في حكايات الروائي والناقد القدير سيد الوكيل يتجلى المكان سواء في دروب الحارة الصغيرة أو في الغرف المغلقة داخل البيت ويعطي طعما مميزا لقصص وروايات هذا الكاتب الممتع , كما أن اللحظة السردية عند الروائي والناقد المصري المبدع سيد الوكيل تتطور داخل النص مثل عاصفة صغيرة، تنمو هادئة أحيانا ومتوترة أحيانا أخرى , ربما هي من ذاكرة اللحظة , اللحظة الفنية البكر, التي اختمرت في الذهن طويلا لكاتب مهموم , وهذه هي روح الكتابة الحديثة أو الجديدة , حيث لا دخول تقليدي قصدي مسبق يكسر عفوية واضحة و رفيعة للنص , عفوية فنية مبدعة تكشف بوضوح حالة صدق فني , مثلما تكشف عن كاتب مختلف ومتجدد بأدواته وقدراته , ومهموم بقضايا الإنسان في مجتمعة.
في قصة ضوء شاحب في النافذة , يتابع الكاتب تفاصيل حياة يومية , من خلال حكايات فيها متعة وجاذبية , تشعر أحيانا أنها ليست قصصا , لكنها شيء يشبه حقائق تلبسنا مثل روح , ربما حين أتاح هذا السارد الممتع في صاحبة الضوء الغافي, لعفريت أن يزيح قليلا سدادة تحبسه , ليتسرب عطرها شيئا فشيئا في فضاء الحمام, وكانت قد أخذت المسجل ودخلت الحمام ثم انقطعت الكهرباء فجأة , حتى أنها حين خرجت عارية لتحضر شمعة وثقابا , ثم عادت فاجأها عطرها , كان عطرا معتقا لربع قرن من الزمان فداهمتها سكرة الحواس حتى أمكنها سماع فقاعات الصابون وهي تتنفس فوق جلدها لوقت هين , ثم تموت في صمت .
تتحول الحالة السردية إلى غناء أو بكاء أو رقص، أو كل هذا في وقت واحد، كما في توق الأرواح، نعايش فتنة جو قصصي طفولي جميل، يقول الكاتب:
(والله الواحد ليسلم بأن الروح دائما تتوق لأجساد أخرى، فعلي الذي سمع بكاء الحليب في نهدي مارسا، مال برأسه على صدرها هكذا، وأغمض عينيه، ومارسا التي لم يتقوس ظهرها تحت رجل من باغت الدرن صدر ناشد، جذبته إليها وبكت، فتقاطرت الدموع على شعره، وعندما رفع رأسه إليها قالت . أنفاسك طاهرة يا علي).
كتابة الوكيل فيها متعة وتقدم رؤية من أعماق الحارة، من حجراتها وشوارعها الصغيرة وسطوحها، ومن أرواح مفتونة بالحياة، وتتألم كثيرا بسبب ظروف متناقضة تحيط بحياتها، كما تقدم رؤية موسيقية في ثنايا سرد لغته لا تكتفي بالحكي أو القص، لكنها تحاور هذا الواقع وتدخل معه في علاقة إبداعية عالية تحاول كشف مخبوء هذا الواقع، رؤية كأنها تستدرج هذا الواقع لكي يغني مأساته الجميلة وهواجسه النفسية المكبوتة .
نقرأ: (ومع ذلك فهذا الولد غنى للقمر، والعيون السود، وبحور الهوى، كأولاد كثيرين، غير انه لا يجيد الرقص كما يظن هو، أو كما ينبغي للرقص أن ينبه الطيور ) .
لغة فيها موسيقى وإيحاء، تتلمس غنى الروح، وترتفع بالمعاش إلى مستوى الحلم وتحاكي حواس الإنسان، ثم تروي لك بهدوء، عذابات ساكنة لا تبارح مكانا ألفته واعتبرته جزءا من روحها المعذبة بالأسئلة، حالات غناء وحالات ضياع، وحالات فرح صامته، وحالات جنس خفيف تعبر عن تواصل إنساني حميم مزين بشهوة الصمت الإنساني الرفيع. كل هذا سوف تلمسه بروحك وذائقتك، جليا وصريحا، مثل عمود النار، وأنت تتجول في الحالات المسرودة بهدوء فنان، للكاتب الخلاق سيد الوكيل، بدءا من أيام هند، ومرورا ب للروح غناها، ثم رواية فوق الحياة قليلا، وقصص مثل واحد أخرو رواية شارع بسادة.
وحين تواصل السير في دروب وامكنة هذا النص الهادئ والبسيط والعميق في آن واحد ستكشف في داخله ثورة حداثة فنية , فيها مباغتة لأدق مشاعرنا, وفيها صور تتلوا علينا سور البهجة والألم وأسئلتهما التي نحاول تجاهلها كثيرا , وربما هذا السرد المتجدد الخلاق لا نعثر عليه كثيرا الآن , لكن هذه الحالات المسرودة تتحقق بلغة شاعرية الروح والهوى , لغة فيها سلاسة تبعد عنها شبة التكلف , لغة تعالج موضوعاتها السردية بروح فن حقيقية , لكن أيضا روح مهمومة ومتألمة, تحيل الصورة إلى واقع حي أمامك , واقع مثير للأسئلة وللانتباه وللإعجاب .
لهذا تتجاوز نصوص السرد عند سيد الوكيل , التقديم التقليدي الذي يحضر للمشهد السردي بوصف مكرر للزمان والمكان , لكنه يدخل بك في عمق اللحظة السردية المتوترة بسلاسة لغوية فيها غناء وشجن , بقدر ما فيها من قدرة على كشف خبايا المشاعر وخبايا دوافع السلوك , كما تتجاوز هذه النصوص مجرد المقدرة التعبيرية الجميلة الموجودة عند كثير من الكتاب والكاتبات العرب , وتصل إلى مرحلة الإبداع الفني المدفوع بمغامرة الفن وحدها , اللغة والرؤية المتجددة للأشياء وللواقع اليومي , لتستوي أدبا رفيعا , أدب سردي يقدم صورا عالية الخيال لعالم يومي شديد الواقعية وشديد الكشف عن بؤس هذا الواقع , وبؤس وعينا , في التعامل مع الجسد كقيمة , وفي التعامل مع أسئلتنا السرية المهملة , لكن فيه أشياء ممتعة مبثوثة مثل حميمية العلاقة بين الناس في الحارة :
يقول الراوي :(تغطى وجهها بطرحتها السوداء حتى لا يراها الولد الذي باغتها بصوته الجديد في الأسبوع الفائت حتى أنها ابتسمت له وقالت: ـ أنت ابن سعاد. والله ما عرفتك. كبرت يا ولد وأخشن صوتك. هو أيضا ابتسم، غير أنه لم يفعل شيئا سوى أن يمر من حجرة نومها إلى شرفتها، ولم يقدر على أن ينظر في عينيها ويشوف رعشة عابرة.)
هنا منطقة الفنان سيد الوكيل، منطقة إبداعه الخاصة، صوته الخاص، منطقة تخاطب الروح وصوت يذهب بنا إلى حالات شديدة العمق في النفس البشرية، يذهب بنا ولا يعيدنا منها إلا ونحن محملين بذلك الشجن الذي يذكرنا برائحة قديمة، لأماكن مررنا بها، ولا أحد وسط لهاثنا اليومي وركضنا اليومي الاستهلاكي المادي والروحي، يستطيع أن يعيدنا لها، سوى مثل هذه النصوص المضيئة بمشاهد تظن لفرط جمالها أنها حياة حقيقية تحدث أمامك لحظة القراءة . انه الشجن الكبير الذي يهب حياتنا اللاهثة معنى حقيقي، معنى يجعلنا نؤمن بمهمة الأدب الجوهرية في العودة بنا إلى ذواتنا، سرد متجاوز ومتحرر من الآثام الفنية مثل التكلف والافتعال والتصنع إلى أخره، وقبض على أسرار فن السرد بشكل واضح.
(تلك عادتها تضع ظهر كفها تحت الماء المندفع من الصنبور، وتضبط إيقاع الحرارة قبل أن تبدأ في غسل الصحون، كانت جمعتها بمجرد أن خرج الضيوف).
لم تكن الأدوات الفنية العالية للأديب القدير سيد الوكيل, هي ما أعطى تميزا لنصوصه القصصية, ولروايتيه الجميلتين , فوق الحياة قليلا وشارع بسادة , لكن ما تكشف عنه هذه النصوص الأدبية الرفيعة, من إبداع فني و رؤية فكرية حداثية خاصة بالكاتب, أو لنقل صوتا أدبيا متجددا خاصا به, على المستويين الفني والموضوعي, رؤية تعبر بأسى شديد عن هموم واقع يومي شديد الوطأة على شخوص النصوص, التي تتألم بصمت في الغالب , بينما نلحظ في النصوص صوتا عاليا لحواس الإنسان ,وبالذات الإبصار والشم , فيمنح المشهد للنص بعدا جديدا مؤثرا وفاعلا , يتوازى مع الإحساس العالي بالجسد , بالذات في قمة مجده أثناء تفتح أول زهرات المراهقة للولد والبنت .
(لكنها هربت بنظراتها في اتجاه النافذة فيما ظلت أصابعه تتحرك بحرية وتلمس ظهر كفها، كانت تشعر برعشة أصابعه واختلاج جسده يذوب في رجفتها).
وفي كثير من النصوص، تلاحظ التماهي الخلاق بين عالمين حميمين، عالم الواقع والحلم في آن واحد، فهي تحقق المزاوجة بين بساطة الصورة وعمق أبعادها وموسيقية روحها، ففي قصة ( ضوء شاحب في النافذة ) على سبيل المثال، من مجموعة للروح غناها الصادرة عن مختارات فصول، نلحظ أننا أمام لوحة سردية تشكيلية . هناك خيط درامي صغير يربطها يبعضها ويكاد يحيلها إلى روايات قصيرة متتابعة بسلاسة موحية .أنه صوت خاص, نهض بمقدرة تعبيرية فذة . والشيء الملفت الذي قد يشبه المعادلة الصعبة في هذا السرد , هو أن الحالات المسرودة في متوالياته القصصية وفي رواية فوق الحياة قليلا وفي فصول من روايته الجديدة شارع بسادة , رغم حمولاتها الثقافية الغنية , ورغم أنها مهمومة بقضايا واقع شرس , تقدم لنا الصورة الأدبية بكل قيمها الثقافية والإنسانية العالية , دون تكلف أو افتعال , فهي تعبر عن ذاتها السردية بهدوء وسلاسة وعذوبة فاتنة , وربما نؤكد هنا تحقق المعادلة الصعبة في الكتابة الرفيعة قيمة وثقافة واللغة الرفيعة والواضحة , في آن واحد, بروح فنية عالية المستوى فنا وموضوعا تؤكد القبض الصريح على أسرار كتابة موحية وعميقة , مع القدرة على كشف ارتباكات الإنسان وسط عالم شديد الغموض والبؤس والشراسة أحيانا.
فوق الحياة قليلا , قد نعتبرها نص الواقع الثقافي المتأزم والإنساني بامتياز كبير , نحن أمام حالات شديدة الوضوح في تشتت رؤيتها وشديدة الغموض في دلالاتها, التي تحتاج إلى ذهن صاف لإدراك حجم أزمة تحيل إلى واقع ثقافي صعب و معقد, هو نتيجة لواقع شديد التأزم , في مرحلة تشهد الكثير من التحولات السيئة , التي ألقت بظلالها على حياتنا العربية بشكل عام , نص يدين كل ممارسات الزيف في حياتنا ويفضح الكثير من المفاهيم المغلوطة في حياتنا اليومية وفي واقعنا الثقافي ,هناك لحظات سيريه قاربت الحياة ذاتها , وقربت النص من الروح الحميمة والصادقة , وكذلك بعض اللحظات الساخرة الجميلة , إنها رواية حديثة فعلا , ولها رؤيتها الجمالية والموضوعية الخاصة , فهي لم تكسر القواعد التقليدية فقط لكنها خلقت قواعدها الخاصة الجديدة والمتمكنة أيضا , ويمكن الإشارة إلى التكثيف الفني الذي أوجز حالات غنية في صفحات ليست طويلة أو مملة بالإضافة إلى ذلك التداخل الفني الخلاق بين شخوص أبطال الرواية وشخوص روايات أخرى , مع شخصيات أدبية موجودة أضفت على النص حياة أخرى لها طعم خاص وجمال خاص .
ويمكن لنا أن نفهم الحضور الطاغي للجسد في سرديات الوكيل، باعتباره صوت الروح التائقة لغناها، فهو حضور له علاقة بتركيز الكاتب في قصصه على حواس الإنسان، وكجزء من بطولات نصوصه التي هي أصلا بلا أبطال تقليديين نراهم كثيرا في قصصنا ورواياتنا، التي تبدأ ببطل وتنتهي به، لكنها هنا تبدأ بصورة، تم تتوالى الصور الحسية بلغة رشيقة، تقدم لنا أدبا جديدا في كل عناصره الفنية، أدب يعبر عن واقع حال يبحث عن إجابات لأسئلته الغامضة والمريرة .
(لكن جسدي هو الذي قاوم ويداي تشبثتا بقوة غامضة، وفي تلك اللحظة كان جسدي خفيفا وكان الأجساد التي تدفعني لا وجود لها، إذا أردت أن تتخلص من الموت كل ما عليك هو أن تموت).
التوالي السردي في مثل واحد أخر، وللروح غناها، وأيضا في الرواية فوق الحياة قليلا وفي الرواية الجديدة شارع بسادة ، تقرأها كمتوالية روائية جديدة الفن، ذلك انك سوف تلمس في حال يقظة القراءة، خيطا شفافا ومهما، يسري مثل ماء، في نهر هذه الحالات السردية الرفيعة فعلا، ويجعل منها جزرا متواصلة إذا شئت وجزر معزولة إذا شئت أيضا، فأنت بطل النص أيها القارئ ولك حرية التأويل والاستمتاع والفهم والتخيل أيضا.
(سأترك لكم تخيل ما يراه وعلى سبيل الاحتياط، هي شقة عادية لشاب وحيد ماتت أمه منذ عامين في طرقة رطبة بين المطبخ والحمام).
هنا في قصص الصور اليومية الحميمة يبدع سيد الوكيل حوارات واضاءات إنسانية غاية في الدفء والحميمية، ضوء شاحب في النافذة، قصة تنقلنا بحرفية فنية إلى عالم واقعي يوازي عالم الفن في جماله. إنها نصوص سيد الوكيل السردية الخاصة بعالمها الخاص الذي لا يشبه عالما آخر، نصوص توق الأرواح والأجساد ،الأرواح التي دائما تتوق لأجساد أخرى ،الأرواح التي عانقت الجسد طويلا، وأثمرت حالات ونصوص سردية، كنا نظنها قصصا، لكننا بعد قليل اكتشفنا أنها حقيقة تلبسنا مثل روح .
في قصة ضوء شاحب في النافذة , يتابع الكاتب تفاصيل حياة يومية , من خلال حكايات فيها متعة وجاذبية , تشعر أحيانا أنها ليست قصصا , لكنها شيء يشبه حقائق تلبسنا مثل روح , ربما حين أتاح هذا السارد الممتع في صاحبة الضوء الغافي, لعفريت أن يزيح قليلا سدادة تحبسه , ليتسرب عطرها شيئا فشيئا في فضاء الحمام, وكانت قد أخذت المسجل ودخلت الحمام ثم انقطعت الكهرباء فجأة , حتى أنها حين خرجت عارية لتحضر شمعة وثقابا , ثم عادت فاجأها عطرها , كان عطرا معتقا لربع قرن من الزمان فداهمتها سكرة الحواس حتى أمكنها سماع فقاعات الصابون وهي تتنفس فوق جلدها لوقت هين , ثم تموت في صمت .
تتحول الحالة السردية إلى غناء أو بكاء أو رقص، أو كل هذا في وقت واحد، كما في توق الأرواح، نعايش فتنة جو قصصي طفولي جميل، يقول الكاتب:
(والله الواحد ليسلم بأن الروح دائما تتوق لأجساد أخرى، فعلي الذي سمع بكاء الحليب في نهدي مارسا، مال برأسه على صدرها هكذا، وأغمض عينيه، ومارسا التي لم يتقوس ظهرها تحت رجل من باغت الدرن صدر ناشد، جذبته إليها وبكت، فتقاطرت الدموع على شعره، وعندما رفع رأسه إليها قالت . أنفاسك طاهرة يا علي).
كتابة الوكيل فيها متعة وتقدم رؤية من أعماق الحارة، من حجراتها وشوارعها الصغيرة وسطوحها، ومن أرواح مفتونة بالحياة، وتتألم كثيرا بسبب ظروف متناقضة تحيط بحياتها، كما تقدم رؤية موسيقية في ثنايا سرد لغته لا تكتفي بالحكي أو القص، لكنها تحاور هذا الواقع وتدخل معه في علاقة إبداعية عالية تحاول كشف مخبوء هذا الواقع، رؤية كأنها تستدرج هذا الواقع لكي يغني مأساته الجميلة وهواجسه النفسية المكبوتة .
نقرأ: (ومع ذلك فهذا الولد غنى للقمر، والعيون السود، وبحور الهوى، كأولاد كثيرين، غير انه لا يجيد الرقص كما يظن هو، أو كما ينبغي للرقص أن ينبه الطيور ) .
لغة فيها موسيقى وإيحاء، تتلمس غنى الروح، وترتفع بالمعاش إلى مستوى الحلم وتحاكي حواس الإنسان، ثم تروي لك بهدوء، عذابات ساكنة لا تبارح مكانا ألفته واعتبرته جزءا من روحها المعذبة بالأسئلة، حالات غناء وحالات ضياع، وحالات فرح صامته، وحالات جنس خفيف تعبر عن تواصل إنساني حميم مزين بشهوة الصمت الإنساني الرفيع. كل هذا سوف تلمسه بروحك وذائقتك، جليا وصريحا، مثل عمود النار، وأنت تتجول في الحالات المسرودة بهدوء فنان، للكاتب الخلاق سيد الوكيل، بدءا من أيام هند، ومرورا ب للروح غناها، ثم رواية فوق الحياة قليلا، وقصص مثل واحد أخرو رواية شارع بسادة.
وحين تواصل السير في دروب وامكنة هذا النص الهادئ والبسيط والعميق في آن واحد ستكشف في داخله ثورة حداثة فنية , فيها مباغتة لأدق مشاعرنا, وفيها صور تتلوا علينا سور البهجة والألم وأسئلتهما التي نحاول تجاهلها كثيرا , وربما هذا السرد المتجدد الخلاق لا نعثر عليه كثيرا الآن , لكن هذه الحالات المسرودة تتحقق بلغة شاعرية الروح والهوى , لغة فيها سلاسة تبعد عنها شبة التكلف , لغة تعالج موضوعاتها السردية بروح فن حقيقية , لكن أيضا روح مهمومة ومتألمة, تحيل الصورة إلى واقع حي أمامك , واقع مثير للأسئلة وللانتباه وللإعجاب .
لهذا تتجاوز نصوص السرد عند سيد الوكيل , التقديم التقليدي الذي يحضر للمشهد السردي بوصف مكرر للزمان والمكان , لكنه يدخل بك في عمق اللحظة السردية المتوترة بسلاسة لغوية فيها غناء وشجن , بقدر ما فيها من قدرة على كشف خبايا المشاعر وخبايا دوافع السلوك , كما تتجاوز هذه النصوص مجرد المقدرة التعبيرية الجميلة الموجودة عند كثير من الكتاب والكاتبات العرب , وتصل إلى مرحلة الإبداع الفني المدفوع بمغامرة الفن وحدها , اللغة والرؤية المتجددة للأشياء وللواقع اليومي , لتستوي أدبا رفيعا , أدب سردي يقدم صورا عالية الخيال لعالم يومي شديد الواقعية وشديد الكشف عن بؤس هذا الواقع , وبؤس وعينا , في التعامل مع الجسد كقيمة , وفي التعامل مع أسئلتنا السرية المهملة , لكن فيه أشياء ممتعة مبثوثة مثل حميمية العلاقة بين الناس في الحارة :
يقول الراوي :(تغطى وجهها بطرحتها السوداء حتى لا يراها الولد الذي باغتها بصوته الجديد في الأسبوع الفائت حتى أنها ابتسمت له وقالت: ـ أنت ابن سعاد. والله ما عرفتك. كبرت يا ولد وأخشن صوتك. هو أيضا ابتسم، غير أنه لم يفعل شيئا سوى أن يمر من حجرة نومها إلى شرفتها، ولم يقدر على أن ينظر في عينيها ويشوف رعشة عابرة.)
هنا منطقة الفنان سيد الوكيل، منطقة إبداعه الخاصة، صوته الخاص، منطقة تخاطب الروح وصوت يذهب بنا إلى حالات شديدة العمق في النفس البشرية، يذهب بنا ولا يعيدنا منها إلا ونحن محملين بذلك الشجن الذي يذكرنا برائحة قديمة، لأماكن مررنا بها، ولا أحد وسط لهاثنا اليومي وركضنا اليومي الاستهلاكي المادي والروحي، يستطيع أن يعيدنا لها، سوى مثل هذه النصوص المضيئة بمشاهد تظن لفرط جمالها أنها حياة حقيقية تحدث أمامك لحظة القراءة . انه الشجن الكبير الذي يهب حياتنا اللاهثة معنى حقيقي، معنى يجعلنا نؤمن بمهمة الأدب الجوهرية في العودة بنا إلى ذواتنا، سرد متجاوز ومتحرر من الآثام الفنية مثل التكلف والافتعال والتصنع إلى أخره، وقبض على أسرار فن السرد بشكل واضح.
(تلك عادتها تضع ظهر كفها تحت الماء المندفع من الصنبور، وتضبط إيقاع الحرارة قبل أن تبدأ في غسل الصحون، كانت جمعتها بمجرد أن خرج الضيوف).
لم تكن الأدوات الفنية العالية للأديب القدير سيد الوكيل, هي ما أعطى تميزا لنصوصه القصصية, ولروايتيه الجميلتين , فوق الحياة قليلا وشارع بسادة , لكن ما تكشف عنه هذه النصوص الأدبية الرفيعة, من إبداع فني و رؤية فكرية حداثية خاصة بالكاتب, أو لنقل صوتا أدبيا متجددا خاصا به, على المستويين الفني والموضوعي, رؤية تعبر بأسى شديد عن هموم واقع يومي شديد الوطأة على شخوص النصوص, التي تتألم بصمت في الغالب , بينما نلحظ في النصوص صوتا عاليا لحواس الإنسان ,وبالذات الإبصار والشم , فيمنح المشهد للنص بعدا جديدا مؤثرا وفاعلا , يتوازى مع الإحساس العالي بالجسد , بالذات في قمة مجده أثناء تفتح أول زهرات المراهقة للولد والبنت .
(لكنها هربت بنظراتها في اتجاه النافذة فيما ظلت أصابعه تتحرك بحرية وتلمس ظهر كفها، كانت تشعر برعشة أصابعه واختلاج جسده يذوب في رجفتها).
وفي كثير من النصوص، تلاحظ التماهي الخلاق بين عالمين حميمين، عالم الواقع والحلم في آن واحد، فهي تحقق المزاوجة بين بساطة الصورة وعمق أبعادها وموسيقية روحها، ففي قصة ( ضوء شاحب في النافذة ) على سبيل المثال، من مجموعة للروح غناها الصادرة عن مختارات فصول، نلحظ أننا أمام لوحة سردية تشكيلية . هناك خيط درامي صغير يربطها يبعضها ويكاد يحيلها إلى روايات قصيرة متتابعة بسلاسة موحية .أنه صوت خاص, نهض بمقدرة تعبيرية فذة . والشيء الملفت الذي قد يشبه المعادلة الصعبة في هذا السرد , هو أن الحالات المسرودة في متوالياته القصصية وفي رواية فوق الحياة قليلا وفي فصول من روايته الجديدة شارع بسادة , رغم حمولاتها الثقافية الغنية , ورغم أنها مهمومة بقضايا واقع شرس , تقدم لنا الصورة الأدبية بكل قيمها الثقافية والإنسانية العالية , دون تكلف أو افتعال , فهي تعبر عن ذاتها السردية بهدوء وسلاسة وعذوبة فاتنة , وربما نؤكد هنا تحقق المعادلة الصعبة في الكتابة الرفيعة قيمة وثقافة واللغة الرفيعة والواضحة , في آن واحد, بروح فنية عالية المستوى فنا وموضوعا تؤكد القبض الصريح على أسرار كتابة موحية وعميقة , مع القدرة على كشف ارتباكات الإنسان وسط عالم شديد الغموض والبؤس والشراسة أحيانا.
فوق الحياة قليلا , قد نعتبرها نص الواقع الثقافي المتأزم والإنساني بامتياز كبير , نحن أمام حالات شديدة الوضوح في تشتت رؤيتها وشديدة الغموض في دلالاتها, التي تحتاج إلى ذهن صاف لإدراك حجم أزمة تحيل إلى واقع ثقافي صعب و معقد, هو نتيجة لواقع شديد التأزم , في مرحلة تشهد الكثير من التحولات السيئة , التي ألقت بظلالها على حياتنا العربية بشكل عام , نص يدين كل ممارسات الزيف في حياتنا ويفضح الكثير من المفاهيم المغلوطة في حياتنا اليومية وفي واقعنا الثقافي ,هناك لحظات سيريه قاربت الحياة ذاتها , وقربت النص من الروح الحميمة والصادقة , وكذلك بعض اللحظات الساخرة الجميلة , إنها رواية حديثة فعلا , ولها رؤيتها الجمالية والموضوعية الخاصة , فهي لم تكسر القواعد التقليدية فقط لكنها خلقت قواعدها الخاصة الجديدة والمتمكنة أيضا , ويمكن الإشارة إلى التكثيف الفني الذي أوجز حالات غنية في صفحات ليست طويلة أو مملة بالإضافة إلى ذلك التداخل الفني الخلاق بين شخوص أبطال الرواية وشخوص روايات أخرى , مع شخصيات أدبية موجودة أضفت على النص حياة أخرى لها طعم خاص وجمال خاص .
ويمكن لنا أن نفهم الحضور الطاغي للجسد في سرديات الوكيل، باعتباره صوت الروح التائقة لغناها، فهو حضور له علاقة بتركيز الكاتب في قصصه على حواس الإنسان، وكجزء من بطولات نصوصه التي هي أصلا بلا أبطال تقليديين نراهم كثيرا في قصصنا ورواياتنا، التي تبدأ ببطل وتنتهي به، لكنها هنا تبدأ بصورة، تم تتوالى الصور الحسية بلغة رشيقة، تقدم لنا أدبا جديدا في كل عناصره الفنية، أدب يعبر عن واقع حال يبحث عن إجابات لأسئلته الغامضة والمريرة .
(لكن جسدي هو الذي قاوم ويداي تشبثتا بقوة غامضة، وفي تلك اللحظة كان جسدي خفيفا وكان الأجساد التي تدفعني لا وجود لها، إذا أردت أن تتخلص من الموت كل ما عليك هو أن تموت).
التوالي السردي في مثل واحد أخر، وللروح غناها، وأيضا في الرواية فوق الحياة قليلا وفي الرواية الجديدة شارع بسادة ، تقرأها كمتوالية روائية جديدة الفن، ذلك انك سوف تلمس في حال يقظة القراءة، خيطا شفافا ومهما، يسري مثل ماء، في نهر هذه الحالات السردية الرفيعة فعلا، ويجعل منها جزرا متواصلة إذا شئت وجزر معزولة إذا شئت أيضا، فأنت بطل النص أيها القارئ ولك حرية التأويل والاستمتاع والفهم والتخيل أيضا.
(سأترك لكم تخيل ما يراه وعلى سبيل الاحتياط، هي شقة عادية لشاب وحيد ماتت أمه منذ عامين في طرقة رطبة بين المطبخ والحمام).
هنا في قصص الصور اليومية الحميمة يبدع سيد الوكيل حوارات واضاءات إنسانية غاية في الدفء والحميمية، ضوء شاحب في النافذة، قصة تنقلنا بحرفية فنية إلى عالم واقعي يوازي عالم الفن في جماله. إنها نصوص سيد الوكيل السردية الخاصة بعالمها الخاص الذي لا يشبه عالما آخر، نصوص توق الأرواح والأجساد ،الأرواح التي دائما تتوق لأجساد أخرى ،الأرواح التي عانقت الجسد طويلا، وأثمرت حالات ونصوص سردية، كنا نظنها قصصا، لكننا بعد قليل اكتشفنا أنها حقيقة تلبسنا مثل روح .