أدب السيرة الذاتية د. إيهاب عبد السلام - يا ندامتي يا بنتي.. مقطع من السيرة الذاتية

كان في قريتي فقراء، ولكن لم يكن فيها محتاجون مطلقًا، فجميع البيوت بها ما يكفي طعامها للعام، فأغلب أهل القرية مزارعون، وسواء كنت تزرع أرضك أو أرض غيرك بالإيجار، أو لم تكن مزارعًا، فسوف تمتلئ خزائنك بحبوب القمح والأرز في كل محصول.


لم تكن الماكينات التي تحصد المحاصيل في الحقول وتعبئها في أجولة مباشرة قد استُحْدِثَت بعد، فكان المحصول يُحمَل إلى الأجران في قلب القرية، ويشهده الكبار والصغار، بل تشارك في جَنْيهِ أيدٍ كثيرة، ويتم تكويمه أمام الجميع، وقد اعتاد أهل القرية، أن يُخرَج حَقُّه يوم حصاده «نصف العشر» كان الجميع -تقيًّا أو غيرَ تقي، ملتزما بتأدية باقي الشعائر أو غير ملتزم- على يقين من أن نصف العُشْر ليس من حقهم، وإنما هو أمانة يجب ألا تدخل بيوتهم، فتذهب من الجرن إلى مستحقيها، والمستحقون لم يكونوا كثيرين؛ إذ إن الغالبية كما ذكرت مزارعون.
أما ذوو المهن مثل حلَّاق القرية، فكان نصيبهم من الحصاد وفيرًا، وإن لم يزرعوا أو يقلعوا، لأنهم كانوا يعملون طوال العام دون مقابل مالي، وإنما بما يُسَمَّى (الميسانية) فيظلُّ يحلق لكل الأسر مقابل نصفِ كِيلَة (أرزًا أو قمحًا) عن كل فرد فيها، تُرْسل إلى بيته في موسم الحصاد.
فمن لم يكن مزارعا، إما أن يكون قادرا على شراء الحبوب فيشتريها بأرخص الأسعار في المحصول، ويملأ خزائنه، أو يكون غير قادر فيكون أمره أسهل إذ يأتيه نصيبه من «أنصاف الأعشار» إلى بيته دون شراء فيملأ خزائنه أيضًا.
إذا وقفت فوق سطح أعلى بيت في دسيا في سبعينيات القرن الماضي، وألقيت نظرة على سطوح البيوت من حولك، فلن ترى «أي طبق دش أو حتى إريال تلفيزيون» ولكنك سترى شيئا آخر منتشرا فوقها يشبه المسلات المصرية القديمة، إنه بناء من الطّوف -الطين المختلط بالقش- مجوف من داخله، قاعدته حوالي متر، وارتفاعه حوالي ثلاثة أمتار ونصف، يُسَمَّى «الـمَطْر» هو خزانة المنزل من القمح والأرز، يتم مَلؤُه من أعلى بالحبوب، ثم يتم إحكام غلقه بالطين، وكلما احتاجت سيدة البيت للطعام فتحت فتحة صغيرة أسفله، فتتدفق الحبوب، فتأخذ ما يكفي بيتها شهرًا، ثم تعيد غلقه بالطين غلقًا محكمًا. لم تكن الحبوب في ذلك الحصن الحصين يأتيها السوس من بين يديها ولا من فوقها أو تحتها.
كان بناء تلك المُطُور أو صناعتها من المهارات الأساسية لسيدات البيوت، فلم يكن الرجال يقومون بها، حتى إن مَثَلًا تردد في قريتنا لحين؛ إذا مشى أحدهم مائلا وغير معتدل في مشيته، يُقَالُ له: «ما لك ماشي مايل كده عامل زي مَطْر الخايبة؟!».
و«مَطْرُ الخايبة» إشارة إلى ذلك المطْر الذي تصنعه سيدة ضعيفة المهارة، فيكون مائلا وليس في استقامة المسلات واعتدالها. كانت صناعة الـمَطْرِ بطريقة صحيحة تستغرق أسابيع، إذ على السيدة أن تُشَيِّد شِبْرَين ليس أكثر، ثم تنتظر لأكثر من يومين ليَجِفَّا تمامًا ويستوعبَا الإضافة فوقهما... وهكذا حتى تتم عملها، ولم تكن الأسرة يكفيها مَطْرٌ واحد، بل تتعدد المطور على السطح حسب عدد أفراد الأسرة. أمَّا الصناعة التي تستوي في مهارتها جميع سيدات القرية، فهي منتجات الألبان من «جُبْنٍ وسَمْنٍ ومورتة ومِشّ».
كان اقتناء البهائم بالنسبة للفلاح ليس لغرض تجاري، وإنما لغرض عمليٍّ، فلها دور في الزراعة، يربطها في المحراث فتحرث أرضه، ويربطها في الساقية فتسقي زرعه، ويربطها في النَّوْرَج فتدرس قمحه، أو تنسل أرزه وهكذا... كانت البهائم تعمل وتشقى بجوار أصحابها.
لم يكن منزلنا يمارس مهنة الزراعة ولا اقتناء البهائم، فلم يكن أبي مزارعا، وأما قطعة الأرض التي نملكها وهي تحيط بمنزلنا فلم يكن أمر زراعتها صعبًا، إذا إنها آخر الأراضي بجوار القرية وأكثرها انخفاضا، فيأتيها الماء بالرَّاحة، بعد انتهاء الجميع من ري أراضيهم، ولم نكن نزرعها غير قمح وأرز طعام البيت، ونستعين بمن يفعل لنا ذلك بالأجرة، أو بالمحبة وما أكثرها في ذلك الحين.
إذا قلتَ لأحد أبناء قريتي في السبعينيات إنه سيأتي عليهم يوم يبيعون فيه اللبن الفائض عن طعامهم، فلن يصدقك، وسَيَعُدُّ ذلك مُزْحَةً، أو من علامات الساعة الكبرى، فقد كانت عقيدة أهل دِسْيا أن اللَّبَن لا يُباع، وإنما يُحلَبُ مساءً لصناعة منتجاته لطعام البيت، ويُحْلَب مرة أخرى صباحًا، وهذه المرة ليفطر به أهل البيت، ولا بُدَّ من أن يُهْدَى جزء منه للبيوت التي ليس فيها لبن، فقراء كانوا أو أغنياء، قد تكون لديهم بهائم ولكنها قاطعة الحليب لسبب فسيولوجي؛ وكأنَّ هذا الإهداء شرط لاستمرار البركة في الحليب.
في ذلك الزمن إذا وقفت في براندة منزلنا من الساعة السابعة إلى الثامنة صباحًا، فلن ترى سوى تلك الصَّبِيَّات الصَّغِيرَات، يحملن طواجن الحليب الصغيرة «بِرَام» ويقصدن بعض البيوت بصفة يومية منتظمة.
طوال فترة السبعينيَّات وما قبلها، لم يكن منزل في دِسيا يخلو من الحليب صباح كل يوم، وكان فطور أهل القرية جميعًا دون استثناء هو الأرز الأبيض والحليب الصابح الساخن، ولعل هذا ما جعلهم دائما على الفطرة.
في بداية التسعينيَّات تَمَنَّتْ أمي أن يكون لدينا بهيمة حلوب، فلدينا الأرض التي تكفيها من طعام البرسيم، ونحن نعيش في مجتمع يعتمد على ذلك بصورة كبيرة. كان الأمر في البداية يبدو كوميديا، فلسنا نجيد هذا الأمر اقتناءً ولا تعاملا، وسيكون منظر بيتنا وهو يقتني جاموسة كإنسان بلغ سن الثلاثين ثم أدخلوه الصف الأوَّل الابتدائي. ولكن الأمر كان ميسورًا، هي أمنية بسيطة سرعان ما استجاب لها بديع وأنيس، صحِيحٌ أنه كان ربما يمر أحد الأحبة من أهل القرية ويرى الجاموسة مربوطة خلف منزلنا، فيبتسم أو يمزح مع أحد أخَوَيَّ «والله وبقيتم فلاحين، بعد ما شاب دخَّلوه الكُتَّاب؟!» أو يرى أحد أخويَّ يحش لها البرسيم بطريقة غير احترافية فيضحك منه قائلا: «إوْعَى إوْعَى بلاش خيابة» ثم يمسك المنجل ويحش في دقيقتين ما كان سيحشُّه أخي في ساعة.
العجيب أن أمي لم تكن من أسرة تمارس الزراعة ولا تقتني البهائم، فكان أبوها من ذوي المهن، ولم تمارس هذا مطلقًا في حياة أبي، ورغم ذلك كانت سعيدة أيما سعادة، وأحست بأن مملكتها اكتملت؛ كانت سعادتها في أنها تمتلك الحليب الذي يكفي بيتها، ثم إنها تُهدي الجيران الذين ربما كانوا أفْلَحَ منَّا -فلاحين من قبلنا وبعدنا- وليس لديهم حليب.
ولا أنسى ذلك اليوم، كنت في زيارة للقرية وأنا قاهري الإقامة، إذ قصدتْ بيتَنَا صباحًا ابنة إحدى جارات أمي -كان ترتيبها بعد الجارة الخامسة- فهمست لأمي بأن أمها تسلم عليها وتريد بعض الحليب. لم أرَ حُزْنًا في وجه أمي مثل هذه اللحظة، ولا زلت أتذكر رَدَّهَا:
«يا نَدَامْتِي يا بنتي... يَا هَمِّي يَانِي... إزاي عدَّت عليَّ الحكاية دي...؟ دا أنتم أصل الخير كله... اخْصِ عليَّ... رَوَّحِي يا حبيبتي أنا جاية وَرَاكِي».
كانت أمي ترى أنه ذنب عظيم أن تغفل عن تلك الجارة، فلا تتعهدها من نفسها بإرسال الحليب إليها، فتضطر إلى أن ترسل في طلبِهِ، ولم ترَ تكفيرًا لهذا الذنب إلا أن تحمله بنفسها وتذهب به إليها، على الرغم من أن أمي لم تكن تخرج من منزلنا إلا نادرًا في ذلك الحين. حملتْ أمِّي أكبر الطواجن لديها، وهُرِعَت إلى جارتها وهي تمسح دموعها بطرف طَرْحَتِهَا.
في فجر يوم الأربعاء التاسع من يناير 2019 فارقت أمي الحياة الدنيا... في الفردوس الأعلى يا «فِردَوْس» إن شاء الله بين أنْهَارٍ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُه.

إيهاب عبد السلام / مصر
--------

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى