غيْرِ لَواقِح "41.
وفي السياق نفسه نسوق آخر مثال من قصيدة محمد بوجبيري : "مفردا.. يأتي المحيط". يقول:42

لَنْ نَذْهَبَ إِلاّ لِلَّذي فِينا
حَيَواتُنا السَّابِقَة سَفَرًا مَيْمونا في الخَساراتِ
بِهَذا المُعَطَّل في الجُسورِ وَحْدَهُ يُعِدُّ العُبور
لَنْ نَذْهَبَ..
لأَنَّ الطُّمأْنِينَةَ لم يَعُدْ يَعْنيها أَنْ تُسْنِدَ ذاتَها عَلى فِراشِ أُوزُنْبُو، لَمْ يَعُدْ
يَعْنِيها غَيْرُ مُدُنِها الأُخْرى ، وَهي تَنْأى أَوْ تَنام. لَمْ يَعُدْ يَعْنيها أنْ تَكونَ
في المَاء أو يَابِسَةً
وتستمر القصيدة على هذه الشاكلة حتى المقطع الأخير الذي يعود فيه الشاعر إلى شكل قصيدة التفعيلة كما بدأها. يقول:
تَنْأى الطَّريقُ،
وَمُفْرَدَةً تَأْتي مِنْ أَعَالِيها الشَّآن
ذَاتُ الظِّلِّ،
وَمَا يَلي ، أَحْراشا تَأْوي إِقامَتَه المَكِينة.
حِين عَلِمَتِ الأرْضُ ، بِأَنَّ النَّدَى هَرَبَتْ مِنْهُ الصَّباحَاتُ
اسْتَدارَتْ واسْتَبْرَكَتْ بِأَنَّها كانَتْ لا تَدور .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى