محمد خضير - خطاب الاستقبال

إزاء خطاب الزيارة المأمولة لبابا الفاتيكان فرنسيس، يستقبل العراقيون قداستَه بخطاب يجرُّ وراءه ذيولَ التودّد المزيف والعاطفة المتذلّلة؛ ونقيضه خطاب آخر يحمل روح الشكّ المتأصل في العروق الموروثة من عداء أكبر امبراطوريتين مشرقيّتين: الإسلامية العثمانية والأرثوذكسية الرومانية. لقد مضت عهود سُحِقت بها عظامُ المتحاربين، عبر حربين عالميتين كبيرتين، ومئات الحروب الإقليمية، خيّمت عليها غيومُ ذاك العداء الأصولي المتشدد، إلا أن ميراث تينك العائلتين الكبيريتين، يطلّ بهامته الشعثاء رغم الوعود العولمية، وخطط السياسات الشرق أوسطية الجديدة، ليقلّل من أهمية الزيارة التي يعقد عليها قسم كبير من العراقيين آمالاً في تخفيف الغلواء الدينية، والشحناء العرقية، والعواطف السائلة، وأعراض الوباء والحظر التي تستدرُّ منهم أطناناً من الدموع والمخاط والكلمات السوقية.
إن الحقيقة المبعثرة حول الطريق "المقيَّرة" بين أور القديمة وآشور المجنّحة_ وقد لا يسلكها غبطة البابا حقاً_ ترنو إلى لقاء عظيم بين أكبر عائلتين دينيّتين متأصلتين في تقاليد التكريس والمرجعية: الفاتيكان والنجف، تتداعى فيه بروتوكولات أكثر سيولة، وتتسرب منه أحاديث محرَّفة بقدر أكبر من شطحات الميديا اليومية المحفِّزة للأعصاب، والألسنة المولوِلة ليل نهار بالثبور وعظائم الأمور، كما يُشاع منذ انتهاء الحملة الصليبية على العراق في مطلع الألفية الثالثة. لقد كانت أشعة الخطاب الديني الدافئة، وقرينتُها توسلات الشخصيات المحترمة عالمياً، حاضرتين في أي ازمة كارثية على وشك الوقوع، نذكر منها زيارات الملاكم محمد علي كلاي والقس جيسي جاكسون ونواب من الكونغرس الأميركي، في الأيام الفاصلة بين غزو الكويت والهجوم الدولي الماحق على بغداد ١٩٩١. آنذاك ذرفَ العراقيون دموعاً حرّى على وجوه ممتقعة من الخوف والرجاء وانتظار زوال غيمة الحرب وسلطة الطغيان عن ربوع العراق. لم تُسعِف تلك التوسلات والوساطات والوفادات العالمية في منع وقوع الحرب، وامتداد السحابة السوداء في شكل حظر اقتصادي وأمني حول خط العرض ٣٣ في الأعوام بين ١٩٩٦_ ٢٠٠٣ . كان ذاك الخطّ السماويّ مماثلاً لخطوط القدَر التاريخية التي تعاقبت على العراق وعزلَتْه عن جيرانه الأقربين، وأهله المُبعدين، حتى غدا بقعةً من أسطورة ما قبل التاريخ/ أو ما قبل الدولة، كما أشيع أيضاً في خطاب العواطف السائلة.
لا نريد لخطاب الاستقبال اليوم، أن يتشبّع بنوايا التوسل والترقب الراجعة كرائحة شواء الأجساد في الخنادق والملاجئ: نريده دفقةً من خطابٍ يضع الزيارةَ في سياق الوضوح حول أهداف قريبة، ونوايا استراتيجية أكيدة، ويقظة سياسية تكتسح الخدَرَ في مفاصل الدولة المنهَكة من أزماتها المتتابعة. ومهما كان خطاب الرسولية المقدسة الذي يتجلبب به الجسدُ البابويّ النظيف، وينطق به اللسانُ المقدس العفيف، فإنّ خطاب الاستقبال شأنٌ عراقي بحت، يخبئ تحت جناحه عشرات الأزمات المثقلة بالعَرَق والمخاط وتوافه الكلمات التي لا معنى لها. لدينا ما نفكر به، ونزمع على الوصول إليه، بالتضحيات الرسولية وغيرها؛ وليكنْ الموكبُ المقدس، على الطريق "المقيّرة" بين آور وآشور، هي الطريق الإبراهيمية الحقّة التي لا تتجاهل الوعودَ والآمال لشعب يستحقّ الحياة الكريمة، عاجلاً لا آجلاً، بكلمات لا توشّحها العاطفةُ السائلة، والتودّد المزيف. فإنْ لم يكنْ طريقنا طريقَ الجلجلة والهجرات الرسولية، فليكن طريقَ الحقيقة العراقية العائدة من العزلة والنفي والكراهية إلى وعيها المفقود.
أعلى