عمرو الزيات - دلالة الرمز .. في قصة ( قرد إفريقي ) للدكتور سيد شعبان

يعتبر الرمز الملاذ الذي يلجأ إليه الأديب في عصرنا، ينفث من خلاله ما يعتمل في نفسه من آلام وآمال، وللرمز قيمة فنية وجمالية يشعر بها المتلقي حين يفك تلك الشفرات؛ لينفذ إلىٰ أعماق المبدع والنص. وفي رأينا أن العملية الإبداعية لا تؤتي ثمارها المرجوة من المتعة الفنية، وترسيخ القيم الهادفة إلا إذا صاحبها جهدٌ من الطرفين: المبدع والمتلقي معًا، وقد يقول قائل: المبدع يبذل جهدًا ليخرج عمله كما يريد.. هذا معلوم، ففيمَ يبذل المتلقي الجهد؟!
اعلم أيها القارئ الحبيب، أنك لن تشعر بالمتعة الفنية، ولن يفضي إليك النص بأسراره ما لم تمنحه التأمل وحسن المعاشرة، وما المانع إن أعطيتَه من وقتك القليل، ومن جهدك اليسير الذي لا يقاس بما يبذله الأديب في إبداعه؟ وصدق المازني حين قال: أبذل ( في الكتابة ) من جسمي ونفسى، ومن يومي وأمسى، ومن عقلي وحسى، وأقدمه لك.
الأديب الحق هو من يحمل رؤيته للعالم بحكم انتمائه الثقافي وموقفه الفكري، وتلك الرؤية يكون لها الأثر في تحديد أنواع التقنيات التي يلجأ إليها الكاتب في إبداعه.
الدكتور سيد شعبان ابن هذا المجتمع، يسعد بسعادته، ويشقى بشقائه؛ فهو جزء من هذه الطبقة التي نشأت علىٰ القيم وعاشت عليها، ثم قهرتها ظروف الوطن؛ فلا غرو أن نراه هنا – وفي معظم أعماله – يصور تلك الحياة كما خبرها، ويرى مشكلاته بعيون أترابه؛ فليس جديدا عليه أن يعالج – من خلال إبداعه – قضايا الطبقة التي ينتمي إليها وينتمي إليها معظم أبناء وطنه.
في قصته ( قرد إفريقي ) تعددت الرمزية، وتنوعت الدلالات الفنية التي أبدع صاحبنا في توظيفها، ومنذ العنوان يطل الرمز برأسه علينا ( قرد إفريقي ) رمز للمواطن المعدوم الكادح ذلك الذي طحنته الحياة، يجيد القفز هنا وهناك، دائم الحركة بحثًا عن ( لقمة العيش ) و"شغلتني هموم لقمة العيش، امتهنت أعمالًا كثيرًة؛ بِعتُ الصحف والمجلات، تقافزت من قطارات الدرجة الثالثة مثل قرد إفريقي، أحمل علبة من الورق أضع فيها الحلوى وأقراص الخبز المحشو" صورة تدعو للإعجاب الشديد بالنشاط؛ لكنه الإعجاب الممزوج بالأسى والرثاء؛ لضياع هذه الطاقة لمجرد تحقيق هذا الهدف (لقمة العيش)، إنه الواقع المرير لطبقة من البشر تكَدُّ بلا ملل؛ لتبقى على قيد الحياة وتفني عمرها بحثًا عن ( لقمة العيش ).
ثم تأتي ( الجدة ) رمز القيم والتقاليد التي نشأ عليها البطل ( الراوي ) منها يستمد الدعم، ويجتر حكاياتها؛ فهي مصدر القوة التي تعينه، وهي سلاحه الذي يخوض به معركة الحياة.
( السمكة ذات الذيل الأخضر والزعنفة الملونة ) الزعنفة الملونة رمز لجمال الحياة والطبيعة، أما الذيل الأخضر فرمز للنماء ووفرة الرزق ولين العيش، وهو ما يحلم به الراوي البطل وأبناءُ جيله ممن يعيشون مأساته، ويشاركونه شعوره؛ بيد أننا لا يمكننا أن نمر على سمكة صديقنا تلك دون أن نقول: إننا لا نستبعد – ونحن من أعلم الناس بثقافة أديبنا – أن كاتبنا أراد أن يرمز بالسمكة تلك السمكة المقدسة وهي من معجزات المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ فهي رمز للكنيسة التي لا دنس فيها ولا عيب، وقد استخدمها الكاتب هنا رمزًا لكل صالح يُنهي مشكلات الوطن، إنه قادم لا محالة ترفقت بنا الجدة وأخبرَتْنا (بأنها - السمكة - في يوم ما سترد الجَميل لأحدنا) الجدة تعلم ذلك كما تعلم أن هذا الصالح قادم سيعيد للحياء النماء ووفرة الرزق ( الذيل الأخضر )، وإنها لتدعو الله أن يكون ذلك قريبًا (نهرتنا جدتي وتفرست فيها ثم قالت: هذه سمكة مباركة تذكر الله بلسان لا تعرفونه، كانت نملة سيدنا سليمان تفعل مثل هذا- وتدعوه أن يفك سجنها)، يشارك بطلنا الجدة في أمنيتها؛ إذا يحلم بتلك السمكة ( تأخذني سِنَة من النوم، تمثل لي السمكة التي اصطادها أبي منذ سنوات عدة، تتحول إلى فتاة جميلة يتدلى شعرها حتى وسط ظهرها، يلتف حول رقبتها عقد من الياقوت الأحمر، تمد يدها مرحبًة بي، أحاول الهرب منها، تسكب فوق جسدي ماء المطر، عدت إنسانًا لا أعرفه، تمتلئ علبة الحلوى بقطع معدنية صفراء، تتمتم بكلمات غريبة).
(الرجل ذو المعطف الأسود ) الوصف يشي بالقوة والتسلط؛ فهو يطارد بطلنا وكل من يريدون التهرب من شراء ( تذكرة ) لقطار الدرجة الثالثة الذي يتأخر عن موعده ثلاث ساعات، وربما كان رمزًا لقوانين تنظم الحياة، قوانين وضعت لتقتل الأحلام في القلوب كما يظن المحاولون الخروج عنها، وتطل مرة أخرى صورة السمكة، إنها الفتاة التي أنقذت بطلنا من قبضة الرجل ذي المعطف الأسود (كاد الرجل ذو المعطف الأسود أن يمسك بي، أجري ناحية القطار الذي يغادر المحطة، تمد فتاة تشبه السمكة ذات الذيل الملون يديها، أصعد القطار لكن علبة الحلوى تناثرت أشياؤها مثل غبار ذرته الريح! ). إن تلك الفتاة هي تذكرته ليدرك قطارَ النجاة، وربما بالفعل قد بدأت حياته في التغير، وقريبًا سوف يعم النماء ووفرة الخير؛ فتلك الفتاة تشبه سمكة جدته المباركة.
مثل هذه الرموز التي أحسن القاصُّ توظيفها اجتمعت لتؤلف متعًة فنيًة وجماليًة منقطعةَ النظير؛ فلا غموض فيها، وقد تجاوز من خلالها الواقع الحسي وتخطاه إلى الإشارات الدفينة التي تغري المتلقي فينقب عنها متمتعا بلذة الاكتشاف وسبر أغوار المبدع؛ بيد أن صديقنا وعلى غير عادته قد بعث برسائل كثيرة في قرده الإفريقي، رسائل تفتح الأبواب أمامنا جميعا لنلج هذا العالم الجديد بحثا عن السمكة المباركة.
لدى القاص ثقافة واسعة متنوعة المصادر والأصول، وهو نموذج راقٍ للمثقف الواعي، يظهر ذلك جليًا في تأثره بالقرآن في قوله: (تذكر الله بلسان لا تعرفونه- كانت نملة سيدنا سليمان تفعل مثل هذا- وتدعوه أن يفك سجنها) ولا يخفى على القارئ شعور القاص بالمرارة من واقعنا وما آل إليه أمرنا؛ فالأديب الحق هو من يحمل رؤيته للعالم بحكم انتمائه الثقافي وموقفه الفكري، وتلك الرؤية يكون لها الأثر في تحديد أنواع التقنيات التي يلجأ إليها الكاتب في إبداعه، ولم يكن الدكتور سيد شعبان غافلًا عن الوظيفة الأصيلة للأدب وهي تصوير البيئة التي يعيش فيها، ورسم معالمها كاشفا عن عادات وتقاليد أهلها؛ وما المبدع – في أي مجال من مجالات الفن - بمعزل عن مجتمعه، بل هو نموذج يمثل هذا المجتمع.
وقد وظّف القاص لغة قريبة من لغة الحياة؛ معبرا عن طبيعة الطائفة التي ينتمي إليها بطل قصته " الراوي" (يتساقط المطر فأهرب إلى عربة قطار معطل على رصيف الانتظار. رجال ونساء يمضون ليلهم هنا، تتناهى إلى سمعي كلمات وقحة، في هذا المكان تسكن الشياطي)
فجاءت اللغة واضحة يفهمها الجميع، ولم يخاطب فئة معينة كما يفعل بعض الكتاب؛ رغم أن لغة الدكتور سيد شعبان من طراز العظماء، ولدى الرجل ثروة هائلة من الألفاظ التي تأتية طائعة خادمة لمسرحه اللغوي حسب كل قصة وكل موقف، وما يقتضيه، يجبرك القاص على معايشة القصة وكأنك بطلها مستخدمًا صيغة المضارع التي أكثر منها لما لها من إيحاء التجدد والاستمرار، وكأنها رسالة يرسلها للمتلقي؛ فحالتنا تلك متجددة مستمرة، وعلينا – نحن العرب – أن نفيق، وإلا فقطار الزمن سيدهسنا جميعًا.
وإجمالًا: فالرجل يرهقك وأنت تتبعه، ويعلم أنك ستشكره على تلك الرحلة المرهقة والممتعة في آن، تتمنى ألا يتوقف هذا الإبداع العجيب الغريب، وتلك العوالم الرحيبة التي رغم اجتهادك - أيها القارئ- في التأويل، لا يعرف أسرارها إلا هو.



عمرو الزيات
-



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى