عبدالحميد الغرباوي - الخاتم...

ـ 1 ـ
رأيتها تزم فمها كما لو أنها تستنفر كل قوتها لفعل شيء...أو للتخلص منه...
قلت قبل أن أرى ما رأيت، ربما هو مغص ألم بها.
ولأني رأيت خاتما، كان حين التقينا يطوق بنصر يدها اليسرى، وأنا أراه الآن، في يدها، فمن السهل التخمين أنها كانت حينذاك، تحاول أن تسله من إصبعها.. ولم يكن أمر الشفتين المزمومتين يتعلق بوجع في البطن كما خيل لي في البداية...
وجدتْ صعوبة في سله إذن...
كما لو أن الخاتم لطول الزمن به محيطا بالإصبع، صار جزءا منه، أو خط له خطا واستقر به...
الخاتم، فضي اللون، ولا أستطيع القول إنه من فضة..
في الحقيقة لم أشغل عقلي كثيرا بطبيعة معدنه، ما أثارني هو شكله.
ثعبان صغير من فضة، يبرز لسانه المشقوق صعدا في اتجاه فص من حجر أسود براق...
تساءلت لما فعلت ذلك؟
وكانت الحرارة تشعر المرء أنه داخل حمام شعبي، وليس في باحة مقهى أنيق يقابل أكبر ساحة في المدينة الصغيرة...
أجبت نفسي:
قد تكون الحرارة هي التي جعلتها تخلع الخاتم. هذا الجو الحار، الخانق، الثقيل والكئيب...
الكئيب إلى الحد الذي لا أستطيع أن أتنفس، أن أحلم، وأن...
هذه الحرارة ترغم المرء على فتح فمه استجلابا لهواء بارد وليس للكلام.
والنطق بـ " أف" أقصى ما يمكن التلفظ به...
وهذه الحرارة تدفع المرء ليس إلى خلع خاتم فقط، بل إلى التخلص من الملابس... بعضِها طبعا، وليس كلها ... تجنبا لأي حساسية ومراعاة للذوق العام...
وعلى كل، فالمقهى ليست هي الحمام...
والبادي الآن، خاتم فضي اللون، ثعباني الشكل، تتلاعب به أنامل يدها اليمنى...
ـ 2 ـ
أنا الخاتم...
ذاك الخاتم...
ماذا أقول،
كيف أعثر على الكلمة المعبرة عن قسوة الواقعة وعم أحدثه لي هذا الاعتداء الصارخ، الشنيع الفادح في شناعته من وجع؟ ...
الواقعة التي أعني لا علاقة لها بالواقعة الأخرى...
الواقعة المشهورة،
الموعودة..
الدالة على خاتمة الهواء و الماء،
خاتمة التربة و العشب،
الحشرات و الهوام
خاتمة الحيوانات و الطيور و الناس ... و الأشياء...
لم أقلقتْ راحتي،
هزت كياني،
و حكمت علي بالطرد الأبدي؟...
وحدي أعرف أنه خروج لا رجعة بعده...
خروج أبدي..
و كيف لا؟..و أنا كنت لصيق لحمها...
أنتشي بدفئه،
أنتعش برائحته...
و من خلاله، كنت أسمع في عروقها دبيب الدم الساري...
أقرأ في صدى نبضات قلبها الفرح الذي يحولها فراشة ملونة،
أو كروانا صداحا يجعل الثعبان الذي أتقمص شكله يكاد من روعة الصدح ، تسري الروح في ذرات معدنه البارد فيتمايل طربا،...
و من خلاله، كنت أقرأ الحزن الذي إذا ما أحكم قبضته على قلبها، يضطرب إيقاعه، و تعم جسدها برودة تكاد تشبه برودة الموت.. تنكمش على نفسها و يتقطر جسمها عرقا، يغمرني الماء من تحت فأكاد أطفو...
ـ 3 ـ
وبيد مترددة أكاد أقول خجلانة، قدمت لي الخاتم قائلة:
ـ خذ
نظرت في يدها الممدودة..
ومستغربا قلت:
ـ وما المناسبة؟
ردت في اندهاش:
ـ ألا تعرف!؟ ألا يعني هذا.. ألا يقول لك الخاتم شيئا؟ ...
ـ 4 ـ
.. تسأله إن كنتُ أنا الخاتم قلت له شيئا.. !.
ما تريد أن أقول له غير ما أريد أنا قوله...
تريدني أن أكون ناطقا بلسانها، و معبرا عن مكنون قلبها...ما أنا بالنسبة إليها سوى كلمة، رسالة بوح قصيرة جدا...
ـ 5 ـ
أجبت:
ـ وما عسى الخاتم قوله لي! وماذا تريدينني أن أعرف؟
لم ترد..
نظرت في عيني مليا، عميقا، ثم ما لبثت أن شردت بعينيها في اللهب الصاعد والمتجمع في الفضاء..
ـ 6 ـ
ما قلته في حقي صحيح...
أنا مجرد خاتم...سلك من معدن بارد...
لكنني يا سيدي، أعرف ما لا تعرف...
وأعرف طاردتي حق المعرفة...
تنتابها مشاعر عدم الثقة أحيانا، فتتصرف كما لو كانت في طور المراهقة...
ـ 7 ـ
أزعجني صمتها...
وشرودها أربكني
حتى إني ندمت...
ماذا كان سيحدث لو أخذت منها الخاتم؟
غير أن كبريائي يرفض الهدايا التي تأتي في غير موعدها، تأتي كضيف ثقيل دون مناسبة...
ترفض الهدايا التي لا تقول شيئا، أو تكرر نفس القول مرات حد القرف، حد الـ ـ أف ـ أو الصراخ...
وهذا الصهد...
لكن ما بيننا لا يمكن اعتقاله في تدوير خاتم، لذا أرفضه...
ولا يعجبني شكله...
ثم إني أتطير من الثعابين...
ـ 8 ـ
أغنية سمعتها ذات هجرة، عندما رافقت خاتما عجوزا كان يرددها متهكما داخل ظلمة جيب شخص صياد نساء...
" شفت الخاتم واعْجبني
تمنيتو يكون في يدي.."
وأنت الآن ترفضني...
ولعلمك، أنت أول شخص يرفضني، وهذا من حقك، وموقف شجاع يحسب لك لا عليك...
أنا قبل أن أستقر في إصبعها، سكنت أصابيع. وكل أصحابها كانوا يستغلونني لقضاء مآربهم، للوصول إلى أهدافهم الخاصة...
بت أستهجن كلمة " حب " التي تتزامن وانتقالي القسري من إصبع إلى إصبع آخر...
أكرهها...
لا أحب الحب الذي يرمق الآخر بعين النفاق...يرمق الآخر شبقا...
مالي أنا وهذا الحب الذي يجعلني لا أستقر في موضع واحد؟ ...
ـ 9 ـ
كانت لا تزال شاردة بعينيها نحو اللهب الطالع والمتجمع في الفضاء.. والخاتم في يدها...
ـ 10 ـ
مالي وهذا الحب البارد... الشفوي...المبتذل...
الحب الآخر النقي...الخالص...الشديد والحار، من شأنه أن يجعلني أستقر في مكان واحد...
ـ 11 ـ
الخاتم في يدها
وعيناها شاردتان
هي شاردة
وأنا حائر
لا أحب
لا أحبها...
وأنا لا أفكر فيما هي تفكر
ولا أفكر كما هي تفكر...
لست جديرا بحبها...
وما بيننا لا يحتاج ميثاقا، ولا قسما ولا عهدا ولا ألما أو دما ولا هذا الخاتم...
لكني إشفاقا قبلته...
ـ 12 ـ
أنا الخاتم...
أنا المهاجر دوما، رغم فضتي، رغم ثعباني...
أقول لكما..
خسئتما، خسئتما أيها الملعونان...
أعلى