د. أمل "محمد علمي" بورشك - قراءة ناقدة لـ: "يوميات أخصائية اجتماعية " لفاطمة النهام

تزداد سعادتي كلما قرأت كتابا ، فكيف إذا كان من الأدب الخليجي المعاصر ويلامس نبضات قلبي ، لقد حظيت بهذه التجربة العصرية والتي تعلمت منها الكثير ، فشكرا لأناملك التي خطت هذه السطور بذوق رفيع ، وفن بديع وشكرا لأنك حرصت على تكامل عطائك بضم نتاج أحبتك إلى المؤلف لتكتمل الصورة عن شخصك الكريم كامرأة مغلفة كاللؤلؤة بالقيم الأصيلة و لا تخلو من الحياء.

بعد قراءتي لهذه المجموعة القصصية الواقعية ، والمكونة من ستة قصص متوسطة الطول والتي تعالج قضايا معاصرة من الأدب الحديث وتلامس واقع المجتمع الحالي والمعاش يوميا ، وجدت أنني أمام كاتبة رقيقة الحس وتتطلع إلى سمو الإنسانية لدى كل البشر ، وهذا بعض ما لمسته فيها :-

عدسة عين الاخصائية الاجتماعية الحساسة :

و التي من خلالها رصدت أي حركة ، وبمنتهى الدقة ، و أمعنت النظر في تسلسل تطور أحداث كل قصة ، فوهبتها طابع المرونة والديناميكية حتى يتحقق الانسجام في الحياة ، لشخوص محورها ( فتاة طالبة ) تعاملت معها الإخصائية بأصول وأدب المتطلبات السرية للمهنة الصعبة ، لتتذوق فرادة كل نص قصصي ، لتناوله قضية قصصية منفصلة كليا عن أي قصة أخرى . وتتقن الغوص في أعماق الشخصيات و تمعن النظر في بعض تفاصيلها الدقيقة لتتعايش معها و كأنك جزء منها .

تميز الكاتبة وعدم تحيزها لأي إتجاه :

فاطمة النهام
فاطمة النهام
لقد امتازت القاصة بمسلكياتها العادلة تجاه الجنسين ، فهي مع العدالة والاتزان ، و لا تنحاز لجانب على حساب الآخر ، لتمكنها من عدة أنساق لغوية ، تؤدي إلى تشكل بؤرة محددة لقضيتها المعاشة ، وتهب القارئ أبعد المعان العميقة ، مع حرصها على تسلسل شيق للأحداث وبأسلوب لا لبس فيه ... لنص خال من الأخطاء اللغوية والاملائية والنحوية .

فهذه الأخصائية لها روتين حياة يومية نموذجية " من الحياة المعاصرة " فتارة تقرأ وتارة يفارق النوم عينيها من القلق ، وتارة أخرى تمارس الرياضة أو التسوق ، وهذا وصف دقيق للحداثة .

فأتقنت الكاتبة نمذجة حياة الاخصائية لتعلم القارئ من خلالها أساليب مواجهة الحياة الصحية : فأتمت دورها كأخصائية حتى على المستوى الأدبي ونقل المعرفة للآخرين ، من خلال سبر أغوار النفس البشرية ، مشعرة القارئ بأنه جزء من الحدث التالي ، مع حرصها على إعلاء الحقوق الانسانية في كل قضية . "فتارة تصف رجلا مسنا ماتت زوجته وآثرن بناته على أن يقفن إلى جانبه ، أو امرأة استقرت مريضة في فراشها وتتحمل ابنتها مسؤولية إعالتها "، فهنا يجد القاريء نفسه أمام عدة أنماط من الحياة داخل البيئة الاجتماعية الواحدة ، لقد وفقت الكاتبة في وصف ما عانته الطالبات وهن صغار ، وما أُلن إليه وهن يافعات .. وهي تغرس لدى الشباب قيم التحدي والمثابرة وعدم اليأس لمواكبة التغيرات القاسية في الحياة .

اقتباسات من الكتاب :

في قصة شمعة لا تذوب " ...... جلست في شرفة منزلي ...(ص109) فتنهي في صفحة 117 ...( حبيبتي أنت كالشمعة ) لقد قفلت القصة بجملة العنوان .

.. " كان عقلي يدور كالمروحة " التشبيه" .... " لما ترددت الدخول في الجدار " (ص73).

وفي قصة طفلة على الهامش وضعت " صورة متقنة للفنانة ابنتها تحت عنوان القصة تحتوي على نقوش بخطوط منحنية و متداخلة ... وصورة لطفلة شعرها الأملس منسدل إلى الأمام ، وتضع رأسها على ركبتيها وتلفه بذراعيها نتيجة الظروف النفسية التي تعيشها. كما ركزت الكاتبة على الاحترام والنظافة الشخصية للطفلة ، بالإضافة إلى العديد من القضايا التربوية كالفروق بين الطبقات الاجتماعية بالاشارة لرائحة العطر المستخدم من إحدى الشخصيات ، وتناول فئة صعوبات التعلم والصداقة وأهميتها لهم .

و في قصة الخائن " تظهر الصورة شابا يضع السبابة على فمه ، ولكن عيناه تنظر جانبا لليسار وشعره أسود ... .. والقصة طريفة جدا وتدخلك إلى عالم الخيانة بذكاء .. ولكن سرعان ما تمكنت الأخصائية من التدخل بحكمة و تصويب الأمر مع الحفاظ على حياة الأسرة سليمة " .

تسلسل الأحداث " الداخلية والخارجية " : كان ضمن إطار تطور العلاقات لديها محكما وبشكل تام ، فتلمس اكتمال بناء الشخصيات زمانيا ومكانيا بما يتوافق مع متابعة أحداث القصة في العلاقات الطولية والمتعمقة فلديها القدرة على وصف الواقع المليء بالأحلام والآلام والعواطف الجياشة .

و لاتهمل الكاتبة السرد الحكائي الذي يهتم بمكنونات اللغة لإضاءة النص بفنون الحبكة واستكمال عناصرها ، فكل هذه العناصر مجتمعة تقدم ملامح الواقع اليومي الذي تعيشه بشفافية ومصداقية وتلامس حياة كل قارئ، فتعكس الخبرة الانسانية على أثر تحركات الشخصيات ، مستلهمة مفردات السرد من وجود وعي حقيقي لدى الشخصيات الداخلية وموقفها من العالم الخارجي المفتوح على ألم الآخر و حوار الذات الإنساني والأخلاقي معا فتتعزز من خلاله القيم الانسانية وتعلم القاريء بالقدوة دون يأس أو ملل ، لتجد حلا مناسبا لإنقاذ الإنسانية في كل قصة .

كما وظفت اللغة في أحداث كل قصة ، لتتراءى للقارئ المشاهد بوضوح ، وتمكث اللحظة القصصية في ذهنه ، وهذا يعود لتمكنها من سرد هاديء وعميق ومقنع ، يستشعر من خلاله القاريء ، أن الكاتبة تلم بوعي المتلقي ، لقدرتها على إنتاج أحداث ترتقي لفكر ه ، وتتحكم في تفاوت الانفعالات العاطفية للشخوص ، فتشعر القاريء بأنه جزء من حياتها اليومية التي تعايشها في أدق تفاصيلها ، ولأحداثها العصرية ، لامتلاك الكاتبة لغة حاضرة ذهنيا ومسيطرة على الأحداث بقوة .

العناوين متنوعة : " من بوح ..و اغتيال ...و وردة ... و إلى أبي الحبيب .. والخائن .. وشمعة لا تذوب .. وتنتهي بطفلة على الهامش " فجاءت العناوين نتيجة انعكاسات لإضاءات تقاطع الحياة بين العقل والقلب والجسد ، فأشبعت القاريء عقليا وجسديا وعاطفيا .

الخاتمة والتوصيات : تمكنت الكاتبة في كل قصة من التخصص بعلاج أزمة نفسية ما ، وحرصت على توظيف التقنيات الفنية في صورة الغلاف ( والتي أبت نفسها ) إلا و تصدر رسومات ابنتيها قبل كل عنوان ، متطلعا لمهر اسميهما على رسوماتهما مستقبلا ، فأعطت للقاريء نموذجا للأم التي تتطلع إلى أن يكون عملها متكاملا عائليا ، وتحلق في فضاءات النجاح ، بجناحين لابنتيها أسيل وأمل خالد أمين لتعبر عن أهمية وحدة العائلة باستمرار .

صفحة الغلاف : رسم يدوي لاخصائية اجتماعية تمسك قلما وأمامها محبرة ومدونة ... ترتدي لباسا مريحا ، وتضع النظارة أمام عينيها ، ويلف معصمها الأيمن سوارا مكونا من حبات اللؤلؤ التي تشير إلى النقاء و الحكمة والسير بمنتهى الكرامة دون أي تصنع أو تكلف أو زخرف ، فالصورة تعطي طابع التجرد والاسترسال والتفكر في ما تتأمله الأخصائية وتراه لتوسط حدقتي عينيها ، وضم شفتيها في لحظة صمت ، ويدها اليمنى مقبوضة تسند رأسها وباطنها ظاهر ، ويسراها تركز على زاوية المدونة ، وطغى اللون الأصفر بهمومه التي تنتهي بإشراقة الشمس ، وارتدت الاخصائية لونا أزرقا ليلهمها الحكمة والقوة والثقة في وضع الحلول للقصص .

الأثر النفسي للقصص على القاريء :

نجحت الكاتبة في إحداث أثر نفسي متراكم لدى القاريء ، من خلال تفاعله مع النص ، الذي انبثقت عنه حياة الشخصيات الناتجة عن تقاطع أحداث من الواقع والماضي ، فقدمت مشهدا راصدا شفافا في الوصف ، فأحدثت نوعا مثيرا من التواصل والتلاقي المثمر مع القاريء ،تاركة له الخيار للتفاعل مع النصوص بحرية تامة، واتصال دائم ، لنجاحها في احكام الحوار الداخلي والخارجي ضمن مضمون القصص .

فشدت القاريء وحفزته على المثابرة والقراءة ، لتمكنها من أدوات اللغة العذبة والثرية ، ذات أثر في تعميق دلالات النصوص لديه ، و لتبدو أكثر جمالا عندما تتوارى المعاني خلف ضياء كلمات القصة المنسوجة .

و ثمة ترابط قوي " يجذب القاريء" بين عناوين القصص ، ومضامين النصوص ، ونهاياتها ذات الدلالات وقوة المعاني ، و تجاوز الكاتبة خجلها الشخصي بحكمة أثناء ممارسة عاداتها الروتينية اليومية ، لتسلحها بجرأة أدبية تمكنها من انضاج القصة واستوائها فنيا ، لتنم عن تنوع طرحها وسعة ثقافتها ووصفها الدقيق لتفاصيل التفاصيل .

المرأة القدوة :-

فنحن أمام " امرأة كاتبة و متعلمة وملهمة و تمتلك علما زاخرا وتحرص على أمومتها " لتهبك صورا بلاغية الوصف تقول لك : ( النظام مهم في الحياة ) ، واهتم بصحتك ، والتزم بالسلوك الحسن ، و احرص على عمل الخير فهناك من هم بحاجة ماسة له ، وتشيد بأهمية دور المؤسسات الحكومية ، وتظهر أهمية حب الوطن ، والتمسك بالقيم الدينية والاجتماعية الايجابية .

في كل قصة تهبك رسالة ، ولكنها تقول بقوة :" لابد أن يكون للإنسان هدف في حياته ، يضع له مخططا ، ليستشرف المستقبل من خلاله " .

الخاتمة والتوصيات : القصص جميلة وايجابية وصالحة لكل زمان ومكان ، وتمتلك الحد الأدنى من الحلول لمواجهة المسائل الاجتماعية الخاصة . وتعزز قنوات التواصل الرسمية الحكومية وتثنى عليها ، وتكمل الوجه الاخر من النقص في الخدمات باستثمار قوة الداعمين من أهل العطاء ، هناك قوة بلاغية تشجعك على التعلم والاجتهاد ، وتحرص على التخلص من آثار الماضي ، مع التأكيد على ألا يخجل المرء من ماضيه مهما حدث ، والتطلع لتغيير الحياة نحو الأفضل ،، فمن وجهة نظرها المستقبل أجمل .

أوصي جميع المؤسسات التربوية باقتناء الكتاب لما فيه من منفعة لغوية وثقافية وتمكين للفرد من التعايش مع الحياة المعاصرة .




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى