الدكتور سعد مصلوح - من حديث السيرة.. الاستخفاء بالشعر

ما بين عامي ١٩٥٦ و١٩٥٩ كانت حقبةُ الدراسة في مدرسة المنيا الثانوية. بدأت تلكم الحقبةُ في ٢٩ من أكتوبر بحدثٍ جَلَل لم يكن لنا به سابق عهد ؛ وهو العدوان الثلاثي المسلح على مصر . وفي إبانه دخلت حياتَنا لأول مرة مفرداتٌ هيمنت على الألسنة وقرعت الأسماع ؛ الغارة ، صفارات الإنذار، الإظلام التام ، صبغ نوافذ البيوت باللون الأزرق القاتم ، خطبة عبد الناصر على منبر الأزهر، نشيد " الله أكبر " ، بورسعيد ... ، وهلم على هذا الجَرّ والسّحْبِ إلى ما يَعرِفُ أمثالُنا من الصغار وما لا يعرفون. وأما نهاية الحقبة فشهد إعلان الوحدة العربية بين مصر وسوريا في ٢٢ من فبراير ١٩٥٨ ، وانهيار الحكم الملكي في العراق في ١٤ يوليو من العام نفسه ، واشتعال حناجر المطربين والإعلاميين في الإذاعة المصرية وصوت العرب نُهاقًا ونُعاقًا. هكذا يتعالق الذاتي والوطني والقومي لتنسج خيوطه عقدة من الأحداث المثيرة المستفزة لقريحة شويعر كان طموحه على هَيْضَةِ جناحه أن يملأ الدنيا ويشغل الناس. وهنا يقتضينا تأمل الحال أن نفزع إلى قطع يكون من بعده إن شاء الله ائتناف.
أقول قولي هذا راغبا إلى تحسسِ سماتٍ مائزةٍ لمُلاوَةٍ من العمر ، لا أستشعر حرجا إذا سميتها "جاهليتي الأولى ". كان الشعر هو الحُبَّ الأول ولعله لا يزال ، والحوادث من حولي تعج فَتُوقِرُ السمعَ الرهيفَ ، وشياطينُ الشعرِ تَنْسِلُ إلى عالمي من كل حَدَب ؛ فلست أبالي أن أكتب غَزِلًا أو فاخِرًا أو هاجيا، مقبلا على الحياة أو مستدبرا إياها ، وفي كل أولائك كان سيدي وشيخي عبد العزيز مصلوح هو القارئَ الأولَ والناقدَ الموجهَ الأول ، وكانت كلمةُ إعجابٍ أو هَشَّةُ رضا منه تطير بي إلى عوالمَ ذاتِ بهجة ، وتُعْلِمُني أني لا أزال أسير من دروب الفن على طريق مستقيمة.
ضَرْبٌ واحدٌ من فنون الشعر كتبتُ فيه كثيرا واستخفيتُ به عن والدي ، فإني كنت أعلم علما ليس بالظن أنه ما كان ليرضى عنه أو يأذن لي به ؛ إنه الهجاء . لقد أعرض هو عن الهجاء ونأى بجانبه وهو القادر عليه إن شاء ، وذهب في ذلك مذهب أمير الشعراء الذي آثر ألا يُرْوَى عنه شعر فيه مذمة لأحد ، على شدةِ ما عانى من كيد الخُصَماء والمشوشين على عبقريته. أما علة خِياضي في هذا المغاص فهو الوقوع في أَسْرِ علي بن العباس بن جُرَيْجَ المعروفِ بابن الرومي سامحنا الله وإياه ، وعفا عنا وعنه. ثم إن القالة الهاجية تكون قاسية حين يكون المهجوُّ معلما ، ثم إنها تكون أقسى وأنكى إذا قَصَدَتْ إلى معلم اللغة العربية على التعيين ، أما أن يصدر القول عن شويعرٍ يتلكأ على باب عامه الرابع عشر من عمره فإنها حينئذ تكون أشدّ وطئا وأفحشَ قيلًا.
أذكر أن خلافا نَبَتَ بيني وبين أستاذي في الصف الثاني ( وكان على ضعف حاسته في العروض يَرُوضُ القولَ شعرا بما يستخرج الضحكة الكتيمة أحيانا ) . وكان موضوعُ الخلاف بيتَ ابنِ خفاجةَ الأندلسي في صفة الجبل من بائيته المشهورة :
وقورٌ على ظهر الفلاةِ كأنه
طَوالَ الليالي مُفْكِرٌ في العَواقبِ
إذ قرأها ( مُفَكِّرٌ ) وقرأتها صحيحة ( مُفْكِرٌ ) بهداية الوزن ، ولأنه كان واثقا من صوابِ قراءته أرسلَ في طلب ( مختار الصحاح ) ، فنصرني المختارُ عليه فطردني من قاعة الدرس. وإذا إبليس اللعين يُولِغُ لساني في مذمته بقصيدة على نغم السريع مطلعها :
يا سَادِرًا في غَيِّهِ ما صَحَا
أَفِقْ ؛ فبعد اليومِ لن تُمْدَحَا
ما أنت بالشاعر ، لكنما
أنت الذي قد قيل عنه " جُحَا "
وحين بلغته القصيدة دأب على حرماني من حضور الدروس. ومن الطريف أنه دخل مرة إلى حجرة الدراسة فقال لي مُعرّضا :
سعد أفندي مصلوح ! ( أفق ، فَبَعْدَ اليوم لن تنجحا )
فإذا الأهاجي تجيئه تترى . ولم يكن بد من أن تضع الحرب أوزارها فتحيَّلُْتُ لذلك بقصيدة مدح للمدرس الأول ( الأستاذ محمد البدري رحمه الله) لكي يتوسط في إعلان الهدنة ، وجاءت أبيات القصيدة على الكامل المجزوء ومطلعها:
لك أيها الرجلُ الهمامْ # مني التحيةُ والسلامْ
" ما جِئتُ بابكَ مادحًا" # لا والذي فَطَرَ الأنامْ
لكنَّ سِحْرَ الوردِ يُوحِي بالهديلِ إلى الحَمَامْ
وكان الصلحُ ، ولم يعلم الوالد بما كان إلا بأَخَرَةٍ من الزمان ، وأشهد أني رأيته - رحمه الله- لدى سماع القصيدة ، وقد تخالجته مشاعر السرور المكتوم واصطناع المغضبة ، وإن كنت يوَمها على ثقة من أرجحية الأولى، وفي شك مريب من الأخرى .
أعلى