يَشغلنا دومًا سؤال، هل الرواية مَعنية بمناقشة قضايا المجتمع، أم هي وسيلة للتسلية والمُتعة، ثم ينتهي دورها عند هذا. بمَعنى، هل الأدب للأدب، أم الأدب للحياة؟ وهل من حق رواية، أن تدخل في دهاليز صِراع، كالصراع الذي يدور بين جماعة الإخوان والمجتمع المصري ككل، حكومة وجيشًا وشرطة؟
الحقيقة وحسب اعتقادي، أنَّ الرواية إذن اقتحَمت حقل الألغام، وكانت قادرة على الخَوض فيه بمَهارة، فهي بهذا تقوم بدور لا يقل عن دور الإعلام المُوَجَّه، بل ربما تَفوقت عليه، لقدرتها على التأثير، ولكونها أداة جذب وتشويق.
ومن هنا كانت حفاوتي بهذه الرواية (أنا خير منه). هذه نقطة.
والنقطة الثانية، أنه لا يستطيع الكاتب مَهما أوتي من حَذق، ومهما تَخفى وراء شخصيات روايته أن يَنسلخ عن ذات نفسه، لابد أن يُعطي من رحيق ذاته، ويُعبِّر عن مكنون صدره، ويُعبِّر عن آرائه، ولو بالتورية، أو باحتلال إحدى الشخصيات ليبوح عن طريقها بما يعتمل في نفسه من مَشاعر وآراء.
ومن هنا، فلكَ كل الحق كقاريء أن تميل لكاتب دون غيره، ربما لأن الأرواح جنود مُجندة، ما تَعارف منها ائتلف، وترى نفسك في بعض شخصياته، أو تلمس كلماته قلبك فتتفاعل معه، وتشعر أنه عبَّر عنك وعن ذاتك وعن مكنون نفسك.
أقول هذا، لأنني حينما قرأتُ رواية (أنا خير منه) للأديب الكاتب بهاء المري، وجدتني أتفاعل معه، ليس مع الأحداث التي يتناولها تحديدًا، بل مع روح القَص وكيفية التناول، وهذا الكلام بالتحديد قُلتُه قبلاً حينما تناولتُ أعماله السابقة، وهي كلها مجموعات قصص قصيرة، تكاد تُطالعك كلها وتشد عينك وصيوان أذنك، لتقول لك أنها تمتلك روحًا ودودًا، وقلبًا نقيًا، وفكرًا راقيًا، لا يَميل لسُوء، ولا يعرف إلا الاستقامة في حياته، لا أعتقد أنه صار هكذا لكونه قاضيًا، بل هي شخصية يتميز بها البعض، فتراهم بُسطاء في عُمق لا يُخالطه كِبر، ولا يشوبه زَيف.
وحينما تتأمل تناوله لشخصياته، يظهر لك هذا جليًا، فالرواية بطبيعة الحال تتناول شخصيات ترمز للخَير، وشخصيات ترمز للشر، وعادة يقوم الروائي بإضفاء الصفات القبيحة المرفوضة عقلاً ووجدانًا للشخصيات الشريرة، والصفات المحمودة للشخصيات الطيبة، لكنك هنا لن تجد هذا الأمر، وستكتشف أنه لم يصف تلك الشخصيات الشريرة بما يَسوء، ليس عن ضَعف موهبة، أو عدم امتلاك لأدوات القَص، ولكنه يترك هذا للأحداث لتدلك عليه، فترى شَخصية مثل شخصية خالد في (ص 95) وهو يرى أن الأقدار قد تَفننت في إيذائه، فأمُّه متزوجة من الأسطى مِتعب فَظ الملامح، منكوش اللحية، ذو الأخلاق السيئة، والذي يتحدث مع الزبائن في أمور الدين التي لا يفقه منها شيئا، بل يأخذها سَماعًا من شيخ الزاوية القريبة، والذي يُسيء معاملة الأم - أم خالد - ومعاملة ولدها معها، ويتمنى الابن خالد أن يتخرج ليتكفل بنفسه وبأمه، وبخاصة أن الأم قد كبرت، والأسطى متعب يَخونها مع فتاة عشرينية على فراشها، وقد رآه خالد، لكنه لم يستطع التفوه بحرف، لأنه يعرف أنه لاجدوى من الكلام سوى زيادة معاناته ومعاناة أمه معه، وقد فرض المعلم مِتعب الذي طلق زوجته الأولى، وجعلها تأخذ طفلها معها ثم تزوج بالفتاة الصغيرة، ولم تستطع أم خالد الاعتراض، والذي لم ينل أي قسط من التعليم فرض على أم خالد النقاب الذي لم تكن تعرفه من قبل، وجعلها تحضر دروس الأخوات في الزاوية القريبة .
ولا يهمل الكاتب شأن الزوايا الصغيرة، فنراه يتحدث عنها وعن خطرها، وذلك في (ص 82) هكذا في خبطات سريعة بريشة فنان مُبدع، يرسم لنا المؤلف الموقف لنراه رؤية العَين، ونشهده بعين البَصيرة قبل النظر، ونصل إلى مَنبع أو بؤرة المشكلة، وهي الزاوية الصغيرة التي منها يخرج مَن يتكلم في أمور الدين وهو لم ينل أي قسط من التعليم، ومنها أيضا تخرج التي تتكلم في أمور الدين وهي لم تعرف الزاوية من قبل، ولم تَقربها، بل هي كانت تبيع الخُضار في الطريق، ليقول لسان حال الراوي هنا، ها أنا أضع أيديكم على مَكمَن الخَطر، فماذا أنتم فاعلون؟
ثم يعرج الكاتب على شخصية مُصعب، كمثال لشاب من الإخوان وله دور كبير في الرواية كما سنرى، مُحللاً بالأحداث ووصف البيئة الراعية، وهنا نجد نموذجًا قدمه الكاتب دون أن يصفه بأي وصف، مُكتفيا بعرض أفعاله والبيئة التي نشأ فيها والمحيطة به، فأبوه يعمل بالسعودية مدرسًا مُعارًا إليها (ص33) وأمه تعمل بذات الحقل بعقد خاص في مدرسة للبنات، ثم عادت به الأم إلى مصر ليُكمل تعليمه الثانوي والجامعي، كان مصعب قوي البنية فارع الطول، يبدو أكبر من عُمره، حلو الملامح دائم الضحك، زرقة عينيه مع حُمرة تشوب وجهه جعلته يبدو كأنه من أصول أجنبية، هكذا كان يقول عنه حمزة.
ولنا أن نُلاحظ اختيار الكاتب لأسماء أبطاله، زينب، حمزة، مصعب، خالد، ماجد.. إلخ، ومؤكد بطبيعة الحال أن هذا الاختيار لم يأتِ عفو الخاطر، بل لهدف في عقل الكاتب سوف نوضحه فيما بعد.
المهم أنَّ والد مصعب الحاج مكايد كان يزوره وأمه مرة كل عام، وحينما انتهت الإعارة بحَث عن عمل، ووجد مدرسة خاصة عمل بها واستمر بالسعودية، وكان له أخ فقير اسمه عبد ربه، هذا الأخ هو الذي اعتنى بأخيه مكايد حتى أتمَّ تعليمه من ماله الخاص ولم يكلفه شيئا، بل لم يفكر في الميراث الذي ورثاه عن والدهما، واحتفظ بميراث أخيه كاملا دون أن يمسه، وهوعبارة عن أرض زراعية وبيت للسكن، وأراد عبد ربه أن يزوج ابنته ولأنه فقير فقد تطلع الى مساعدة أخيه انتظارًا لرد الجميل، فإذا بوالد مصعب (مكايد) يطلب منه بيع الأرض أو المنزل لحاجته للنقود، ولم يفكر في مساعدة أخيه عبد ربه بشيء.
تلك هي البيئة من ناحية الأب التي نشأ فيها مصعب، والجو الذي ترعرع فيه، رسَمه الكاتب، وترك لنا نحن القراء استخلاص الصورة التي تكونت داخل هذه الشخصية شخصية مصعب.
ثم نجد الكاتب يحكي عن شخصية مصعب ذاته (ص42) التي تكونت من خلال سرد بعض الأحداث السريعة عنه، لنعرف نوع تفكيره في المدرسة، حينما قرأ حمزة شِعرًا نهاه مصعب عن هذا قائلا إن الشعر حرام، وحينما يقول حمزة أن النبي (صلعم) كان يحب الشعر، وكان شاعره المفضل حسان بن ثابت، قال مصعب ساخرًا، أحاديث غير صحيحة يا حمزة، ثم حينما تُحادثه الأخصائية الاجتماعية بالمدرسة، يقول لها أمي قالت إنها قرأت العديد من الكتب، وسمعت ذلك من مشايخ السعودية. بعدها يعود مصعب لبيته ويحكي لأمه ما حدث تُزمجر (ص 44) وتقول له لا تَسمع لأولئك، وأعرض عن الجاهلين!
وبطبيعة الحال، ونتيجة لتلك البيئة المُحيطة بمصعب، نجد الكاتب يقدم لنا (ص 49) صورة من أفعاله، وهي تتسق من حيث كونها نتيجة بالمسببات التي سببتها، فمصعب ذات مرة وهو بالمدرسة أخذ حقيبة زميله وألقاها في وجهه، فأخذ الزميل حقيبة مصعب ليرميها في وجهه، فصرخ مصعب أن فيها كتاب القرآن الكريم، فترك الزميل الحقيبة واتجه إليه ليضربه، فصرخ مصعب أنا في حِمَى ربنا، ويُكمل الكاتب الرواية قائلا: (لم يعبأ التلميذ بما قال مصعب هذه المَرة، واستمر مُقبلا عليه قائلا: سيبك انت من تهديدنا بالمصحف، أنتَ نصاب).
ويتذكر مصعب كيف كانت حراراته مرتفعة، وأصرَّت أمه على إيقاظه لصلاة الفجر في المسجد، بحجة انه مادام الطبيب لم يمنعك من مغادرة البيت فاخرج.
أيضا حينما يزور حمزة بيت مصعب ويجده يأكل وأمه معه، ويصران على مشاركتهما الطعام، ويطلب ملعقة فتُنكر الأم عليه هذا، وتقول إنَّ السُنة النبوية لَعق اليدين بعد الأكل، وهكذا يُحدثنا الكاتب عن البيئة الراعية لمُصعب من ناحية الأم لتكتمل الصورة.
كما نرى ضربات سريعة بريشة ماهرة، تعرف ماذا تريد أن تقول، فهي ترسم وتُحدد ملامح، وتترك لك أيها القاريء استخلاص النتيجة بنفسك.
وإن كان ضمير القاضي لايتركه، فيُحاول الأخذ بالأسباب وتحليل الأحداث، وذلك بخلق حوار بين حمزة وزينب يشرح ويُحلل فيه الأمور كما رأينا في ص (50، 51، 52).
وفي المقابل، ولكي يقدم لنا الكاتب شخصية حمزة نراه في (ص 41) يقول عن حمزة.. (اجتهد حمزة في دراسته وأصبح من المتفوقين، كان قريبًا من قلوب مدرسيه وزملائه، واشتهر بينهم برقة الطبع وخفة الظل، حتى باتت المدرسة كلها تعرفه، حرص حمزة على تفوقه حتى اجتاز الثانوية العامة، وكان لكثرة اطلاعه وقراءته أثر على أنشطته المدرسية).
وكي تكتمل ملامح البيئة المُحيطة بحمزة، كما تكلم الكاتب عن البيئة المحيطة بمصعب، والمحيطة بخالد، نجده يتكلم عن زينب (ص 55) وهي الحاضنة الرئيسة لحمزة منذ صِغره، ومنذ مات والده العمدة في أحد قرى أسيوط، هي التي عاهدت والدها على الاهتمام بحمزة ورعايته حتى تُسلمه لزوجة تسعد به وتحفظه من بعدها، وقد رسم الكاتب شخصية زينب بطريقة جعلتنا نميل اليها، وننجذب لشخصيتها، ونرى فيها أمًا أو أختًا أو قريبة لنا هنا أو هناك، فهي قد دخلت الكُتاب وحَفظت القرآن الكريم، وكان أبوها يفتخربها ويُعدها لتكون شبيهة بعائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ، أول امرأة تُحاضر بالأزهر الشريف، وكان دومًا يقول لها: (البنت زي الولد يا زينب، واذا فلحَت خُلقًا وعِلمًا ودينًا استحالت الى مَصنع للرجال) وكان يذكر لها حكمة الإمام محمد ماضي أبو العزايم التي تقول: (الذكور نِعَم، والإناثُ حسنات، والانسان يُسأل عن النِعَم، ويُؤجر بالحسنات).
ولكي يُقرب لنا الكاتب صورة شخصية زينب أكثر، قصَّ علينا حدثًا يدل على شجاعتها وسرعة تصرفها وبديهتها، فيومًا حدث حريق في مَتجر المدرسة، وخشي الجميع من الدخول لقوة النيران، فما كان منها إلا أن دخلت ووجدت فوهة أنبوبة الموقد بجوار الخرطوم مشتعلة، فأغلقت مَحبس الأنبوبة وقطَعت الخرطوم وأنقذت المَتجر من الحريق، وفي علاقتها بجيرانها لم تتقاعس عن مساعدة جاراتها، بدءًا من السُلف النقدية (ص 56) الى النُصح، إلى رُقية الأطفال.. تلك هي البيئة الراعية لحمزة.
- ونلاحظ أن الكاتب لا يغفل ذكر الأماكن السياحية في القاهرة والإسكندرية:
ولا يغفل عن تقديم معلومات ضمن روايته كما في (ص 64) حينما تحدث عن بناء مسجد الحسين بالقاهرة، وأيضا لا يغفل الشرح والتحليل لكثير من الأمور الخاصة بالإخوان وذكر تاريخهم منذ أيام النقراشي الذي حَلَّ جماعتهم، وطُرُق تجنيدهم للشباب وإغرائهم بالمال والسَفر، والتأثير عليهم باسم الدين والجهاد وما سوف يناله مَن يُقتل منهم في الآخرة من الحُور العين والجنات، فهم لا يتورعون عن استخدام الدين وسيلة لتحقيق أهدافهم وأخيرًا طُرق أخذ البيعة.
كل هذا يُقدمه الكاتب بقلم لا يعرف التردد، بل هو كمِشرط جراح يعرف جيدا أنه إذا تردد لحظة فشل عمله كله، لذا فهو يشرح ويُحلل لكي يُظهر العَيب للعَيان، ولكي ينتزع جذور الشر تمامًا سَعيًا للشفاء.
- أيضا نلاحظ أن الكاتب استعان بالشعر في روايته كما في (ص 70):
ولا ينسي كاتبنا المواجهات التي تمت فكريًا بين جماعة الإخوان والمعتدلين من أصحاب الفكر في مصر، فيقدم لنا شخصية الدكتور محمد سعد والد فيروز خطيبة حمزة الذي تَصدى لشرح ألاعيب الإخوان والرد على أفكارهم بالمنطق والحجة القوية، وبدلا من مواجهة الفكر بالفكر، اتهموه بالكفر وسعوا الى تَصفيته ومحاولة قتله، مما أدى به في النهاية إلى العَيش على كرسي متحرك.
في بداية روايته، وقبل الدخول في المَتن، نجد الكاتب يُبرِّر لنا سبب عَنونة روايته بهذا العنوان (أنا خير منه) فيقول في (ص 7) فمَن تمثل قول إبليس أنا خير منه، وزَكي نفسه هلك، ومَن تمثل قول سيد الخلق (صلعم) أفلا أكون عبدًا شكورًا نجَا، وبهذا يَضعنا الكاتب أمام السبب الذي جعله يَختار هذا الاسم، وكأنه يقول لنا: إنه منذ البداية قد خَطط لكي يَفضح إخوان الشيطان، الذين رفعوا بلسان حالهم شعار (أنا خير منه) قاصدين عامة الناس والحكومة والجيش، وأن يُفند أراءهم، ويُقارعهم الحُجة بمثلها، وهو في رأيي قد نجح كثيرًا في هذا.
ولا ينسى الكاتب أن يُورد لنا في روايته إشارة لتعاون السَلفية مع الإخوان كما في ص 183 قائلا: (وبعد انتهاء اللقاء، وفي أثناء عودته الى مسكنه تَعجب جاسر في نفسه من وجود هذا التنسيق بين نادر ضُرغامي الرجل السلفي، والمقاول محمد كمال عسر الذي ينتمي للإخوان).
ويُشير الكاتب أيضا لتأثير الوهابية، والذي أحدثته في المجتمع المصري من تغيرات، فنجده يتحدث عنها في (ص 167، 178) فيقول في الأولى (ص 167) على لسان الدكتور محمد سعد ..( ومن الخطورة بمكان، أن يعتقد أحد أنه هو المسلم وغيره ليس كذلك، فالذي قوَّض الخلافة وسَعى جاهدًا إلى إسقاطها، هم الوهابية السلفية أنفسهم، فحين خرجوا من نَجْد وتغلبوا على الحَرمين، كانوا ينتحلون مذهب الحنابلة، واعتقدوا أنهم هم المسلمون وحدهم وأن من يخالف اعتقادهم مشرك، فاستباحوا قتل أهل السنة، وقتلوا علمائهم، وهذا ما قاله الشيخ ابن عابدين في حاشة رد المحتار الجزء الرابع).
وفي الثانية (ص 178) يقول الكاتب أيضا على لسان الدكتور محمد سعد، حينما سأله حمزة: هل المُتطرفين يَعلمون جيدًا ما يفعلون أم يجهلونه؟ فرّدَّ الدكتور قائلا: (يعلمون جيدا، ومايقومون به هو مؤامرة، والغرض منها إنشاء فكر مُتطرف لا يَمُت للإسلام بصلة، ليَتصدر المَشهد ويحتكر الحديث باسم الإسلام، وهو الفكر الوهابي السلفي والإخواني الذي يَضرب بجذوره إلى فكر ابن تيمية، الذي جَدد فكر الخوارج في القرن السابع الهجري، ويقوم على تعمد إفراغ الدين من مضمونه عن طريق نزع القوة الرَوحانية من شعائر الدين وعباداته ومعاملاته، وجعلها طقوسًا خالية من الروح.
ونلاحظ أن أسلوب الكاتب الأدبي لا يخلو من جدة في العرض، نظرًا لأنه يُناقش قضية، ربما تكون هي قضية عصرنا الحالي، الأولي لما تُمثله من فتنة هزت المجتمع المصري، وحَفزته لمواجهتها سنوات طويلة بكل ما يملك من فكر وجيش وشرطة وعشرات الشهداء أيضًا.
وأخيرًا تجيء نهاية الرواية باستشهاد حمزة الذي تَطوع في الجيش بشهادة بكالوريوس الهندسة المدنية، ونُقل إلى سيناء، وفي ليلة مَقتله مَرَّ على الخدمة فوجد جنديًا مسيحيًا يُدعى مينا، واقفًا مريضًا يرتعش من البرد والحُمَّى فأخذ مكانه، وإذا بانتحاري يرتدي حزامًا ناسفًا هو مصعب زميله، يترجل من عربة، ويقترب منه دون أن ينتبه لتحذيره، ورغم أن مصعب عرفه، إلا أنه لم يتراجع، واقترب منه وفجَّر نفسه، وفجره معه، وكأن الكاتب يُريد أن يقول لنا، إنَّ النارَ ستحرق الجميع، البريء والمُجرم، وعلينا جميعا أن نَحذر من هذا المصير.
والمُلاحَظ أن الرواية تعقد مُقابلة ما بين قُوى الشر ممثلة في الإخوان وأذنابهم، وقُوى الخير ممثلة في زينب وفيروز ودكتور محمد سعد وحمزة ذاته، ولكي تكون المقابلة عادلة والمقارنة لا غبن فيها - وبخاصة أن الكاتب قاضي يعرف كيف يحلل الأمور ويصل إلى لب الموضوع - فإنه لم يُغفل البيئة التي تَرعرع فيها الشر، وكذلك البيئة التي ترعرع فيها الخير، فحمزة وَجَد الرعاية السليمة، والفكر السليم، والفطرة السليمة، والدين الصحيح البعيدعن التطرف، بينما الجانب الآخر لم يجد من يتعهده، فأحدهم أمُّه لم تجد من يأويها فتزوجت سمكري لا يَفقه شيئا، وفي ذات الوقت يتكلم في الدين، بينما أعماله بعيدة كل البُعد عن الدين، والآخَر تركه والده وعاش بالسعودية مُكتفيًا بزيارة شهر كل عام مما ساعد على انحرافه وتأثره بالجماعات المتطرفة، وهكذا بقية الذين ساروا في طريق الشر، فالبيئة الحاضنة لم تُعطهم كفايتهم من التعليم الصحيح لأمور دينهم، ولم تُثقفهم الثقافة التي تُخولهم أن يحكموا بالعقل والمَنطق على الأشياء، ويعرفوا أصول دينهم، وبالتالي سَهَّل على تلك الجماعات شدهم إليها.
- ومن هنا، ومن تلك النقطة بالذات التي أكد عليها الكاتب تكمن المُشكلة الكبري، لماذا؟
لأنه يجب الانتباه لهؤلاء الشباب المُنتشرين في ربوع مصر، والحرص عليهم وتوجيه نشاطهم لفائدة الإسلام والبلد، بدلاً من أن يكونوا قنابل موقوتة يَستخدمها الشيطان في تدبير مَفاسده، وأعتقد أن تلك هي قضية الكاتب الأولى، والتي من أجلها دقَّ ناقوس الخَطر، لننتبه ونُدرك ونُوجه جُلُّ اهتمامنا اليهم، وكما قلت سابقا، فهو قد اختار أسماء أبطال روايته، زينب، حمزة، ماجد، مصعب، محمد ..إلخ، ليقول لنا أننا عرب مسلمين، ولن ننسلخ عن ديننا، ولكننا نُحارب التطرف، وكل من يُشوه هذا الدين بأفعال شيطانية قانونها الأول هو عبارة (أنا خير منه).
وإذا نظرنا إلى الاهداء، (ص 5) وربطناه بمتن الرواية، والمُقابلة ما بين طرفي النزاع، لوجدنا الرباط الذي يربط الثلاثة معًا، الاهداء، والمتن، والعنوان، فالكاتب منذ البداية يقول لك: (إلى مَن يبذرون الحبَ في الأرض، فتجني البشرية ثمار السلام، وإلى احفادي وأسباطي، ثمار العمر وأزاهير الحياة، ليلى، قمر، نور، يحيي، مَلك، بهاء). قاصدًا هنا إنه مع السلام، والفطرة السليمة، والإسلام الصحيح، بعيدا عن التطرف، ومن هذا المُنطلق يكتب روايته.
أخيرا لا أنسى لغة الكاتب الجيدة السلسة البعيدة عن التقعر، وقدرته على الوصف وبخاصة مَشاهد الريف الرائعة، وكذلك ذكره آثار ومَزارات القاهرة والإسكندرية، وأيضا اهتمامه بالمعلوماتية في روايته في أكثر من مكان منها، فتحدث عن مسجد الحسين وتاريخه وعن قلعة صلاح الدين.
وأخيرا لا أنسى أيضا، قدرته على التحليل وإدارة المناقشات الجادة الرصينة بين أبطال العمل في قضية الإخوان، بروح القاضي العادل، الذي يمتلك المقدرة على الغوص في أعماق قضاياه، وإيجاد الحلول لها، بهدف تحقيق العدالة قبل أي شيء.
أسعدتني الرواية، وتمتعت بأسلوب الكاتب وروح القص كثيرًا. كل الشكر والتقدير للكاتب المستشار بهاء المري. وتمنياتي بمزيد التوفيق.
- محمد عباس علي داود
- الإسكندرية في 16/2/2012
2 commentaires
الحقيقة وحسب اعتقادي، أنَّ الرواية إذن اقتحَمت حقل الألغام، وكانت قادرة على الخَوض فيه بمَهارة، فهي بهذا تقوم بدور لا يقل عن دور الإعلام المُوَجَّه، بل ربما تَفوقت عليه، لقدرتها على التأثير، ولكونها أداة جذب وتشويق.
ومن هنا كانت حفاوتي بهذه الرواية (أنا خير منه). هذه نقطة.
والنقطة الثانية، أنه لا يستطيع الكاتب مَهما أوتي من حَذق، ومهما تَخفى وراء شخصيات روايته أن يَنسلخ عن ذات نفسه، لابد أن يُعطي من رحيق ذاته، ويُعبِّر عن مكنون صدره، ويُعبِّر عن آرائه، ولو بالتورية، أو باحتلال إحدى الشخصيات ليبوح عن طريقها بما يعتمل في نفسه من مَشاعر وآراء.
ومن هنا، فلكَ كل الحق كقاريء أن تميل لكاتب دون غيره، ربما لأن الأرواح جنود مُجندة، ما تَعارف منها ائتلف، وترى نفسك في بعض شخصياته، أو تلمس كلماته قلبك فتتفاعل معه، وتشعر أنه عبَّر عنك وعن ذاتك وعن مكنون نفسك.
أقول هذا، لأنني حينما قرأتُ رواية (أنا خير منه) للأديب الكاتب بهاء المري، وجدتني أتفاعل معه، ليس مع الأحداث التي يتناولها تحديدًا، بل مع روح القَص وكيفية التناول، وهذا الكلام بالتحديد قُلتُه قبلاً حينما تناولتُ أعماله السابقة، وهي كلها مجموعات قصص قصيرة، تكاد تُطالعك كلها وتشد عينك وصيوان أذنك، لتقول لك أنها تمتلك روحًا ودودًا، وقلبًا نقيًا، وفكرًا راقيًا، لا يَميل لسُوء، ولا يعرف إلا الاستقامة في حياته، لا أعتقد أنه صار هكذا لكونه قاضيًا، بل هي شخصية يتميز بها البعض، فتراهم بُسطاء في عُمق لا يُخالطه كِبر، ولا يشوبه زَيف.
وحينما تتأمل تناوله لشخصياته، يظهر لك هذا جليًا، فالرواية بطبيعة الحال تتناول شخصيات ترمز للخَير، وشخصيات ترمز للشر، وعادة يقوم الروائي بإضفاء الصفات القبيحة المرفوضة عقلاً ووجدانًا للشخصيات الشريرة، والصفات المحمودة للشخصيات الطيبة، لكنك هنا لن تجد هذا الأمر، وستكتشف أنه لم يصف تلك الشخصيات الشريرة بما يَسوء، ليس عن ضَعف موهبة، أو عدم امتلاك لأدوات القَص، ولكنه يترك هذا للأحداث لتدلك عليه، فترى شَخصية مثل شخصية خالد في (ص 95) وهو يرى أن الأقدار قد تَفننت في إيذائه، فأمُّه متزوجة من الأسطى مِتعب فَظ الملامح، منكوش اللحية، ذو الأخلاق السيئة، والذي يتحدث مع الزبائن في أمور الدين التي لا يفقه منها شيئا، بل يأخذها سَماعًا من شيخ الزاوية القريبة، والذي يُسيء معاملة الأم - أم خالد - ومعاملة ولدها معها، ويتمنى الابن خالد أن يتخرج ليتكفل بنفسه وبأمه، وبخاصة أن الأم قد كبرت، والأسطى متعب يَخونها مع فتاة عشرينية على فراشها، وقد رآه خالد، لكنه لم يستطع التفوه بحرف، لأنه يعرف أنه لاجدوى من الكلام سوى زيادة معاناته ومعاناة أمه معه، وقد فرض المعلم مِتعب الذي طلق زوجته الأولى، وجعلها تأخذ طفلها معها ثم تزوج بالفتاة الصغيرة، ولم تستطع أم خالد الاعتراض، والذي لم ينل أي قسط من التعليم فرض على أم خالد النقاب الذي لم تكن تعرفه من قبل، وجعلها تحضر دروس الأخوات في الزاوية القريبة .
ولا يهمل الكاتب شأن الزوايا الصغيرة، فنراه يتحدث عنها وعن خطرها، وذلك في (ص 82) هكذا في خبطات سريعة بريشة فنان مُبدع، يرسم لنا المؤلف الموقف لنراه رؤية العَين، ونشهده بعين البَصيرة قبل النظر، ونصل إلى مَنبع أو بؤرة المشكلة، وهي الزاوية الصغيرة التي منها يخرج مَن يتكلم في أمور الدين وهو لم ينل أي قسط من التعليم، ومنها أيضا تخرج التي تتكلم في أمور الدين وهي لم تعرف الزاوية من قبل، ولم تَقربها، بل هي كانت تبيع الخُضار في الطريق، ليقول لسان حال الراوي هنا، ها أنا أضع أيديكم على مَكمَن الخَطر، فماذا أنتم فاعلون؟
ثم يعرج الكاتب على شخصية مُصعب، كمثال لشاب من الإخوان وله دور كبير في الرواية كما سنرى، مُحللاً بالأحداث ووصف البيئة الراعية، وهنا نجد نموذجًا قدمه الكاتب دون أن يصفه بأي وصف، مُكتفيا بعرض أفعاله والبيئة التي نشأ فيها والمحيطة به، فأبوه يعمل بالسعودية مدرسًا مُعارًا إليها (ص33) وأمه تعمل بذات الحقل بعقد خاص في مدرسة للبنات، ثم عادت به الأم إلى مصر ليُكمل تعليمه الثانوي والجامعي، كان مصعب قوي البنية فارع الطول، يبدو أكبر من عُمره، حلو الملامح دائم الضحك، زرقة عينيه مع حُمرة تشوب وجهه جعلته يبدو كأنه من أصول أجنبية، هكذا كان يقول عنه حمزة.
ولنا أن نُلاحظ اختيار الكاتب لأسماء أبطاله، زينب، حمزة، مصعب، خالد، ماجد.. إلخ، ومؤكد بطبيعة الحال أن هذا الاختيار لم يأتِ عفو الخاطر، بل لهدف في عقل الكاتب سوف نوضحه فيما بعد.
المهم أنَّ والد مصعب الحاج مكايد كان يزوره وأمه مرة كل عام، وحينما انتهت الإعارة بحَث عن عمل، ووجد مدرسة خاصة عمل بها واستمر بالسعودية، وكان له أخ فقير اسمه عبد ربه، هذا الأخ هو الذي اعتنى بأخيه مكايد حتى أتمَّ تعليمه من ماله الخاص ولم يكلفه شيئا، بل لم يفكر في الميراث الذي ورثاه عن والدهما، واحتفظ بميراث أخيه كاملا دون أن يمسه، وهوعبارة عن أرض زراعية وبيت للسكن، وأراد عبد ربه أن يزوج ابنته ولأنه فقير فقد تطلع الى مساعدة أخيه انتظارًا لرد الجميل، فإذا بوالد مصعب (مكايد) يطلب منه بيع الأرض أو المنزل لحاجته للنقود، ولم يفكر في مساعدة أخيه عبد ربه بشيء.
تلك هي البيئة من ناحية الأب التي نشأ فيها مصعب، والجو الذي ترعرع فيه، رسَمه الكاتب، وترك لنا نحن القراء استخلاص الصورة التي تكونت داخل هذه الشخصية شخصية مصعب.
ثم نجد الكاتب يحكي عن شخصية مصعب ذاته (ص42) التي تكونت من خلال سرد بعض الأحداث السريعة عنه، لنعرف نوع تفكيره في المدرسة، حينما قرأ حمزة شِعرًا نهاه مصعب عن هذا قائلا إن الشعر حرام، وحينما يقول حمزة أن النبي (صلعم) كان يحب الشعر، وكان شاعره المفضل حسان بن ثابت، قال مصعب ساخرًا، أحاديث غير صحيحة يا حمزة، ثم حينما تُحادثه الأخصائية الاجتماعية بالمدرسة، يقول لها أمي قالت إنها قرأت العديد من الكتب، وسمعت ذلك من مشايخ السعودية. بعدها يعود مصعب لبيته ويحكي لأمه ما حدث تُزمجر (ص 44) وتقول له لا تَسمع لأولئك، وأعرض عن الجاهلين!
وبطبيعة الحال، ونتيجة لتلك البيئة المُحيطة بمصعب، نجد الكاتب يقدم لنا (ص 49) صورة من أفعاله، وهي تتسق من حيث كونها نتيجة بالمسببات التي سببتها، فمصعب ذات مرة وهو بالمدرسة أخذ حقيبة زميله وألقاها في وجهه، فأخذ الزميل حقيبة مصعب ليرميها في وجهه، فصرخ مصعب أن فيها كتاب القرآن الكريم، فترك الزميل الحقيبة واتجه إليه ليضربه، فصرخ مصعب أنا في حِمَى ربنا، ويُكمل الكاتب الرواية قائلا: (لم يعبأ التلميذ بما قال مصعب هذه المَرة، واستمر مُقبلا عليه قائلا: سيبك انت من تهديدنا بالمصحف، أنتَ نصاب).
ويتذكر مصعب كيف كانت حراراته مرتفعة، وأصرَّت أمه على إيقاظه لصلاة الفجر في المسجد، بحجة انه مادام الطبيب لم يمنعك من مغادرة البيت فاخرج.
أيضا حينما يزور حمزة بيت مصعب ويجده يأكل وأمه معه، ويصران على مشاركتهما الطعام، ويطلب ملعقة فتُنكر الأم عليه هذا، وتقول إنَّ السُنة النبوية لَعق اليدين بعد الأكل، وهكذا يُحدثنا الكاتب عن البيئة الراعية لمُصعب من ناحية الأم لتكتمل الصورة.
كما نرى ضربات سريعة بريشة ماهرة، تعرف ماذا تريد أن تقول، فهي ترسم وتُحدد ملامح، وتترك لك أيها القاريء استخلاص النتيجة بنفسك.
وإن كان ضمير القاضي لايتركه، فيُحاول الأخذ بالأسباب وتحليل الأحداث، وذلك بخلق حوار بين حمزة وزينب يشرح ويُحلل فيه الأمور كما رأينا في ص (50، 51، 52).
وفي المقابل، ولكي يقدم لنا الكاتب شخصية حمزة نراه في (ص 41) يقول عن حمزة.. (اجتهد حمزة في دراسته وأصبح من المتفوقين، كان قريبًا من قلوب مدرسيه وزملائه، واشتهر بينهم برقة الطبع وخفة الظل، حتى باتت المدرسة كلها تعرفه، حرص حمزة على تفوقه حتى اجتاز الثانوية العامة، وكان لكثرة اطلاعه وقراءته أثر على أنشطته المدرسية).
وكي تكتمل ملامح البيئة المُحيطة بحمزة، كما تكلم الكاتب عن البيئة المحيطة بمصعب، والمحيطة بخالد، نجده يتكلم عن زينب (ص 55) وهي الحاضنة الرئيسة لحمزة منذ صِغره، ومنذ مات والده العمدة في أحد قرى أسيوط، هي التي عاهدت والدها على الاهتمام بحمزة ورعايته حتى تُسلمه لزوجة تسعد به وتحفظه من بعدها، وقد رسم الكاتب شخصية زينب بطريقة جعلتنا نميل اليها، وننجذب لشخصيتها، ونرى فيها أمًا أو أختًا أو قريبة لنا هنا أو هناك، فهي قد دخلت الكُتاب وحَفظت القرآن الكريم، وكان أبوها يفتخربها ويُعدها لتكون شبيهة بعائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ، أول امرأة تُحاضر بالأزهر الشريف، وكان دومًا يقول لها: (البنت زي الولد يا زينب، واذا فلحَت خُلقًا وعِلمًا ودينًا استحالت الى مَصنع للرجال) وكان يذكر لها حكمة الإمام محمد ماضي أبو العزايم التي تقول: (الذكور نِعَم، والإناثُ حسنات، والانسان يُسأل عن النِعَم، ويُؤجر بالحسنات).
ولكي يُقرب لنا الكاتب صورة شخصية زينب أكثر، قصَّ علينا حدثًا يدل على شجاعتها وسرعة تصرفها وبديهتها، فيومًا حدث حريق في مَتجر المدرسة، وخشي الجميع من الدخول لقوة النيران، فما كان منها إلا أن دخلت ووجدت فوهة أنبوبة الموقد بجوار الخرطوم مشتعلة، فأغلقت مَحبس الأنبوبة وقطَعت الخرطوم وأنقذت المَتجر من الحريق، وفي علاقتها بجيرانها لم تتقاعس عن مساعدة جاراتها، بدءًا من السُلف النقدية (ص 56) الى النُصح، إلى رُقية الأطفال.. تلك هي البيئة الراعية لحمزة.
- ونلاحظ أن الكاتب لا يغفل ذكر الأماكن السياحية في القاهرة والإسكندرية:
ولا يغفل عن تقديم معلومات ضمن روايته كما في (ص 64) حينما تحدث عن بناء مسجد الحسين بالقاهرة، وأيضا لا يغفل الشرح والتحليل لكثير من الأمور الخاصة بالإخوان وذكر تاريخهم منذ أيام النقراشي الذي حَلَّ جماعتهم، وطُرُق تجنيدهم للشباب وإغرائهم بالمال والسَفر، والتأثير عليهم باسم الدين والجهاد وما سوف يناله مَن يُقتل منهم في الآخرة من الحُور العين والجنات، فهم لا يتورعون عن استخدام الدين وسيلة لتحقيق أهدافهم وأخيرًا طُرق أخذ البيعة.
كل هذا يُقدمه الكاتب بقلم لا يعرف التردد، بل هو كمِشرط جراح يعرف جيدا أنه إذا تردد لحظة فشل عمله كله، لذا فهو يشرح ويُحلل لكي يُظهر العَيب للعَيان، ولكي ينتزع جذور الشر تمامًا سَعيًا للشفاء.
- أيضا نلاحظ أن الكاتب استعان بالشعر في روايته كما في (ص 70):
ولا ينسي كاتبنا المواجهات التي تمت فكريًا بين جماعة الإخوان والمعتدلين من أصحاب الفكر في مصر، فيقدم لنا شخصية الدكتور محمد سعد والد فيروز خطيبة حمزة الذي تَصدى لشرح ألاعيب الإخوان والرد على أفكارهم بالمنطق والحجة القوية، وبدلا من مواجهة الفكر بالفكر، اتهموه بالكفر وسعوا الى تَصفيته ومحاولة قتله، مما أدى به في النهاية إلى العَيش على كرسي متحرك.
في بداية روايته، وقبل الدخول في المَتن، نجد الكاتب يُبرِّر لنا سبب عَنونة روايته بهذا العنوان (أنا خير منه) فيقول في (ص 7) فمَن تمثل قول إبليس أنا خير منه، وزَكي نفسه هلك، ومَن تمثل قول سيد الخلق (صلعم) أفلا أكون عبدًا شكورًا نجَا، وبهذا يَضعنا الكاتب أمام السبب الذي جعله يَختار هذا الاسم، وكأنه يقول لنا: إنه منذ البداية قد خَطط لكي يَفضح إخوان الشيطان، الذين رفعوا بلسان حالهم شعار (أنا خير منه) قاصدين عامة الناس والحكومة والجيش، وأن يُفند أراءهم، ويُقارعهم الحُجة بمثلها، وهو في رأيي قد نجح كثيرًا في هذا.
ولا ينسى الكاتب أن يُورد لنا في روايته إشارة لتعاون السَلفية مع الإخوان كما في ص 183 قائلا: (وبعد انتهاء اللقاء، وفي أثناء عودته الى مسكنه تَعجب جاسر في نفسه من وجود هذا التنسيق بين نادر ضُرغامي الرجل السلفي، والمقاول محمد كمال عسر الذي ينتمي للإخوان).
ويُشير الكاتب أيضا لتأثير الوهابية، والذي أحدثته في المجتمع المصري من تغيرات، فنجده يتحدث عنها في (ص 167، 178) فيقول في الأولى (ص 167) على لسان الدكتور محمد سعد ..( ومن الخطورة بمكان، أن يعتقد أحد أنه هو المسلم وغيره ليس كذلك، فالذي قوَّض الخلافة وسَعى جاهدًا إلى إسقاطها، هم الوهابية السلفية أنفسهم، فحين خرجوا من نَجْد وتغلبوا على الحَرمين، كانوا ينتحلون مذهب الحنابلة، واعتقدوا أنهم هم المسلمون وحدهم وأن من يخالف اعتقادهم مشرك، فاستباحوا قتل أهل السنة، وقتلوا علمائهم، وهذا ما قاله الشيخ ابن عابدين في حاشة رد المحتار الجزء الرابع).
وفي الثانية (ص 178) يقول الكاتب أيضا على لسان الدكتور محمد سعد، حينما سأله حمزة: هل المُتطرفين يَعلمون جيدًا ما يفعلون أم يجهلونه؟ فرّدَّ الدكتور قائلا: (يعلمون جيدا، ومايقومون به هو مؤامرة، والغرض منها إنشاء فكر مُتطرف لا يَمُت للإسلام بصلة، ليَتصدر المَشهد ويحتكر الحديث باسم الإسلام، وهو الفكر الوهابي السلفي والإخواني الذي يَضرب بجذوره إلى فكر ابن تيمية، الذي جَدد فكر الخوارج في القرن السابع الهجري، ويقوم على تعمد إفراغ الدين من مضمونه عن طريق نزع القوة الرَوحانية من شعائر الدين وعباداته ومعاملاته، وجعلها طقوسًا خالية من الروح.
ونلاحظ أن أسلوب الكاتب الأدبي لا يخلو من جدة في العرض، نظرًا لأنه يُناقش قضية، ربما تكون هي قضية عصرنا الحالي، الأولي لما تُمثله من فتنة هزت المجتمع المصري، وحَفزته لمواجهتها سنوات طويلة بكل ما يملك من فكر وجيش وشرطة وعشرات الشهداء أيضًا.
وأخيرًا تجيء نهاية الرواية باستشهاد حمزة الذي تَطوع في الجيش بشهادة بكالوريوس الهندسة المدنية، ونُقل إلى سيناء، وفي ليلة مَقتله مَرَّ على الخدمة فوجد جنديًا مسيحيًا يُدعى مينا، واقفًا مريضًا يرتعش من البرد والحُمَّى فأخذ مكانه، وإذا بانتحاري يرتدي حزامًا ناسفًا هو مصعب زميله، يترجل من عربة، ويقترب منه دون أن ينتبه لتحذيره، ورغم أن مصعب عرفه، إلا أنه لم يتراجع، واقترب منه وفجَّر نفسه، وفجره معه، وكأن الكاتب يُريد أن يقول لنا، إنَّ النارَ ستحرق الجميع، البريء والمُجرم، وعلينا جميعا أن نَحذر من هذا المصير.
والمُلاحَظ أن الرواية تعقد مُقابلة ما بين قُوى الشر ممثلة في الإخوان وأذنابهم، وقُوى الخير ممثلة في زينب وفيروز ودكتور محمد سعد وحمزة ذاته، ولكي تكون المقابلة عادلة والمقارنة لا غبن فيها - وبخاصة أن الكاتب قاضي يعرف كيف يحلل الأمور ويصل إلى لب الموضوع - فإنه لم يُغفل البيئة التي تَرعرع فيها الشر، وكذلك البيئة التي ترعرع فيها الخير، فحمزة وَجَد الرعاية السليمة، والفكر السليم، والفطرة السليمة، والدين الصحيح البعيدعن التطرف، بينما الجانب الآخر لم يجد من يتعهده، فأحدهم أمُّه لم تجد من يأويها فتزوجت سمكري لا يَفقه شيئا، وفي ذات الوقت يتكلم في الدين، بينما أعماله بعيدة كل البُعد عن الدين، والآخَر تركه والده وعاش بالسعودية مُكتفيًا بزيارة شهر كل عام مما ساعد على انحرافه وتأثره بالجماعات المتطرفة، وهكذا بقية الذين ساروا في طريق الشر، فالبيئة الحاضنة لم تُعطهم كفايتهم من التعليم الصحيح لأمور دينهم، ولم تُثقفهم الثقافة التي تُخولهم أن يحكموا بالعقل والمَنطق على الأشياء، ويعرفوا أصول دينهم، وبالتالي سَهَّل على تلك الجماعات شدهم إليها.
- ومن هنا، ومن تلك النقطة بالذات التي أكد عليها الكاتب تكمن المُشكلة الكبري، لماذا؟
لأنه يجب الانتباه لهؤلاء الشباب المُنتشرين في ربوع مصر، والحرص عليهم وتوجيه نشاطهم لفائدة الإسلام والبلد، بدلاً من أن يكونوا قنابل موقوتة يَستخدمها الشيطان في تدبير مَفاسده، وأعتقد أن تلك هي قضية الكاتب الأولى، والتي من أجلها دقَّ ناقوس الخَطر، لننتبه ونُدرك ونُوجه جُلُّ اهتمامنا اليهم، وكما قلت سابقا، فهو قد اختار أسماء أبطال روايته، زينب، حمزة، ماجد، مصعب، محمد ..إلخ، ليقول لنا أننا عرب مسلمين، ولن ننسلخ عن ديننا، ولكننا نُحارب التطرف، وكل من يُشوه هذا الدين بأفعال شيطانية قانونها الأول هو عبارة (أنا خير منه).
وإذا نظرنا إلى الاهداء، (ص 5) وربطناه بمتن الرواية، والمُقابلة ما بين طرفي النزاع، لوجدنا الرباط الذي يربط الثلاثة معًا، الاهداء، والمتن، والعنوان، فالكاتب منذ البداية يقول لك: (إلى مَن يبذرون الحبَ في الأرض، فتجني البشرية ثمار السلام، وإلى احفادي وأسباطي، ثمار العمر وأزاهير الحياة، ليلى، قمر، نور، يحيي، مَلك، بهاء). قاصدًا هنا إنه مع السلام، والفطرة السليمة، والإسلام الصحيح، بعيدا عن التطرف، ومن هذا المُنطلق يكتب روايته.
أخيرا لا أنسى لغة الكاتب الجيدة السلسة البعيدة عن التقعر، وقدرته على الوصف وبخاصة مَشاهد الريف الرائعة، وكذلك ذكره آثار ومَزارات القاهرة والإسكندرية، وأيضا اهتمامه بالمعلوماتية في روايته في أكثر من مكان منها، فتحدث عن مسجد الحسين وتاريخه وعن قلعة صلاح الدين.
وأخيرا لا أنسى أيضا، قدرته على التحليل وإدارة المناقشات الجادة الرصينة بين أبطال العمل في قضية الإخوان، بروح القاضي العادل، الذي يمتلك المقدرة على الغوص في أعماق قضاياه، وإيجاد الحلول لها، بهدف تحقيق العدالة قبل أي شيء.
أسعدتني الرواية، وتمتعت بأسلوب الكاتب وروح القص كثيرًا. كل الشكر والتقدير للكاتب المستشار بهاء المري. وتمنياتي بمزيد التوفيق.
- محمد عباس علي داود
- الإسكندرية في 16/2/2012
2 commentaires