شاهدت التبلدي (Baobab) في عدد من دول غرب افريقيا، على امتداد إقليم الساحل: موريتانيا، السنغال، مالي، النيجر وتشاد. وجدتها تتفق كلها في الفخامة والضخامة مع تفاوت في الارتفاع، واختلاف في البنية الكلية للشجرة الأسطورة، من قطر لآخر...خطر لي أن أقارن بينها وبين البنية الجسدية للإنسان(Morphology )، فوجدت عناصر مقارنة فريدة، وهذا أمر ينطبق على الحيوان أيضاً....تهيّؤات!!
سهول نيالا ووديانها في جنوب دارفور على أيام طفولتنا كانت عامرة بأشجار التبلدي والدوم، صنوان لا يفترقان، ولطالما مللت وعثاء السفر وطول أيام الرحلة، وبعد المسافة من الخرطوم، في قطار الغرب ( هل كانت ١٣٠٠ كيلومتر؟)، عند العودة إلى نيالا من "دار صباح"، أيام كانت لنا دار عامرة بالزوار والقصّاد بنيالا، وأذكر أن إطلالة مشهد التبلدي والدوم، كانت مما يبعث بهجة في الأنفس، مبعثها قرب انتهاء الرحلة وإلقاء عصا الترحال.
وممّا استقرّ بالذاكرة، أن خالتنا فاطمة "النيّ" بنت سليمان عبد الله بك حمزة، أرتني في نهاية ثمانينات القرن المنصرم، شجيرة تبلدي نابتة في حوش مخبز كانت تمتلكه في ضاحية الحاج يوسف بالخرطوم بحري، و"النيّ" كانت رحمها الله، صاحبة تجارة وأعمال، تقليد قديم توارثته الخندقاويات، عبر القرون..وأذكر أني استعطفتها عبثاً، ألا تجتثها، حينما أخبرتني بنيتها على فعل ذلك. كنت أرى أن استنبات التبلدية في الخرطوم، " تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل"، أقرب إلى أن يكون معجزة من المعجزات.
وممّا قرّ في ذاكرتي، ممّا ورد في مذكرات الطبيب الفرنسي شارل كوني "رحلة إلى دارفور"، Charles Cuny, Voyage au Darfour، في منتصف القرن التاسع عشر، أنه راعه أن ذرع قطر أول تبلدية صادفته في رحلته، بشمال كردفان، فألفاه عشرة أمتار، " أو فوق ذلك شيئاً أو إليه دنا"، فتعجب من صحراء قاحلة تنجب شجرة في عظم التبلدية وروعتها، تعجبه من جارية تنجب ملكة! وكان أورد في مذكراته أنه رأى تبلدية في ظاهر أسيوط، زرعها دون شك، أجدادنا من تجار وخبراء كانوا ينشطون ما بين كوبي في شمال دارفور، والخندق بعد منحى النيل، وأسيوط في صعيد مصر. تُرى، هل أراد من استنبتها في أسيوط ترك أثر من آثار بلاده في تلك البقاع؟ فابن آدم مجبول على تخليد سيرته في المعالم والآثار، وهل من معلمة تضاهي تبلدية؟
في نيالا، ما تزال التبلدية التي نصبت في أغصانها مشنقة السحيني موجودة. زرتها قبل أشهر قليلة (راجع الصور المرفقة)، وكنت أخشى أن اروّع بخبر إزالتها واجتثاثها والاستفادة من موقعها في بناء عمارة استثمارية، ومن يكترث للتاريخ وملاحم التاريخ مع صعود حُمّى الاحتراب والنزوح واليوناميد وجشع الدولار والريال، والثراء الطارف جرّاء الحرب والارتزاق في اليمن وليبيا...أدهشني أني وجدتها قائمة لا تريم، في موقعها، تستظلّ بظلّها ستات الشاي اللائي أصررن، أيّما إصرار، على إكرامي ومن معي! هل تذكرن، طيّ السنين، "فتى غضّ الإهاب...أسمر الجبهة كالخمرة في النور المذاب"؟ ...وشاهدت الحنفية التي نصبها المفتش الإنجليزي، وقتئذٍ على جذعها الخرافي، الحنفيةالمتصلة، عبر قناة معدنية بجوفها الذي كان يعين على تخزين مياه الخريف الريّان، لفائدة الصيف العطشان، وهي ما تزال تعمل حتى الآن، وقد شارفت المائة من السنين..(متى أعدم السحيني؟) ذلك ممّا يعدّ من طرائف الإنجليز وتهويماتهم وسعة خيالهم ( هل اقول: وحسن تدبيرهم؟)
د. مصطفى احمد علي،
الرباط، أبريل ٢٠٢٠م.
سهول نيالا ووديانها في جنوب دارفور على أيام طفولتنا كانت عامرة بأشجار التبلدي والدوم، صنوان لا يفترقان، ولطالما مللت وعثاء السفر وطول أيام الرحلة، وبعد المسافة من الخرطوم، في قطار الغرب ( هل كانت ١٣٠٠ كيلومتر؟)، عند العودة إلى نيالا من "دار صباح"، أيام كانت لنا دار عامرة بالزوار والقصّاد بنيالا، وأذكر أن إطلالة مشهد التبلدي والدوم، كانت مما يبعث بهجة في الأنفس، مبعثها قرب انتهاء الرحلة وإلقاء عصا الترحال.
وممّا استقرّ بالذاكرة، أن خالتنا فاطمة "النيّ" بنت سليمان عبد الله بك حمزة، أرتني في نهاية ثمانينات القرن المنصرم، شجيرة تبلدي نابتة في حوش مخبز كانت تمتلكه في ضاحية الحاج يوسف بالخرطوم بحري، و"النيّ" كانت رحمها الله، صاحبة تجارة وأعمال، تقليد قديم توارثته الخندقاويات، عبر القرون..وأذكر أني استعطفتها عبثاً، ألا تجتثها، حينما أخبرتني بنيتها على فعل ذلك. كنت أرى أن استنبات التبلدية في الخرطوم، " تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل"، أقرب إلى أن يكون معجزة من المعجزات.
وممّا قرّ في ذاكرتي، ممّا ورد في مذكرات الطبيب الفرنسي شارل كوني "رحلة إلى دارفور"، Charles Cuny, Voyage au Darfour، في منتصف القرن التاسع عشر، أنه راعه أن ذرع قطر أول تبلدية صادفته في رحلته، بشمال كردفان، فألفاه عشرة أمتار، " أو فوق ذلك شيئاً أو إليه دنا"، فتعجب من صحراء قاحلة تنجب شجرة في عظم التبلدية وروعتها، تعجبه من جارية تنجب ملكة! وكان أورد في مذكراته أنه رأى تبلدية في ظاهر أسيوط، زرعها دون شك، أجدادنا من تجار وخبراء كانوا ينشطون ما بين كوبي في شمال دارفور، والخندق بعد منحى النيل، وأسيوط في صعيد مصر. تُرى، هل أراد من استنبتها في أسيوط ترك أثر من آثار بلاده في تلك البقاع؟ فابن آدم مجبول على تخليد سيرته في المعالم والآثار، وهل من معلمة تضاهي تبلدية؟
في نيالا، ما تزال التبلدية التي نصبت في أغصانها مشنقة السحيني موجودة. زرتها قبل أشهر قليلة (راجع الصور المرفقة)، وكنت أخشى أن اروّع بخبر إزالتها واجتثاثها والاستفادة من موقعها في بناء عمارة استثمارية، ومن يكترث للتاريخ وملاحم التاريخ مع صعود حُمّى الاحتراب والنزوح واليوناميد وجشع الدولار والريال، والثراء الطارف جرّاء الحرب والارتزاق في اليمن وليبيا...أدهشني أني وجدتها قائمة لا تريم، في موقعها، تستظلّ بظلّها ستات الشاي اللائي أصررن، أيّما إصرار، على إكرامي ومن معي! هل تذكرن، طيّ السنين، "فتى غضّ الإهاب...أسمر الجبهة كالخمرة في النور المذاب"؟ ...وشاهدت الحنفية التي نصبها المفتش الإنجليزي، وقتئذٍ على جذعها الخرافي، الحنفيةالمتصلة، عبر قناة معدنية بجوفها الذي كان يعين على تخزين مياه الخريف الريّان، لفائدة الصيف العطشان، وهي ما تزال تعمل حتى الآن، وقد شارفت المائة من السنين..(متى أعدم السحيني؟) ذلك ممّا يعدّ من طرائف الإنجليز وتهويماتهم وسعة خيالهم ( هل اقول: وحسن تدبيرهم؟)
د. مصطفى احمد علي،
الرباط، أبريل ٢٠٢٠م.