د. خالد عبدالغني - الفانتازيا في نماذج من القصة القصيرة لمحمود قنديل ومحمد الدفراوي

في قصة عناق : لمحمود قنديل يقول :"عانق الدم الثرى ، فاستحال الثرى طينا نقيا ، وصار الطين حمأ زكيا ، وأصبح الحمأ صلصالا عفيا ، وأضحى الصلصال نورا دريا ، وأُلقي النور إلى الرحم العنيد ، ليحمل قبطانا - يشبهنا – صغيرا". يشير ذلك النص المكثف الذي يشتمل على عناصر صياغة الحلم كما في تفسير الأحلام لفرويد حيث يتكون من مجموعة من العناصر تقترب من خلق آدم وعيسى بن مريم [عانق الدم الثرى، فاستحال الثرى طينا نقيا ، وصار الطين حمأ زكيا ، وأصبح الحمأ صلصالا عفيا، وأضحى الصلصال نورا دريا، وأُلقي النور إلى الرحم العنيد، ليحمل قبطانا - يشبهنا – صغيرا] وتكاد أن تكون بنفس المفردات بتنوع دلالاتها الرمزية ـ فقد خلق آدم من التراب والماء - ولكن الخلق هنا من الدماء والتراب، والقبطان القادر على فعل المعجزات وقد صيغت قدرته بنفس الكيفية التي تم التعبير بها عن معجزات النبي عيسى (ع) المختلفة ، حتى بنفس - واو العطف - لكل معجزة مع أخواتها من المعجزات - راجع ما جاء في القرآن الكريم -، وما مجيء القبطان من مفردات العودة ومجيء المسيح عيسى بن مريم مرة ثانية والبهجة والمعاناة التي ترافق ذلك المجيء وعذابات وآلام الانتظار والآمال المعلقة عليه ، والموت والحياة وغيرها من المفردات الدالة على الفداء والبعث والعودة وما الدماء إلا ما يعبر عن الفداء الذي كان من مقتل عيسى أو موته وما صاحبه من أفكار ومعتقدات وما بها من نقاشات مختلفة في أغلبها [القبطان يا صغيرتي قادر على الإبحار، فهو يعشق السفائن ويصاحب الأنواء، يسافر في الخرائط ويحاور الأعماق، يهدئ الرياح ويداعب الأمواج ، يعرف المراسي ويحفظ الجزائر ويصادق المرافئ] ، وتأتي ذات البطل المعذبة بين رغبات الهو الراغبة في الإشباع الإيروسي وما تقوم به الأنا الأعلى من قمع لتلك الرغبات ، ليأتي في النهاية القلم ذلك التعبير الرمزي الدال عن الرغبة الإيروسية غير المشبعة بحسب تعبير بطل النص ورجائه من صغيرته عدم صده ليحكي كل الأشياء [والقلم ؟صادح بنورنا الآتي ، صادع بعوائد دمانا ، فاضح لأسرار نجوانا ، فلا تصدي القلم عن ذكر السرائر والأسارى الخرائط والدماء]. إنه نص يجمع ما بين الخلق في ادم وعيسى وحياة عيسى وأزماته التي واجهها وقد يكون توحد بطل النص بعيسى أيضا في عدم الإشباع الإيروسي وما اسم القصة "عناق" إلا تعبر عن تلك الرغبة. وهذا ما دفع مبدع النص لاستخدام نفس مفردات قصة النبي عيسى (ع) وتوقيت إعلان نصه مع إشراقة العام الجديد 2019.
وفي قصة "النبوءة تستيقظ مبكرا " للدكتور محمد منصور الدفراوي يقول لم يكن الأب في حاجة إلي كلام الغجرية بضرورة الاعتناء بولده الفاتن ، فقد تعرفت عليه بخفقان خاطف لقلبها بعدما رأته في مهده ، والده بين نفسه كان ينكره ، فلا يشبهه . لكن كيف يتحقق من ظنونه التي تعصف به .. أخيرا انتصرت شكوكه فقرر أن يهينه بأن يلحقه بعمل حقير .. فان كبر و اشتد ألحقه بعمل أليق به ، حينها سيختار حياته و سيقرر أي الطريقين يختار جيدا. وهنا يظهر عالم الخرافة وغوايته فتستجيب القصة القصيرة "النبوءة تستيقظ مبكرا" لعالم الخرافة والأسطورة القديم حث تكشف العرافات والكهنة عن نبوءات المستقبل التي تتصل ببعض الأطفال فتحذر الوالدين وترغبهم في آن فالاحتفاء بالطفل من أجل مستقبله الذي سيذيع فيه صوته ويعلو فيه شأنه أيضا ، ولكن لماذا اللجوء إلى دنيا الخرافة لدى أديبنا الدكتور محمد الدفراوي ؟ ولكي نجيب على هذا السؤال نفترض ولا سبيل أمامنا سوى الفرض ، أنه وهو الرجل المعني بالعلم ومناهجه وبالعلوم في بعدها التجريبي يزهو بذلك المنجز العلمي المنطقي وبالتالي فهو ممن يرفضون الخرافة في شكلها البدائي أو في أشكالها المعاصرة المتعددة، ولذلك فقد عمد إلى ذلك الطقس في بداية القصة وانتصر في نهايتها فرفضها وبرر عدم قبولها باستيقاظ الأب المبكر وكأنه كان نائما حين صدق الخرافة ولكي يظهر انتصار شكوك الأب في أن الابن لا يشبهه ولهذا فهو ليس ابنه.


(جريدة الحقيقة العراقية 26/1/2020)


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى