مجدي جعفر - القــــــــادم

سرى الخبر بين أهل القرية كما يسري الماء في الأرض ( الشراقي ) : والأرض عطشى ، و الماء شحيح ، و الزاد قليل ، و الجوعى كثير ، و الجوع أفعى ... و ها هو آتٍ بعد غياب طويل ... طويل ...

قالوا : إنه ركب بحاراً و بحاراً ، ودرس في بلاد الخواجات !!

عاب بذرة القطن ، وتقاوي القمح ، وشتلات الأرز ، ونظام الري. والدورة الزراعية .. وفي قراريطه القليلة ، القليلة جداً .. أجرى تجاربه وأبحاثه . وحزم أمتعته وبرح يئساً من الحكومة ، ومن الفلاحين ، ومن مسئولي الزراعة وأساتذة الجامعة !!

مواسم الأفراح أنكرت بنات القرية ، فلوزة القطن ضعيفة ، وتسَّاقطت أهدابهن مع نوار القطن ، وتبددت أحلام الصغار في أحذية و جلاليب ، فالأسعار نار ومصروفات المدرسة زادت .. وحشرة ( المن ) التي التهمت وسواس القطن جعلت الفلاح يسب الحكومة و المبيدات الفاسدة وينعي عرق الأيام و مصاريف العام ..

من فم إلى فم انتقل الخبر ، على رؤوس الخطوط ، وتحت شجر الصفصاف وقت ( القيلولة ) وحول ( طبلية ) الطعام .. لا حديث إلا عن القادم بأبحاثه الجديدة ، وطرقه الحديثة.

قال إمام المسجد للناس : لا خير يرجى من وراء الخواجات !!

هاجت الناس و ماجت ، فالقادم ليس بخواجة ولكنه فلاح !

تجمع أهل القرية فرادى و جماعات .. والتفوا حول مسئول الزراعة .. الذي أسرَّ لهم همساً بأن القادم ينوي أن يبدأ بقريتكم ليجعل منها نموذجاً للزراعة الحديثة ومثالاً تقتدي به كل القرى.

طارت الناس فرحاً ودعت للقادم ولمسئول الزراعة صاحب البشارة الطيبة .

- لم تُنسه الغربة أهله ولا ناسه ....

- أصيل .

قالت إحدى الفلاحات لزميلاتها وهن يغسلن الملابس في الرياح :

- سأبعث لزوجي بتلغراف ليأتي من الخليج !!

- خيراً تفعلين يا أخت ، ملعونة الغربة ، وبكرة الأرض تُطلِع الذهب .

- وأنا أيضاً سأبعث لزوجي في الأردن !

- والنبي حيلهم يتهد بره ويقل مقدارهم ويضيع عرقهم .

- الغربة كربة وتذل أولاد الأصول !!

- الناس تعمل أيه ؟! الحياة هنا صعبة والمعايش غالية ، وأنت شايفه الأرض ، والحكومة لاترحم ولاتخلى رحمة ربنا تنزل !!

- أهو جي يحرسه ربنا و يصونه يفجر خيرها ويحقق الأحلام !

وقال طفل لزملائه وهم يلعبون الكرة الشراب في الجرن :

- إنه قادم ومعه هدايا كثيرة ، سيعطي كل طفل في القرية جلباباً وحذاء وقميصاً و بنطلوناً ، ويوزع حلوى وشيكولاتة ! ويذبح كل يوم عجلاً ، يوزع لحمه على أهل القرية الفقراء ، ويدفع لنا مصروفات المدرسة ، ويشتري كتباً وكشاكيل ... و...

انتقل الخبر إلى أهالي القرى المتاخمة ، على ظهور المطايا قدموا ، ومرتجلين ، يباركون ويهنئون ، ويطالبون بحقهم في خيرات القادم وعلمه ، فللجيرة حق ، ويوماً بعد يوم تتسع دائرة الأحلام وتكبر.

" سيزوج البنات " ! ..

" ويعلم الأولاد " ! ..

" يشغل المتعطلين " !..

" يبني دوراً للمحتاجين " !..

.. يعطي المحروم والمسكين وابن السبيل ..

يمسح دموعنا .. يلملم جراحنا ! .."

الشيخ يصرخ في الناس : لا خير يرجى من وراء الخواجات .

ينصرف الناس عن الشيخ

مسئول الزراعة يعلن في الناس : بأن من يرغب في معالجة أرضه وزرعها بالطرق الحديثة والمزروعات و النباتات الجديدة و يستفيد بعلم القادم و خبراته ويرغب في مشاركته بالأرض فليوقع على هذه الأوراق .

الشيخ يصرخ في الناس :

" لا خير يرجى من وراء الخواجات" ..

تشيح الناس بوجوهها عن الشيخ ويقفون قطاراتَ و صفوفاً ، يبصمون على الأوراق ويختمون بأختامهم ..!!

على الموانئ تتدافع الناس لتنقل شاحنات الآلات الحديثة ، وبذورالنباتات الجديدة ، وشرعوا في مدخل القرية يبنون له فيلا أنيقة ، وفي مؤخرة القرية يبنون مصنعاً كبيراً ، فأوامر القادم على لسان مسئول الزراعة ، تُنفذ بدقة ، وريثما فرغوا من البناء ، جاء القادم بلباسه الأنيق وحذائه الأنيق ، وتأبطت ذراعه خواجاية وجهها بلون البدر ، وشعرها سنابل قمح ، استقبلهما أهل القرية بالأغاني و الطبول ، وفي أوج الاحتفال سأله الشيخ :

- ماذا ينتج المصنع ؟

- قالت الخواجاية : العـطور !!

وبينما فغرت الناس أفواهها دهشة ، سأله الشيخ : وماذا تزرع الأرض ؟

قالت :

- الأزهار و الورود !!

وبينما الشيخ يضرب كفاً بكف ، انطلق القادم يبين للناس أهمية زراعة الورود و تصنيع العطور .

... وفي تلك اللحظة كان مسئول الزراعة يظهر على شاشة التلفاز متشنجاً : يبين للناس أهمية زراعة القمح !!!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى