أ. د. محمد عبد الرحمن عطاالله - تجليات الواقع في " جو النعسان " لسيد شعبان

يُعدُّ الواقع أقوي مؤثر في حياة الإنسان، فهو أهم محدد لفكره وثقافته، ومجمل سلوكه، وتصرفاته، وتستمدُّ الواقعية في الفن عناصرها من هذا الواقع، وعلاقات الفرد به، وتتأسس على رؤية جمالية، ومن ثم لا يُضحي الفن محاكاة حرفية للواقع، بل يستمدُّ عناصره التخيُّلية منه، والأدب – باعتباره من أهم أنواع الفنون- ينأى بجانبه عن النفعية، وينحو نحو الجمالية.
والسرد من أكثر الفنون الأدبية؛ وثيقة الصلة بالواقع، من خلال بحثه عن الظروف الخارجية: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي نتج العمل الأدبي في ظلالها.
وعالم القص لدى سيد شعبان؛ مرآة للواقع؛ يرصده من خلال التخيُّل السردي؛ فنعاين في فضائه السردي الواقع بكل تفاصيله، سواء الواقع المَرْضِي عنه، أم المسخوط عليه.
والنص الذي بين أيدينا؛ عنوَّنه شعبان " جو النعسان "، ويشير العنوان إلى ظرف سياسي يحيط بالنص؛ يتمثَّل في السباق الانتخابي بين " جو بايدن " ورئيس أمريكا السابق " ترمب "، والعنوان يكشف عن مفارقة؛ حيث يفوز " جو النعسان " – وهذا وصف أطلقه ترمب عليه- بينما يخسر منافسه صاحب الجلبة والصياح.
ويظل الفارسان صامتين في الملفوظ السردي؛ بينما يمثل المكان البطولة في النص؛ فيتحول الصراع إلى المكان الافتراضي " كفر النوَّام " أحد كفور وسط الدلتا؛ بدلالته على الثبات والسكون العقلي، والتخلف الفكري، والمكان بمساحته الضيقة؛ يتسع – عبر المسكوت عنه؛ ليشمل الوطن العربي كله.
ويبدأ السباق في الكفر من خلال عقد مزاد؛ يعلن عنه " مُزيِّن الصحة ".."من يراهن على جو النعسان ومن يؤيد المحمر ترامب... مازال السباق ممتدًا حول من يسكن البيت الأبيض"
وهذا المزاد غريب من نوعه؛ يحاكي الواقع العربي المتردي؛ فنساء الكفر دفعن بكل ما يمتلكن؛ فجاءت إحداهن " بثلاث بطات؛ وأخرى بعنزة؛ وثالثة ساقت خلفها قردًا يتراقص "؛ بينما تُدين " فهيمة " – التي بلغت من العمر مائة عام- المجتمع الذكوري؛ الذي يراهن على " ترمب "؛ طمعًا في ابنته " إيفانكا "، ويضم السارد صوته إلى صوت فهيمة؛ ممثلًا صوت الحكمة " رغم أن المحمر لم يرسل إليهم علب اللبن المجفف، ولا فاتنات الهوى ممن يعرفن الطريق إلى الكفر؛ لكنهم يؤيدونه؛ يكفي أن لديه ابنة ذات خصر نحيل تتراقص به".
إن السرد هنا يُدين الواقع العربي، ويُبدي سوأته، ويعرِّيه، فتحتل صورة " إيفانكا " المكانَ المقدس؛ فيغطيها شيخ المسجد - الموسوم في النص بالجِعِرِّ- بسجادة مجلوبة من البلاد المقدسة، بينما يستمتع برؤية الصورة في غيبة المصلين، فالشيخ و" إيفانكا "؛ يرمزان لتدنيس كل مقدسات الوطن.
الكلُّ في جانب ترمب؛ " خضير البطاط "؛ يراهن بثلاثة جنيهات؛ كل رجال الكفر يؤكدون أنهم سمعوا " أم قويق "؛ تغرد " ميلانا.. ميلانا ".
ومن هنا فَقَدَ المزادُ مشروعيته، فلم يُبصرْ " مُزيِّن الصحة " أحدًا في الطرف الآخر؛ فدبَّ مكره في جسد النص " لا تنسوا أن جو النعسان سيهبكم أجوبة لكل الأسئلة التي عجزتم عن حلها؛ متى ستتزوج النملة اليتيمة، وكيف نصنع فأسًا تعزق الأرض وحدها؛ جو يعرف الطريق جيدًا إلى ضروع الأبقار، وحلمات النسوة اللواتي يشتكين"
انضم " مسعود الأعرج " – الذي يشتكي صغاره قلة الخبز- إلى جانب "جو بايدن"؛ مراهنًا بحماره، وخمس كيلات من الذرة؛ لكن الأعرج سيء النية؛ خبيث الطوية؛ فإن خسر " ترمب "؛ لم يجد مَنْ يقامر على ابنته؛ فتكون من نصيبه؛ لكن أَنَّى له هذا، وبلاد النفط والغاز؛ قصورها من ذهب، وبيوتها من مرجان، وفيها كل ما تشتهي " إيفانكا ".
النص ساخط على الواقع العربي؛ يدين التبعية المقيتة، ويعرِّي تَقلُّب الأمزجة، وعدم الثبات على المبادئ؛ فالسير حسب تبدُّل الأشخاص، وتغيُّر المواقف؛ فعندما انهالت الدولارات على " الشيخ الجعر"؛ نسي" إيفانكا " وصورتها، وصلَّى وابتهل؛ ليفوز" جو النعسان ".
إن الصراع الدائر في " كفر النوَّام "؛ الذي أشعلته ربَّة الدولار؛ ما هو إلا محاكاة للحروب الدائرة في العالم الثالث؛ فالمشهد الذي يتصدره ( مُزيِّن الصحة – مسعود الأعرج – الشيخ الجعر )؛ سخرية من الواقع المتشظي.
وزمن السرد؛ الزمن الحاضر؛ حيث يشير إلى حدث سياسي في الوقت الراهن؛ إلا أن المكان واللغة السردية، يعودان بالمتلقي إلى ستينيات القرن الماضي، وهذا مقصود من السارد، وإشارة إلى ثبات الواقع، وتخلفه عن ركب الحضارة؛ فالعالم متغير ومتبدل؛ بينما يقف العالم العربي عند نقطة لا يتعداها في طرحه السياسي، والفكري، والثقافي.
فهذا التخلف الفكري، والجمود العقلي؛ سيحرقان الأوطان، ويمزقان وشائج الأمة، فكانت النهاية المأسوية؛ فالنار تحرق الكفر، ويظل السامر منصوبًا، والصراع محمومًا حول الفارسين " في الجهة القبلية لكفر النوَّام تهب ريح تشتعل الدور التي تعلوها أكوام القش؛ تحترق الدور وتفرُّ أزواج الحمام؛ يتبادلون الضربات حول جو النعسان أو المحمر ترامب ".
النص باكتنازه اللفظي، وكثافته الدلالية؛ حمَّال أوجه، ويثير كثيرًا من القضايا الشائكة، والشائقة في آن واحد؛ مما يجعله نصًّا ثرًّا ثريّأ؛ يعطي جديدًا عند كل قراءة؛ مع ذلك لا يُسْلم مقاليده؛ لأية قراءة؛ فلا تملك قياده؛ إلا القراءةُ الواعية، والرؤيةُ الثاقبة.




1615400633849.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى