أدب السيرة الذاتية ابراهيم الحجري - استنطاق السيرة الذاتية روائياً

لقد تعوَّدنا أن يكتب الروائي سيرته الذاتية بالشكل المتعارَف عليه كرونولوجياً، حيث ينتدب لذلك راوياً يتكلم بضمير المتكلِّم عن شخصية تحيل، وفق جميع المعايير والمؤشرات، على المسار الحياتي للكاتب نفسه، بحيث يضع رهن إشارة رواته المفردين أو المتعدِّدين بياناته الشخصية الكاملة، ثم يترك لهم حرية التصرُّف في هاته المادة، ويقف في الخلفية مراقباً كيفية انتقاء هذه المادة وتوزيعها على البرنامج السردي. لكنه من حين إلى آخر يتدخل في هذه المادة حذفاً وتعديلاً وتفخيماً أو تضئيلاً بما يجعل العمل يخضع للتصوُّر الفني للعمل الأدبي. كما أنه أحياناً يضع على هرم الحكي راوياً بضمير المتكلم يتكلّم على شخصية قريبة منه تشارك في الحدث أو لا تشارك، لكن الحكي يكون منصبّاً عليها. وفي هاته الحالة يكون الراوي والكاتب الفعلي معاً متحرِّرَين أكثر وجريئين في كشف غطاء الحدث والشخصية.

أما في «وصية هابيل» التي أصر داغر على نعتها بالعمل الروائي، فقد انتهج لها في استعراض محكيه السيري مسلكاً مخالفاً تماماً لما يقع عادة. فالمادة السيرية هنا ارتأت أن تتَّخذ لنفسها شكل التحقيق البوليسي المتطوِّر حيث يستغرق الرواة وقتاً طويلاً في البحث عن المعلومة المتعلِّقة بالشخصية المتحدَّث عنها في النص الروائي، وهي قريبة جداً - حَدّ التطابق - مع شخصية الكاتب. حيث يتتبع راوٍ- شخصية حياة المبحوث عنه بضراوة مقتفياً كل المسالك التي تؤدّي إلى معرفة بقعة من بقاع حياته المتدفِّقة والغريبة. إذ يعمد إلى مشافهة أصدقائه وأفراد عائلته وكل من كان يتردَّد عليهم من سكان الحيّ القديم الذي ترعرع فيه، مستفسراً منهم عن سرّ غيابه المفاجئ.

يستند الروائي في تحقيق التحوّل على مستوى الصوغ الفني والخطابي وكذا على الانتقال من وضع سردي إلى آخر عن طريق تقنية الحوار التي تهيمن بشكل كبير إلى درجة أن السرد والوصف يغيبان معاً. وهذا الرهان ليس سهلاً بالنسبة لكاتب تعوَّد ارتياد التصوير الشعري الذي يتماهى مع اللغة والمجازات والغور الذاتي في التجربة، حيث كان عليه أن يجتهد ليقول الحوار كل شيء: دواخل الشخوص وانفعالاتهم واعترافاتهم، التحول على مستوى الأحداث والأفعال، أوصاف الشخوص وملامحهم، تحولات الخطاب.

تستعير الرواية السيرذاتية أسماء شخوص قديمة ذكرتها النصوص المقدَّسة، حيث نلمس ورود إشارة إلى قصة أول قتل في تاريخ البشرية التي قام بها قابيل بن آدم عليه السلام في حقّ أخيه هابيل بعد أن اختلفا في أمر الأخت التي سيتزوجانها. ويستعيد الروائي هذه القصة لأنه يراها تتكرَّر عبر التاريخ، ففي نهاية الأمر التاريخ يعيد نفسه بأشخاص متعدِّدين في أزمنة وأمكنة مختلفة، لكن الجوهر الإنساني يبقى هو هو, حيث تتحكَّم الرغبات الذاتية والمصالح الشخصية والنزوات في الإنسان، وتجعله يرتكب حماقات يندم عليها فيما بعد. غير أن الروائي يحوِّر القصة، ويدخل عليها تعديلاً بما ينسجم مع رؤياه الفلسفية. فليس قاين سوى قابيل بصيغة أخرى، وما هابيل إلا رمز للضحية القتيل عبر كل العصور.

لقد أدخل شربل داغر العالم الروائي في مأزق السيرة، من خلال تحويل المتن الروائي إلى أحبولة إعادة بناء صورة الذات كما تتخيَّل تفاصيلها الذات، وكما يبنيها الآخرون عنها، وهي عملية صعبة تقتضي من الروائي التجرُّد من ذاته عبر وضعها تحت المجهر ودون مصفاة، ثم أخذ مسافة مع العالم المحكي الذي هو في الأخير الذات نفسها. وهذا رهان صعب المنال، وغالباً ما يتحقَّق للروائيين الذي يجدون ذواتهم تنفلت من هذه المسافة، وتتعاطف مع الشخوص والتاريخ الشخصي والعوالم السيرية. وتحقّق لشربل هذا الرهان لأنه توصَّل إلى تقنيتين فريدتين وناجحتين للتغلُّب على هذه الصعوبة: الأولى هي تقنية التحقيق التي استلهمها من العمل البوليسي المخابراتي، والتحقيق الصحفي، والرواية البوليسية. والثانية هي تقنية الحوار التي تستلزمها عملية التحقيق نفسها، إذ تعمد في الغالب إلى الاستعانة بتصريحات الشخوص واستنطاقاتهم، وهذا ما فعله الكاتب، حيث تتبع الشخوص التي لها علاقة بالمبحوث عن سيرته، وجعلها بكل الطرق تحكي عن تفاصيله الدقيقة في الحياة والطفولة والجنس والطعام وكل ما يتعلق به ككائن من ورق.

عموماً يشكِّل هذا العمل الروائي بالنسبة لشاعر وقفة متأنية مع الذات ورؤاها، وجدلاً خفيّاً معها حول الحياة والماضي والذاكرة، وسعياً منه لإعادة التوازن وترتيب الفوضى التي تنزلق غالباً مع ضغط إكراهات الحياة والتزاماتها. وفضلاً عن ذلك هي فرصة لتجريب نمط آخر في الكتابة، والرواية على الخصوص، لأنها تتيح للمبدع قول ما لا يستطيع قوله شعراً، وهي فوق ذلك كله سفر تعقبي لمسار الشخصية وعمل نقدي لما فات، وإعادة لبناء الذات وفق منظور مخالف. وتلك حقيقة من حقائق الرواية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى