عبدالباري محمد المالكي - دراسة نقدية لقصيدة (بائع الورد) للشاعر الأديب ضمد كاظم الوسمي

من السطحية بمكان أن نعتبر (الوسميّ) شاعراً ينتمي للمذهب الحسي ، فهو وإن كان واقعياً من جهة حواسه وجسده ، لكنه أقرب مايكون بالصورة الى الروح والخيال ، وبين هذين الواقعين (الروح والخيال) يتأرجح الوسميّ ثابتاً بذاته ، وكأنه خُلِق َ لِيُبدع َ شعراً .
إذ لم يدُر ْ بخَلَد أحدٍ أن الوسميّ يتولّه في حب (سلوى)
ويتعذب بلَمى ثغرها ، فكان ذلك أشقّ عليه من تعلّات أصابته ، فالله وحده يعلم كم يُعاني الوسميّ من لواعج رضابها السحري ، فرغبته بحلواها مما تُذهِل العقل ولايحتمله الفؤاد .
ولم يكن من المقدّر أن نعيَ اللغز الذي أشاح عن امرئٍ قدّم شكواه أمام قاض ٍ صغا فاندهش ، وفكّر فتحير ، حتى أبان لنا متانة الأسباب في عشق شفتينِ خَلَبَتاه ُ حد الخبَل ، وجد فيهما خيمته المنتظرة وقصره الياقوتي .
و(الوسميّ) فنان تُمَدّ له الموائد الخضراء ، ويُنثَر له الذهب المصفى ، وتَتجه إليه العيون الحور ، تتنافس على قلبه ، وهو إذ لايبايع إلّا سلواه دون جميع النساء فإنه يكون أشبه بشهريارَ غنائيٍّ يصل بحلو شِعره الى ثمرته وهو يحتفظ بمشوّقاتهِ الحية من إبداعٍ لامسَ صراخَ قلبه ، وسقاهُ شغفاً .
ومن فاكهة نضجت بين يديه يختزل الوسميّ المشهد ، ويركّز الرؤية لدهر ٍ لاعبَهُ ، ودهرٍ رجاهُ بوسائلهِ الفنية التي امتاز بها هو دون غيره حتى وجد من خلالها ضالّته ، فانصهر بفنّهِ دون أن يكفّ عن كونه إنسانا ً .
فالأسى والكمد لديه ليس تقليداً اعتاد عليه بمادةٍ عديمةِ الشكل وفنٍّ لا ذوق َ فيه ، بل هو لهفة تنتابه تجاه حورائه كل حين ، يتمخّض من عذاباته الدائمة قلق ٌ متلازم ، وهاجس يعرّض حياته الى صراع متواصل بين الإنسان والفنان .
والحقّ ... أن الوسميّ قد انتصر فيه الاثنان ، فقد ساد في قصيدته معيار العشق وشكله الفني بقالب الفنان الإنسان .
فإنسان (الوسميّ ) قد أضاف لفنّانه عالَماً خاصاً تمثّل بالعاشق ثغراً وزّعَ الحلوى حتى أضحت تلك الإضافة راسخة بأشكال الجنون و الهيام ، فبلغت فيه مبلغ َ الأرضية الصلدة التي يقف عليها موقف الاقتناع ببراءته في عشقٍ أباح له النجوى ، دون أن تتزعزع تلك الأرضية تحت قدميه .
وفنان (الوسميّ) أضاف لإنسانه بطلاً ليس منفصلاً عن واقعه ، ولا زائغاً عن أفكاره ، فقد أبقاه ُ إنساناً في ذلك المجال الكثيف من الصور والمعاني التي لم يكن بإمكان (الوسميّ) تصنيفها سوى أنها رسائل اطمئنان وسكينة ،
يلأمُ بها صَلاته ُ ويتفق مع ماحوله من أوجاع اجترّت بعضها حتى تهشّم فيه كل شيء وتناثر لا الى قطع صغيرة فقط ، بل الى ذرات لا تكاد تُرى .
و ( للوسميّ ) داء لايمكن التغلب عليه ، فهو داء يعجّ بذاته ، ويتغلغل داخل جوهره ، ويقع على عاتقه بشكل أكثر شمولية وجهراً ، حتى إذا استعرضه القاضي استصعب شكواه ، وشقّت عليه نجواه .
وفي (بائع الورد) نجد أن الوفاض قد امتلأ ، والمحتوى قد فاض ، والموهبة قد تنوّعت ، وكأنّ العالم كله انضوى بين قوسيها عنده ، فهو أشدّ مرارة من أية لحظة أخرى عندما يلزمه الحديث عن رضاب ورحيق .
إن الشائعات التي تتردد على الألسنة خلف الكواليس من أنّ (الوسميّ) امرؤ اختار هذا القدر بنفسِه ، واصطفاه له رغم نحسِه ، حتى بات حكم قاضيه ناطقاً لغير صالحه ، هو محض افتراء ليس إلّا .
فالمنّ والسلوى كانا شاهدَيه ِ لأعماق خفية احتوت لغة صدقه فكانت كفيلة لنجاته من يد البلوى ، بيدَ أن المرارة المصنوعة من الأنفاس والانفعالات كانت مرآةً لروحه ، وفيضاً من ذاته ، حتى اصبح شاعرنا هدفاً انفجرت فيه نوبات الحزن العميقة ، وزلزلت فيه بواطن الوجع ، فانوجدت فيه الحكمة ، واستحكمت لديه الفطنة ، وتركزت في إيقاعاته أغانيه ، فطاف بالورد بيّاعاً ، وضج بعبارات الهوى في الحارات والأزقة ملتاعاً دون أن يؤوّل ، وتوجّه الى مقصده دون أن يحيد ، حتى أشفق عليه القريب والبعيد ، ورَؤفَ به العدو والصديق ، وهو عند هذا وذاك قد ارتفع فيه صوت الشوق فلا يصغي لسواه ، وكأنّ الدنيا بأسرها تتطلّع إليه وحده .
و( الوسميّ) يعني مايقوله حقاً حين يقف بين يدي حسنائه ، يحدّق في وجهها الأملد ، ويتمعن بقدّها المتهادي ، يرجوها عدم مَلامته قدَرَ الإمكان ، فهو رجل تزيّا بزيّ النبل ، وارتدى حلّة الغرام ، فأصبح وأمسى بين تيكَ وهاتيكَ عاشقاً يروم وصلاً لم يُبقِ به الشوق سوى شزوى .
قصيدة (بائع الورد)
.............
يا بائعَ الْورْدِ هلْ مرّتْ بِكُمْ سلْوى
ألْورْدُ أمْ ثَغْرُها مَنْ وزّعَ الْحَلْوى
رُضابُها ورحيقُ الْورْدةِ اخْتصما
قاضي الْغرامِ صغا واسْتصْعبَ الشّكْوى
واسْتنْطقَ الْحكْمَ ما قالتْ مراشفُها
جاءَ اللّمى شاهداً بالْمَنِّ والسّلْوى
كفّي ملامَكِ وامْضي في مبايعتي
شهْدُ الْوصالِ نجاةٌ مِنْ يدِ الْبلْوى
أقْسمْتُ أنْ أمْلأ الْأقْراطَ في شنفٍ
مِنْ حلْوِ شِعْري إذا جهْراً إذا نجْوى
لامِسْ صراخَ فؤادٍ واسْقهِ شغفاً
سُلافةً تشْتهي ثغْراً بما يهْوى
أنْضجْتُ فاكهةً لكنّها عجِفتْ
دهْراً تلاعبني كالتّلِّ والْأرْوى
راحتْ إلى دائِها ترْجو دَوا قدَرٍ
للْبابِ تأْتيكَ دعْواها بلا جدْوى
بالنّحْسِ قدْ نشرتْ راياتِها عجباً
تجْترُّ آلامها بعْضاً مِنَ الدّعْوى
بَثَّ الْجوى في محيّاها شحوبَ دمٍ
مِنْ وصْلِها الشّوقُ ما أبْقى سوى شرْوى


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى