عزيزي أحمد
لا أدري اذا كان أحد يعرف أني مسجون في سجن "معسياهو" منذ يوم الخميس، فالاتصال مقطوع بالطبع، بيني وبين العالم خارج الأسلاك والجدران، ومنذ خمسة أيام لم أسمع أخبارا ولم أقرأ صحفا، ولا يصلني شيء من أخبار العالم، نمت ليلة واحدة في سجن عكا لعلها من أسوأ ليالي عمري، وقد منعني منظر الطعام الذي قدموه لي من الاقتراب منه، شبعت قرفا! وفي الليل اضطررت الى خلع ملابسي لعلني أغري النوم بمعانقتي ساعة واحدة على الاقل! وفي الساعة الخامسة من صباح اليوم التالي أيقظني البوليس.. لم اغسل وجهي لاني لا أحمل منشفة تنشف الماء والعرق! وضعوا سلسلة حديدية حول زندي.. ونقلوني مقيدا الى " الجلمة".. بقيت هناك أربعة أيام، لم أحلق ذقني و لم أغسل أسناني ، ولم أقرأ الا كتابا واحدا سمح لي بادخاله معي هو كتاب "همس الجنون" لنجيب محفوظ، - بالمناسبة لم يعجبني
يوم الخميس ظهرا، نقلوني مع عشرات السجناء بزنزانة متجولة الى هنا.. " معسياهو " ولعل هذا السفر حتى الآن على الأقل، أتعس سفر في حياتي .. حيث يربط كل سجينين بسلسلة واحدة.. ويتساوى القاتل والسارق والمجرم والعرص والشاعر؟!
كنت أتصور على ضوء ما قيل لي عن هذا السجن، أني سأكون في كيبوتس. أوهام! اخذوا ملابسي المدنية، وأعطوني ملابس خاصة بالسجن ليست على قياسي بالطبع، وحذاء كبيرا يرغمني على المشي ببطء وصعوبة. باختصار ان منظري في بدلتي الآن قد يثير الحزن أكثر من السخرية، ولكن أحاول، بدافع الكبرياء، أن أسخر أكثر مما أحزن، لا أدري لماذا تذكرت هيئة تشارلي شابلن في فيلم الأزمنة الحديثة!!
هنا أستطيع أن أسمع الأخبار من صوت اسرائيل باللغة العبرية بواسطة مكبر الصوت، وأستطيع قراءة بعض الصحف، واقطع الوقت بالقراءة، فقد سمحوا لي بادخال جميع الكتب والأدوات الخاصة. الطعام نظيف وجيد ولكن النوم متعب، وأسوأ ما في الأمر أن الظروف تحول دوني ودون الكتابة. حتى الآن لم أكتب الا هذه الرسالة، وأنا أجلس القرفصاء وصيحات السجناء من حولي. ولكني أفكر كثيرا وعميقا، وأحيانا أغرق في التفكير خاصة حين أودع الشمس الغاربة، بالمناسبة لأول مرة أشهد ميلاد الشمس لأنني أفيق باكرا!
أشتاق اليكم كثيرا كثيرا.. وكل شيء صغير عندكم يحمل الآن معنى كبيرا كبيرا، لاأستطيع الا أن أقول لكم اني أحبكم أكبر حب، وان كل هذا الاعتراف لا لزوم له! وشوقي للبيت يفوق كل حد، وأتصور أن عودتي اليكم بعد 54 يوما سيكون عيدي الأول تموت أمامه جميع " أعيادي" التي أراها الآن في غاية التفاهة. طمئنوا سهام أن ديونها ستسدد حال عودتي مع الفائـدة! وأرجو من أحدكم أن يسافر الى حيفا ويتصل بتوفيق فياض وسائر الأصدقاء والزملاء ويعتذر لهم عن عدم كتابتي لهم، لأنه لا يسمح لي بكتابة أكثر من رسالة كل أسبوعين. أخبروا الجميع أن أجمل هدية تصلني هي الرسائل، فأرجو ان يكتبوا لي
لدي الكثير مما أقول، فلنرجئه الى مناسبة أخرى، وتحيات قلبية الى جميع الأهل والاقارب والجيران والأصدقاء، لا أستطيع أن اعدد أسماء الجميع، لأن الأمر يحتاج الى كتاب كبير جدا.
ملاحظة الزيارة مرة في الأسبوعين
والى اللقاء
محمود
تموز65
---------------------
* المصدر: جريدة أخبار الأدب المصرية
مشاهدة المرفق 12 .
لا أدري اذا كان أحد يعرف أني مسجون في سجن "معسياهو" منذ يوم الخميس، فالاتصال مقطوع بالطبع، بيني وبين العالم خارج الأسلاك والجدران، ومنذ خمسة أيام لم أسمع أخبارا ولم أقرأ صحفا، ولا يصلني شيء من أخبار العالم، نمت ليلة واحدة في سجن عكا لعلها من أسوأ ليالي عمري، وقد منعني منظر الطعام الذي قدموه لي من الاقتراب منه، شبعت قرفا! وفي الليل اضطررت الى خلع ملابسي لعلني أغري النوم بمعانقتي ساعة واحدة على الاقل! وفي الساعة الخامسة من صباح اليوم التالي أيقظني البوليس.. لم اغسل وجهي لاني لا أحمل منشفة تنشف الماء والعرق! وضعوا سلسلة حديدية حول زندي.. ونقلوني مقيدا الى " الجلمة".. بقيت هناك أربعة أيام، لم أحلق ذقني و لم أغسل أسناني ، ولم أقرأ الا كتابا واحدا سمح لي بادخاله معي هو كتاب "همس الجنون" لنجيب محفوظ، - بالمناسبة لم يعجبني
يوم الخميس ظهرا، نقلوني مع عشرات السجناء بزنزانة متجولة الى هنا.. " معسياهو " ولعل هذا السفر حتى الآن على الأقل، أتعس سفر في حياتي .. حيث يربط كل سجينين بسلسلة واحدة.. ويتساوى القاتل والسارق والمجرم والعرص والشاعر؟!
كنت أتصور على ضوء ما قيل لي عن هذا السجن، أني سأكون في كيبوتس. أوهام! اخذوا ملابسي المدنية، وأعطوني ملابس خاصة بالسجن ليست على قياسي بالطبع، وحذاء كبيرا يرغمني على المشي ببطء وصعوبة. باختصار ان منظري في بدلتي الآن قد يثير الحزن أكثر من السخرية، ولكن أحاول، بدافع الكبرياء، أن أسخر أكثر مما أحزن، لا أدري لماذا تذكرت هيئة تشارلي شابلن في فيلم الأزمنة الحديثة!!
هنا أستطيع أن أسمع الأخبار من صوت اسرائيل باللغة العبرية بواسطة مكبر الصوت، وأستطيع قراءة بعض الصحف، واقطع الوقت بالقراءة، فقد سمحوا لي بادخال جميع الكتب والأدوات الخاصة. الطعام نظيف وجيد ولكن النوم متعب، وأسوأ ما في الأمر أن الظروف تحول دوني ودون الكتابة. حتى الآن لم أكتب الا هذه الرسالة، وأنا أجلس القرفصاء وصيحات السجناء من حولي. ولكني أفكر كثيرا وعميقا، وأحيانا أغرق في التفكير خاصة حين أودع الشمس الغاربة، بالمناسبة لأول مرة أشهد ميلاد الشمس لأنني أفيق باكرا!
أشتاق اليكم كثيرا كثيرا.. وكل شيء صغير عندكم يحمل الآن معنى كبيرا كبيرا، لاأستطيع الا أن أقول لكم اني أحبكم أكبر حب، وان كل هذا الاعتراف لا لزوم له! وشوقي للبيت يفوق كل حد، وأتصور أن عودتي اليكم بعد 54 يوما سيكون عيدي الأول تموت أمامه جميع " أعيادي" التي أراها الآن في غاية التفاهة. طمئنوا سهام أن ديونها ستسدد حال عودتي مع الفائـدة! وأرجو من أحدكم أن يسافر الى حيفا ويتصل بتوفيق فياض وسائر الأصدقاء والزملاء ويعتذر لهم عن عدم كتابتي لهم، لأنه لا يسمح لي بكتابة أكثر من رسالة كل أسبوعين. أخبروا الجميع أن أجمل هدية تصلني هي الرسائل، فأرجو ان يكتبوا لي
لدي الكثير مما أقول، فلنرجئه الى مناسبة أخرى، وتحيات قلبية الى جميع الأهل والاقارب والجيران والأصدقاء، لا أستطيع أن اعدد أسماء الجميع، لأن الأمر يحتاج الى كتاب كبير جدا.
ملاحظة الزيارة مرة في الأسبوعين
والى اللقاء
محمود
تموز65
---------------------
* المصدر: جريدة أخبار الأدب المصرية
مشاهدة المرفق 12 .