د. نعيمة عبد الجواد - دول المعجزات لم تنتهي

مقولة "العبرة بالخواتيم" تشير أن مآل الأشياء والأشخاص والدول قد يختلف عن البدايات. ولو وبالنظر لدولة الصين، فتلك المقولة تنطبق عليها حرفيًا؛ فلقد استطاعت بجدارة الصعود لمرتبة ليس فقط العالم الأول، بل أيضاً لمصاف الدول العظمى، أضف إلى ّلك أنها تفوقت عليهم. والصين بلد الأسرار والأساطير، لا يمكن التنبؤ بكهنها؛ فلقد استطاعت أن تجمع شتات نفسها من الدمار، وفي نحو سبعين عامًا صارت تناطح أكبر دولة عظمى على زعامة العالم.
ومن الجدير بالذكر أن الصين قاست ويلات الاضطهاد والإذلال من قبل جارتها اللدودة اليابان، التي أذاقتها شنائع تفوق ما فعله هتلر بأوروبا. فلقد عانت الصين من حرب مريرة مع اليابان دامت لفترة ثمان سنوات، وانتهت بانتصار مأسوي، بعد أن كانت على شفا اليأس من التخلص من قبضة اليابان. خرجت الصين من الحرب "مهلهلة"؛ فالمجتمع الصيني الغفير العدد انفرطت حبَّات عُقْده، وصار في حالة من الفوضى العارمة، فبات شبه من المستحيل السيطرة عليه مرة أخرى إلا بوجود قبضة حديدية قابضة على زمام الأمور. وأما الدولة ، فكانت في حالة يرثى لها؛ لتدمير الجزء الأعظم من البنية التحتية. ففي السنوات الأولى من الحرب، دأبت اليابان على قصف المدن الصينية الغير مأهولة. وفي العام الأخير من الحرب، قصفت الطائرات الأمريكية شمال وشرق وجنوب الصين؛ لأنها مناطق واقعة تحت سيطرة الاحتلال الياباني. وكانت العاقبة، تشريد سكان هذه المناطق، لدرجة أنه صار هناك عشرات الملايين من اللاجئين الصينيين. ولم يجد الشعب الصيني الغفير العدد قوته؛ لتراجع المحاصيل الزراعية. ومن ثم، انتشرت المجاعات في العديد من المناطق، وباتت الصين حطامًا.
ومن ثمّ صار انتصار الجيش الصيني على اليابان ليس ذو أهمية عظمى؛ فالبلاد خربة، فانهار الجيش بعد أن انهزم الملايين منه، وأما القوات الباقية المنتصرة فسلَّمت نفسها للحزب الشيوعي الذي صارت له اليد العليا فيما بعد والمسمى ب "تشونجوو جوميندانج" Zhongguo Guomindang (GMD). ولم تكن اليابان هي الخطر الوحيد الداهم للصين، فلقد هيمن الجيش الأحمر الروسي على إقليم منشوريا، لدرجة أنه اعتقل نحو نصف مليون من المجندين الصينيين واتخذهم عبيدًا يعملون بالسخرة.
وتسببت أيضًا سنوات الحرب الثمان الطوال وهيمنة اليابان على الصين في خلق فئة نفعية وجدت أن مصالحها تكمن مع العدو: اليابان. فعمدت إلى إقامة شراكات وأعمال لا يمكن تصفيتها بسهولة. وبعد هزيمة اليابان، كان يُلقَّب هؤلاء بالخونة، وتم تجريم أغلبهم ومحاكمتهم علانيةً حظيت بتغطية إعلامية واسعة. ومن ناحية أخرى، عانت الصين من صدع في الجبهة العسكرية لوجود قوات عسكرية صينية - ليست بالقليلة - تابعة لليابان وتحت إمرتها. وبسبب عددهم الغفير تم تسريح الغالبية العظمى منهم، في حين تم الإبقاء على بعضهم بسبب حاجة الوطن لما يمتلكونه من خبرات. وأما من كان له علاقات مريبة مع الجانب الياباني، تم التشهير بهم على أوسع نطاق، مثل ما حدث مع الكاتبة إيلين تشانج Zhang Ailing. مما يعني أن انتقام الصين ممن وصمتهم خونة لم يكن من ذاك النوع الخشن في كل الأوقات.
وبغض النظر عن كل هذا، كانت أهم العوائق الكبلة للصين انهيار الاقتصاد بأكمله؛ حيث هبطت الأسعار لأدنى معدلاتها بعد الحرب بعد أن أفرج محتكري السلع عما اكتنزوه من بضائع دفعة واحدة. لكن لم يستمر الوضع سوى شهرين فقط، ثم بدأت الأسعار في الارتفاع السريع، ومعها تبددت أوهام استئناف عمليات التصنيع، وحلم الانتعاشة التجارية، كما كان الوضع فيما مضى.
وحتى تتمكن الصين من قبض زمام الأمور على شعبها الذي أصبح متنازع الأهواء، وأن تتقرب من جارتها اللدود الإتحاد السوفياتي بشكل غير مباشر، كان لدعوة ماو تسي تونج Mao Zedong مفعول السحر؛ فلقد جمع حوله جميع أطياف الشعب من خلال تأسيس الحزب الشيوعي الصيني الذي حكم البلاد من 1949 إلى يوم وفاته في 1976. بيد أن الحالة الاقتصادية للصين لم ترتقِ، وباتت الصين في مصاف الدول الفقيرة المتخلفة؛ وخاصة بسبب مركزية الدولة ومنع تملك المشروعات الخاصة. لكن النقلة النوعية التي بدلت مصير الصين كانت تولِّى دينج شاو بينج Deng Xiaoping زمام الحكم بداية من عام 1978 وحتى وفاته في 1989. فلقد عمد عمل إصلاحات أيديلوجية واقتصادية تعيد هيكلة الصين، مما مهد لها الطريق لترتقي لمرتبة "قوة عظمى". وكانت أولى خطواته الإصلاحية السماح للأفراد بتملك مشروعات خاصة والاستفادة من أرباحها، وكذلك فتح الدولة أمام الاستثمارات والشراكات الأجنبية. ولجذب الاستثمارت ألغى تقريبًا الضرائب على الشركات الأجنبية وأنشأ لهم أربعة مناطق حرة تتمتع بتسهيلات غير مسبوقة. ومن ثم، وجد المستثمرون أن الصين فرصة من الواجب اغتنامها؛ فالمستثمر هناك تتوافر لديه خامات صناعية زهيدة السعر، وأيدي عاملة بالملايين ومنخفضة الأجر لدرجة أن ما يتقاضاه طاقم بأكمله يوازي تقريبًا أجر عامل واحد ببلاده. وأهم من كل هذا وذاك، أنها أكبر سوق لتصريف المنتجات التي يتم تصنيعها؛ لوجود سوق استهلاكي قوامه في ذاك الوقت أكثر من مليار نسمة. فتسابقت الاستثمارات الأجنبية لدخول هذا السوق وخاصة الأمريكية التي أرادت التمتع بالضرائب الملغاة على الصادرات والواردات من قبل الحكومتين الصيبنية والأمريكية.
وللاستفادة من الأيدي العاملة التي لا تطالب بالحقوق وقادرة على العمل في أسوأ الظروف، أضف إلى غض الحكومة الطرف عن الاشتراطات البيئية التي تكلِّف أصحاب الاستثمارات أموال طائلة، نقلت الولايات المتحدة صفوة تكنولوجيتها المتقدمة بأكملها للصين، ودربت أعداد غفيرة من العمال من الصفر ليس فقط على المهارات الصناعية والتكنولوجية، بل أيضًا على الأنظمة الإدارية، شجعهم على الإقدام على تلك الخطوة يُجْنَى من أرباح طائلة. أما الصين كدولة، فلقد استفادت بكل ما نُقل إليها وعلمت طريق الاستقلال وطريق تطوير قدراتها الإبداعية من خلال النسخ والتقليد في باديء الأمر، إلى أن تفوقت وخلقت تكنولوجيات لم تستطع أي من الدول المتقدمة وعلى رأسها الولايات المتحدة الوصول إليها، وأكبر مثال "تقنية الجيل الخامس من الإنترنت".
الصين مصنع العالم والمعجزة الاقتصادية والتكنولوجية الثابتة الأركان – على عكس اليابان – بنت اقتصادها وتميُّزها العالمي على أكتاف أرقى تكنولوجيات الغرب؛ فلقد قدمت الأرض والمادة الخام والعمالة في نظير الاستفادة من عقول وعلوم لم تكن لتسبر غورها ولو بعد مئات الأعوام. معجزة الصين هي "الاستكانة والاستفادة والانتقام المقنن"، مطبقة بذلك نظرية: "داري على شمعتك تظل مشتعلة".


د. نعيمة عبد الجواد



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى