جار النبى الحلو - حصة حساب.. قصة قصيرة

حجرة فصل 2/2 مضيئة ، تطل علي الممر الطويل المفضي إلي درجات سلالم الطابق الأول ، ومقعدي ملاصق للجدار ، وعلي الجدار كتب زميلي الأسمر اسمه : سعد سعد سعد بخطوط متعرجة . أسٌند بيدي اليمني علي الدرج ويدي اليسرى تحت فخذي الأيسر ، وهو يميل برأسه وأحيانا ينام بعمق ، وساعة الفسحة يتقافز ويضحك ويمرح ولا يكف عن الهزر والمشاكسة .

سعد الأسمر النحيل ذو الشعر الأسود لا يحمل معه سوى كراسة وأستيكة .
في ذلك الصباح البارد اختلست حفنة تمر من درج النملية ، دسستها في جيبي ، وقررت أن أعطيها لسعد الذي قال لي منذ أسابيع إنه لم يأكل التمر من زمان ، ربما بسبب موت أبيه ، وربما لآن أمه تشتري الفول ليأكل هو وأخته الأكبر منه بسنة كاملة .
في غيابه المتكرر من المدرسة أجلس في مقعدي وحيداً ، أتابع صخب زملائي ، أو أرتعد أمام قسوة مدرس الحساب ، سعد يحكي لي أفلام طرزان " ، ويحكي عن الحمير التي يسحبها ليغير لها الحدوة عند مطلع الوراقة مقابل قرش تعريفه ، وعن الترمس الذي تبله أمه ويبيعه أمام الدور التي يسكنون فيها بالحارة ، ويردد إنه لما يكبر سيشتري دراجة يلف بها المحلة وتكون ذات جرس لا يكف عن الرنين .
أحرص علي أن يكون في حقيبتي قلمين ، سعد لا يحمل أي قلم ، واقترض مني أول العام الدراسي قرش صاغ تناسيته تماماً .
في هرج طابور الصباح همست له بأني أحضرت له حفنة تمر ، التمعت عيناه . في حصة الحساب وخلال حلمي البهيج لحظة سأعطيه حفنة التمر ضرب مدرس الحساب الدرج بعصاه ، وانتفض قلبي ، فزعت ،مسحت مخاط أنفي بسرعة في كم قميصي الكاكي ، هجم علينا المدرس وإصبعه في عين سعد . قم ، فقام ، المدرس القصير السمين ذو القميص المقلم مفتوح الزرار باغت سعد وسأله في جدول الضرب ، وسعد لم يجب إجابة واحدة صحيحة ، فيما كنت أرفع إصبعي بتردد لأجيب ، وتنهرني نظرات المدرس القاسية ، تجاهلنا جميعا وظل يسأل سعد ، تصببت عرقاً ، وصدري يوجعني ، وأشم رائحة الترمس نفاذة من قميص سعد الكاكي المتسخ ، اهتف في داخلي بالإجابات ، اهتز بعنف ، وارتبك كلما أخطأ سعد . هوت العصا بشده علي كتف سعد ، وعلي رقبته ،أرمش ، وأعض شفتي ، ويستعصى عليّ بلع ريقي . رفع سعد يديه ودفع المدرس في صدره ، تشبث المدرس في مقعد جانبي ، وانفصم زرار عند كرشه ، جري سعد من الحجرة ، جريت خلفه ، جري كل التلاميذ ، احتشدنا في الممر ، زعق المدرس وضرب الحائط ، بعصاه بعد دقيقة صرخ تلميذ : ها هو. تعلقنا بسور الممر . رأيناه ، رأيته نحيلاً ضئيلا ، يجري في الغيطان الممتدة ، والخضرة الكثيفة تلتقي بالسماء ، يجري بلا توقف ، وهو النحيل يصغر ويصغر ويذوب في الخضرة الداكنة .



جار النبى الحلو / مصر
أعلى