د. محمد بشير بويجرة - معاينة شواظ الأحرار في ما سردته "على خط النار" ".. رواية قالت كل شيء، و لم تقل كل شيء؛ التناقض المبدع

اقتضت سنة الله في خلقه، أو هكذا هي الحياة كما يحلو للبعض، أن يعيش كل فرد على خط محدد و دقيق؛ خط الفقر، خط الثراء، خط السعادة، خط التعاسة، خط الأفراح، خط مباهج الحياة، خط تعاستها، خط الأمان، خط الخوف، خط اللا حدث، خط اللا وقت، خط الضياع و الفراغ، وخط النار بكل أشكالها و تجلياتها.
و نتيجة لهذه المصائر والوضعيات تعددت و انقسمت مصائر الناس و مواهبهم و وظائفهم، و لقد تجلى ذلك التعدد و ذلك الانقسام و التمايز في حضرة المبدعات الأدبية خاصة و في جميع أجناسها منذ الأزل إلى آخر تنهيدة لمعمري هذا الكون، كما اتفق المشتغلون على الحقل الأدبي أن الرؤية و التعبير عن هذا التعدد هو الذي أبقى الحقل الأدبي في جميع أجناسه متجددا جميلا مقابل شيخوخة أو اندثار حقول أخرى غير ذات صلة بالأدب.
و تحت مجهر الفقرتين الآنفتي الذكر قرأت، من ضمن ما قرأت في أدبنا الجزائري المعاصر رواية "على خط النار" لـ "شرقي رحو"، حيث وجدتها نصا سرديا تتسلل دلالاته و أبعاده بين شظايا العبث و القتل و التدمير و وسط لهيب و توهج نار اكتوت بها أفئدة الغالبية الساحقة من الأمة الجزائرية، على مر العصور دائما، و في فترتي حق استرداد السيادة الوطنية و تسعينيات سنين الجمر.
و حين قصدت تقديم ورقة عنها تحت مجهر قرائية وضعت الخطاطة التالية:
1 ـ عنونة النص؛ المؤثر عمق التموقع.
لقد عاج النقد السردي الحديث و المعاصر على عدم اعتباطية العنوان الذي يضعه المبدع لنصه، حين اعتبر النقاد المحدثون أن "عنوان النص" يلعب دورا حاسما في بلورة مجمل دلالات النص و تبليغ مقاصده" ". و وفقا لهذا الاعتبار يمكننا الوقوف على عتبات نص "على خط النار" التي تقصد إلى رمي القارئ من الوهلة الأولى في أتون مجريات سردية منتزعة من مزيج "الوعي و اللاوعي" في ذات المبدع لتمتزج بأمزجة القارئ الذي يستنسخ منها موقفا ما بدون شك، بعد أن تتحاور ذاته مع أخلاط ذاته حين القراءة أو بعدها.
و لقد تشكلت عنونة هذا النص من الصوغ الأصلي للنص؛ و أعني به عنوان الرواية، و من صوغ الظل؛ و أعني به ذلك الملفوظ اللساني المغطى به آخر غلاف الرواية. و لقد صاغ الروائي أصل العنوان صوغا لسانية يفيد التواجد الأكيد و الفعلي على هذا الخط، حين نجده عمد إلى حذف الفاعل؛ المضمر فرديا و جنسا، و تعويضه بجملة الجار و المجرور القائمة مكان المفعول به تارة أو الظرفية تارة أخرى. و ذلك ليترك الحرية المطلقة للقارئ في تأثيث الجملة السردية للعنوان وفق ما يراه حسب مشتهيات نفسه و تحت ظل مقروئيته.
أما حين العودة إلى صوغ الظل فسنجد نصا يقول: "..فتح السلام عينيه على كلمة اسمها "الحرب" تحمل كل أنواع الخراب، و الطاولة المستديرة التي يجلسون حولها سيحدد مقاعدها جهات لم تخسر شيئا...." و ينتهي قول النص : "..لو تمكن السلام من نزع الراء لهذه الكلمة "الحرب" لا ارتاحت البشرية جميعها.." ".
و من الوهلة الأولى، و تحت مصوغات هذه العتبات تبدوا الملامح الأولى لافتراض التناقض المبدع لأبعاد النص ودلالاته، وذلك على اعتبار أن "التناقض" في كل شيء يمثل حالة السلب لكينونة الشيء، وحين نحيل ذلك على هوية النص الروائي و كينونته يصبح يتمتع بغايتين مزدوجتين؛ إحداهما حقيقية تتمثل في تعارض المتناقضات، وهو أمر ضروري لاستبيان الأنفع و الأفيد، و ثانيتهما أخلاقية تبرز في أسلبة جمع المتناقضات، ليصبح لهذا النص عوالمه السردية المبهرة حين: ".. يلتقي حقائقي التعارض مع أخلاقي الجمع.." "، و لعل أيقونة كل ذلك يلاحظه القارئ بين حدي مصطلحي "الحرب" المرصود له ناصية الناص و "السلام" المفترض في حواشي النص و خاتمته.
و بين الصوغ الأصلي و صوغ الظل كانت مسرودات النص كلها ترصد أحداثا و وقائع عانها " الأنا" الجزائري في فترة السبعينيات بأيادي أبنائها و بتخطيط و بإيعاز من وسائط تبنى استراتجيتها "الآخر"، و لا بأس إن طعمت تلك المسرودات بسراديب من مخزونات الأزمنة المتعاقبة قبل ذلك.
و تبدوا ملامح ذلك على مرمى النص كله و بخاصة حين نقرأ: "..قال أحدهم "ملقب بأبي الفتن" لا تترك أثرا للعض أو الذبح فرد الآخر من فصيلته:
ـ أتعلمنا كيف ننحر مأمأة جدي الغزال؟..." ". وهي الإحالات التي تفيد بأن وباء القتل و التدمير بأبشع الوسائل كان خصيصة فئة عارية قلوبهم من أي إحساس، كما تؤكد على أن مثل ما ارتكب في تلك المجازر كان بداية المسار التدميري الذي لحق كل فضاء و كل شبر من الوطن بشقيه الجزائري و العربي.
و عند القول بأن "على خط النار" قد وقف حقيقة على الخط الكاوي و المحرق للأكباد و للمشاعر الإنسانية، إن بقيت على وجه الافتراض فقط، فيجب أن نضيف بأن هذا الوقوف كان ضمن تنسيق سردي دقيق يتفادى المباشرية في قول ما قال مثل ما قيل في هذا الشأن، و ذلك التنسيق هو الذي منحه تلك التخمة في الدلالة و العمق في بلاغة القول.
2 ـ النار خط الكينونة؛ مآل، مصير، أم صرخة لمن لا صوت له:
إن الصوغ السردي المعتمد من طرف "رحو" يبدوا عليه كثيرا من التماهي مع كينونة الإنسان في جمعه تارة، و تتلبسه إحالات على الخصوصية المحلية تارة ثالثة، ليطغى فوق هذا و ذاك هم و كينونة الإنسان اللاهث تارة ثالثة و الضائع أبدا بين نزوات لن يشبعها مذ كان خليفة الله في ملكه.
و تبدو حالة الخصوصية، وهي افتراضية بالطبع، في ذات المبدع "رحو شرقي" باعتباره فردا من أفراد المجتمع الجزائري الذي عانى ويلات التصادم مع الآخر مذ الأزل، حتى أعييته و طحنت قواه ثورة التحرير المجيدة التي استرد بها شيئا من نسائم الهناء و الهدوء حتى باغتته أخرى صنع سيناريوهاتها الآخر و نفذتها أياد جزائرية في فترة التسعينيات.
و لعل القارئ الكريم، طبعا ذلك وفق ممكنات الفهم السردي للنص، يلاحظ أن حالة الحرب الثانية هي المهيمنة على مجمل التأثيث السردي للنص، باعتبار أن الأبطال فيه وجدوا أنفسهم مضطرين إلى العودة إلى صفوف الجيش الوطني الشعبي بعد أن كانوا قد أدوا واجب الخدمة الوطنية سابقا.
و لقد استطاع النص، بأسلبة لبقة، أن يخلق نسيجا جميلا يجمع ما بين المعيش في جميع تجلياته؛ فضاء و زمنا و أحداثا و نماذج شخصية، حين ابتدأ عتبات النص كاملا و الفصل الأول منه على الخصوص بالفقرة القائلة: " ليلة الفاتح يناير، و في مثل هذا اليوم من كل عام، تقف سائر الشعوب عند حواف شطآنها، ما بين ماض قريب تكاد تراه ولا يفارق البعض من لوعته و أنينه، و بداية عام جديد، تفاؤلا و فألا بقدومه. فينزل الناس إلى محلات المدن المزدانة بكل أطباق الحلويات و المكسرات، فتحولها إلى لوحة تتوهج بعد اكفهرار بتلك الألعاب الضوئية التي تطرد فلول الظلام" ".
إن الفقرة الآنفة الذكر ترسم عالما، أو دعنا نقول فضاء مدينيا يتقطر حبورا و سعادة، و بخاصة في فضاءات الآخر على الأعم و الأغلب، ثم مباشرة، تتبع فقرة تالية تقول : "..و على الساعة الثامنة مساء، كنت على موعد مع القدر، حين سمعت زعيق موكب لا أظنه لقدوم عرس، ولا لفريق استهوته لعبة في هذا العالم، ولا لنجم غنائي بدت شهرته تسلب عقول الشباب، كان الموكب لمسؤول تأخر عن حفل ليلة ميلاد المسيح عليه السلام، حينها رأيت جموعا يلتفون حول رجل كهل ملقى على أرض مبللة تحجب وجهه قتامة الدم يتخبط يمينا و شمالا كما يتخبط الطير الذبيح بلباسه الأسود المدرن و معطفه الجلدي، و قد غزاه وحل و بقايا سيل المطر الجارف بشارعنا الرئيسي للمدينة." ".
و أتصور بأن ناصية مثل هذه تترك بدون شك تراتبية حدثية متميزة لدى كل قارئ، حيث يمكن لأحدهم أن يجد في الفقرة الأولى رسما و تأثيثا سرديا يعاين مكامن المعيش المديني اين ما كان؛ وطنيا أو عالميا، و هي المعايشة التي يمكن أن تسوق على أساس أن نوازع الخير لدى الإنسان أصيلة و متساوية تارة و على وجهة أن هناك تساوقا و تفاهما على الاحتفال بمثل هذه المناسبات. و يجد في الفقرة الثانية مذمة و تشوها للأصول الإنسانية السمحة و الخيرة التي يتبناها أقوام و أمم متحضرة دون غيرها ممن يسلكون سبيل غير سبيلهم. ولقد تكلفت الفقرة الثانية برسم عمق هذه المذمة و إبراز أعلى ما يمكن أن يصل إليه همج و شر الإنسان.
و لقد توسطت الحالتين موقف الضمير الذي قال: "..لم أكن بمقدوري رؤية هذا المشهد المهين، نقلته إلى المشفى القريب على جناح القلق البادي علي لحالته، بعد ما أخبرني طبيب الاستعجالات أنه دخل حالة غيبوبة.." ". لتتشكل لدينا من نص "على خط النار" ثلاثة مكامن للوجود؛ مكمن العالمية و مكمن الخصوصية و مكمن الضمير، ليتشكل المعترك السردي في النص بينها قصد تبليغ عن حاجة في نفس المبدع.
و عند التمعن في الفقرات البانية لناصية "على خط النار"، كما تجلى لي في الفقرة السالفة، يتسرب إلى مخيلاتنا عالم سردي يتناطح فيه و عليه، و تحت مكامن الوجود التي أشرت إليها آنفا، عوالم استهواها الغوص في مكبوتات الصدور و في العقول المنتشية بالمتخيل في أقسى شروره كما تباشر حقائقه الفقرة القائلة: "..في المبنى الذي تعلو طوابقه الفناء، يحمل جماجما تهوى الانبطاح و التمرغ و تتلذذ بالصعود نحو الأسفل.
خشبة جريمة، عناقيدها من بول فسفورهم و ضربات موجعة بأزيز الألم القابع بين جدرانهم القديمة الموحشة، على لهاثاتهم المتعطشة للدماء.." ".
و وفق هذه السياقات استطاع "شرقي" أن تقيم معمارا سرديا يتلبس لبوس التضحية المفصلة أجزاؤه من تضحيات الإنسان الجزائري عبر مختلف المراحل الزمنية و بخاصة ثورة التحرير المجيدة و سنوات الجمر. و لو حاولت الوقوف على كل رتل من هذا المعمار السردي بالتفصيل ما كفاني هذه الوريقات، مما يجعلني أقتصر على الملاحظات التالية:
3 ـ البطولة بصياغة الضمير:
لقد أصر "رحو" على أن يلبس نصه كما هائلا من المعضلات المأساوية، و ذلك تماشيا مع مهنته و وظيفته بصفته فردا من أفراد الحماية المدينة، و هي الوظيفة التي مكنته من معرفة والاطلاع على أشياء و على أحداث، بتفاصيل منقطعة النظير، قد لا يعرفها من كان خارج هذه المهنة، و يبدوا لي ذلك جليا في كثير من الفقرات مثل : "..يا ليتك تبكي على كل شيء محزون كغيمة سوداء في السماء بصيبها، فيخفق قلبها بنور البرق و تصرخ بصوتها الراعد لتفزع البحر و يستنفر الموج بلطمه للصخور القابعة أو عاصفة الريح الهوجاء تنفض الأشجار من أوراقها اليابسة التي غادرها الندى، فينتاب الإنسان ذلك الشعور الحزين كأنه تضامن مع هذه الأكوان.." ".
كما تجلى ذلك التلبيس في إصراره على إدارة مسروداته داخل النص بضمير المتكلم على الرغم من أننا نجده يشير إلى خمسة أفراد هم؛ رفيق، سالم، جمال، يوسف، زينب، من شخوص الأحرار و غيرهم من الألقاب و الكنى في مصاف الأشرار. و هي الأسلبة و التقنية المعتمدة لدى مبدعي النصوص السردية المعاصرة مثل "فرجينيا وولف" و "كافكا" و "جوييس" و غيرهم، و ذلك على اعتبار أن البطل "الضمير" يمارس ضغطا، أو إغراء نفسيا عاطفيا، على مستهلك النص الذي يتلمس فيه بعضا أو كثيرا من تشاكله مع أحداثه و مفاصله المتخيلة حتى تبدوا و كأنها جزء من مسار حياته.
و تحت إغراء هذه الأسلبة يتحول الشخوص في النص إلى رموز و أيقونات تحمل دلالات و أبعادا يصعب الوقوف على معانيها الحقة، الو المقصودة بالتدقيق مثل الموقف التالي الذي تلا استشهاد "سالم" و انتهاء الحرب وعودة ضمير "الأنا" إلى قريته:"..مررنا عل بعض القرى و الأرياف ..تفرست أمرا رهيبا و مشهدا مريعا ينطق بالخراب....في المقهى المقابل جندب قد بترت يده اليمنى و أحيل على المعاش قهرا و إرهابيا آخر سلم نفسه فربانا بعد أن فقد ساقيه يتقاسمان طاولة و يزمجران بالزعيق، و بحماسة على لعبة الدومينو...من العادة أن اللعبة يديرها أربعة لاعبين.
ـ رد عليه الجندي:أظن يا صديقي أنك مخطئ.
ـ كيف؟
ـ يظهر للعيان أربعة لكن في الحقيقة يديرها اثنان فالتوابع لا تحسب..
ـ نعم أنت محق، لم انتبه
ـ كل الأوامر تأتي من خارج ميدان اللعبة..." ".
إن مثل هذه المسرودات المتخم بها النص بصيغ ضمير "الأنا" تفيد و تحيل على قضايا مهمة جدا على وضعنا الجزائري و العربي و حتى على وضع الإنسان قاطبة. و ذلك تحت انزياحات و إحالات متعددة و مغرية لكل قارئ للنص ليستنبط منها ما يتعالق مع ذوقه و مع مقروئيته العامة من معتني و من دلالات يبغيها و يرتاح إليها دون تدخل من أحد.
و لا أحسب بأن اختيار هذا النسق من السرد، المتمثل في الاتكاء على ضمير المتكلم، كان عفويا أو اعتباطيا، بل بالعكس أجده كان مشبعا بتمكن كامل من مكامن التأثيث السردي في عمق دلالاته و أبعاده، لأني أرى بأن "شرقي" كتب نصه من منطلق معاناته الشخصية بصفته ممارسا لمهنة الحماية المدنية التي يعرف رجالها و نساؤها ما خفي علينا جميعا أثناء الحوادث و الوقائع و المآسي نتيجة لقربهم من المتضرر و المصاب أكثر من أي إنسان آخر، ثم، و هذا أهم حين نقرأ نصه، إن تملك شحذا إنسانيا راقيا ساحت فضائله و عواطفه على كل بني الإنسان حيث ما وجد، و لا أحسب أن مثل هذا النص لا يعبر عن كل إنسان في العراق و في سوريا و في أفغاسنتان و في ليبيا أو في أي فضاء مسه دمار القتل و التخريب حتى ذاق سكانه أدهي و أمر المعاناة.
4 ـ اللمس و الرشح الإنسانيين:
إن قارئ "على خط النار" تغرق حواسه في سيول و في أمواج من الحنان و من العطف و من المحبة الإنساني بجميع صيغها، مما جعلني، و أنا أقرؤها، كأني أقرأ مرثية إنسانية في حق كل تلك الخصال. و ذلك ما جعل صوره السردية موجعة في المعاناة و في الألم و منشرحة و محبببة للنفس في حالات الرخاء و الاطمئنان، و ما أقل هذه الخصال الأخيرة مع الأسف في النص انتزاعا من حياتنا و صدى لها.
و لا يجد القارئ صعوبة في وضع يديه على، مكامن تلك الأوجاع و الآلام، فهي كثيرة جدا مثل هذه اللقطة:"..كان يهذي و يتمتم بلسانه العربي و يقول لا إله إلا الله، ظل يصلي بالدعاء، أظنه شكرا وامتنانا، هو مثلنا تماما، عدا الصوم لأننا في شهر رمضان.
رجل هزيل الحول، حلكت أيامه و بدا يشهق من شدة البكاء و ينوح بالضرب على كفيه، يصرخ ثم يهدأ قليلا حتى بح صوته وجف حلقه، مثقل الرأس، امتلكت الدهشة لسانه، يمسح على وجهه الذي امتلأ بالتجاعيد و علته غمامة سوداء و عمره لا يتعدى الأربعين، أثوابه رثة مدرنة و يداه مشققتان من لسع الجليد..." ".
أو مثل اللقطة التي تقول: "..انزعج مرافقي من فعلتهم الدنيئة التي ألفناها، و التفت إلي قائلا: حديث البشر لا يضمر إلا الشر، فاكهتهم المفضلة.
عند ما يتأخر النهش، طعامهم "اللحم الطازج" يعض بعضهم بعضا كالكلاب المسعورة، حرب أهواء شرسة يحكمها الحقد الدفين على الطمع اللعين.."
كما نجد في النص تمازجا قويا جدا بين العواطف الجياشة للإنسان المشبعة بالآلام و بالغبن حتى حيال الطبيعة مثل ما نقف عليه في الفقرة التالية "..كان القلب يتطاير شظايا و خلتني أرى بيت الحمام و شجرة الكاليتوس، أين كنت ألعب مع أبناء الجيران و الدالية التي هرمت و اصفرت أوراقها و تدلت، و شجرة التين أعكفت على أضلعها و كأنها تريد مغادرة المكان مع اليد التي غرستها و أحسنت سقيها.
تراءت لي الحياة غريبة، هكذا هي أوطاننا، نحبها و عن قست علينا و أهلها حتى و إن جاروا..." ".
إن إشباع اللمس و الإحساس الإنسانيين في الرشح السردي لنص "على خط النار" استطاع أن يغير تغييرا جذريا كينونة تلك العلاقة الشعرية الرومانسية مع الطبيعة، التي كان الذات المتضايقة تلجأ إليها عند الشدائد، و ذلك ما جعلني أضم فضاء الطبيعة إلى ما سماه "محمد معتصم" "التخيل المختلف" حين قال: "..و من خصائص التخيل المختلف في السرد الروائي ـ و غيره ـ الأمكنة المميزة بالانغلاق غالبا، و الضيق و العتمة و الصخب و التواري في الخلف بعيدا عن الأضواء كالحانات و المقاهي و الأقبية و الفنادق الرخيصة و الشقق و الشوارع الخلفية و الممرات الجانبية...إنها أمكنة خصوصية محجوبة وراء ظلمة الليل ..." ".
لا يخفى على المدقق في اقتراح أسلبة الفقرة السابقة و غيرها كثير في النص بأن "هرم الدالية" و "اصفرار أوراقها" و "الرغبة في مغادرة المكان" ؛ الذي قضى فيه الراوي أجمل لحظات شبابه، و غرابة الحياة في القرية خاصة، و في الفضاء الطبيعي الريفي، كلها تدل على انقطاع اللمس و الإحساس الإنسانيين اللذين كانا قبل ذلك. و حين نحس بذلك و نعايشه نصبح مجبرين على وضع تخيل جديد لهذه الفضاءات، وضع أجبرتنا عليه ظروف القتل و التدمير التي طالت الجزائر في سنوات التسعين و لحقت بمجمل الدول العربية بعد ذلك.
5 ـ بطولة الفضاء أو بؤس الكينونة:
من أجمل ما برع فيه "رحو" هو التحكم الكامل و الموفق في مكونات نصه حتى بدا كأنه مايسترو سيمفونية توائم بين مجمل مكونات النص، حتى أني أرى معماره السردي يشبه رأس الرمح في شكله المدبب الرأس و المتوسع بعده قصد الإيغال في التأثير على المقصود، و وجدت ذلك يتمثل في وضعه خيطا شفافا جدا، قد لا يرى بسهولة، لكنه قوي و عصيب بين تأثيثات النص كلها؛ الشخصية، الأسلبة، الحدث، و الفضاء بجناحيه الزماني و المكاني.
نعم "الفضاء" في هويته و مرجعيته الأدبية وفق ما أبرز خصاله و أهميته في تأثيث النص الأدبي عامة و السردي خاصة، جمع من السردانيين عبر أزمنة مختلفة، و ذلك حين أولوه عناية خاصة بداية من فكرة "..فإننا نملأ الكون برسوم عشناها، و ليس ضروريا أن تكون هذه الرسوم دقيقة. كل المطلوب أن يكون لها نغمة في حياتنا الداخلية...المكان يدعونا للفعل و لكن قبل الفعل ينشط الخيال، ينقي الأرض و يحرثها..." "، و وصولا إلى الفكرة المدعية بأن "..استراتيجية الفضاء الروائي هي في الحقيقة استراتيجية متعددة؛ استراتيجية كتابة و استراتيجية قراءة على السواء..." ". و بغض النظر عما تعاور المصطلح من تبدلات و مفاهيم فإنها كلها تدور حول مفهوم "ذلك الوعاء الذي يعيش و يتحرك فيه الإنسان طوال معاشه ليستلهم من أصغر و أدق جنباته كثيرا مما يؤثث به نصه الأدبي عامة و السردي خاصة.
نعم، و هو ذلك الذي التمسته، حسب ما تذوقت، كأنه ينافس الشخصية؛ الراوي، في تقديم المشروع السردي للنص، و ذلك حين نجده مهيمنا، يكاد يكون بشكل كلي، على مجرياته. و ذلك من بداية العتبة "خط" التي تفيد التموقع و الترصد لمجبهة المكروه، لكنها عند ما تضاف إلى "النار" يتشكل من اللفظتين معا منظومة تتآزر فيها و حولها قوة البطولة و مأساوية الحدث، كما تنبني عليها و بها آليات الدفع و النصر و المآل.
كما نقرأ أول جملة من النص و هي تقول: "..ليلة الفاتح يناير..." بصيغة النكرة و إهمالا لتوابع الجملة المفيدة؛ من فاعل و مفعول و أدوات الجر، و هي و إن تأخرت، فأجد بأن ذلك كان تحت غواية أسلبة فنية يبغيها السارد، لتحدث خلخلة صياغية، يتبعها بالضرورة تساؤلات و استفزازات لدى المتلقي.
و لو تتبعت مثل ذلك لما استطاعت هذه الورقات أن تأتي عليها كلها، فقط ما يمكن أن ألخصها هو:
كأني وجدت أن "رحو" قد وجد نفسه بين قيمتين نعيشهما الآن هما: البطولة الإنسانية و البطولة المكانية؛ بمعنى بطولة الإنسان العربي و بطولة الأمكنة العربية/ الفضاء العربي كله، و حين دقق في المسألة وجد أن المكان/ العربي ذا أهمية قصوى أكثر من ساكنه الإنسان، و ذلك لاعتبارات كثيرة، ربما لاستراتيجيته و لثرواته الطبيعية. كما أن الأهمية تطرح مسائل مهمة و معقدة جدا، قد نختلف حولها ولا تحيط بكل جوانبها السرود الروائية.
و أحسب أن ذلك هو بيت القصيد حاول اجتهد "شرقي" في خلق جسور تخييلية، ضمن منظومته السردية بين بطولة الشخص/الإنسان؛ رفيق، سالم، يوسف، زينب، جمال، و غيرهم، و بين الفضاءات؛ المدينة، الغابة، البادية، الليل، الأزمنة، فيجد القارئ كأن "شرقي" كان ميالا إلى جعل ميزان القوة تارة و البؤس و التأثير تارة أخرى يميل لصالح الفضاءات. و لعل أبلغ رسالة نحو هذا الافتراض تلك الفقرة التي تقول: ".عزيزي الغالي..وصلتني رسالتك متأخرة. غير عنواننا و اليوم نقيم على الحدود. أنفاق و أخاديد بسياج ممدود عليه ألغام بشرية..ديننا واحد و أصولنا واحدة، تفرقنا الحواجز. نتباهى بالوحدة. لكن الشتات ينخر ما تبقى منا.
...اليوم نعيش على العراء بدون وطن، أصدقاء الأمس أصبحوا أعداء، فما هو ذنبنا؟.. اعتني بنفسك و كن حريصا على مآثر الحب أو ما خليت من وجعك..." ".
كما نقرأ في فقرة أخرى هذا الخطاب: "..يا بني ما أعظم و شقائي، كحزني يعقوب على يوسف، فهجر الديار لم يكن بيدي و ليس لي فيه اختيار ، بدت لي السعادة كنجم مضيء يعلوا سمائي، لكنه سرعان ما حجبته الغيوم و غاب كما تغيب أحلام الأطفال..." ".
إن مثل هذه اللقطات، و هي كثيرة و متنوعة الصيغ، تفيد بأن هناك تضادا و تقابلا بين مكونات الإنسان و بين مشكلات الفضاء في رؤية "رحو" حتى بدا أن تأثير الأول و فعاليته كانت غير مجدية و غير ذات مصداقية، بسبب ما سببه الأعداء، و هم من أبناء الوطن، من تخريب و من تدمير للحمة و لعصمة الفضاء/الوطن.
6 ـ الحدث في لبوس المؤامرة:
إن قارئ "على خط النار" يتسرب إلى واعيته من الوهلة الأولى أنه نص يمتح زينة سردانيته من صلب وقائع و أحداث مرت بها الجزائر عبر أزمنة متعددة و بالأخص فضائع سنوات التسعين، و هي فترة عصيبة عاشتها الجزائر، ولا بأس إن كانت بعض الإحالات تفيد بوقوع مثل ذلك أثناء ثورة التحرير المجيدة.
كما إن القارئ الكريم حين يلم بشتات المبثوث السردي فيها يقع على أرتال من الإحالات تفيد بأن ما وقع و يقع للجزائر ليس بمحض الصدفة أو بمعزل عما يطبخ و يخطط له من طرف منظمات دولية ذات سؤدد في قلب معايير السلم و الوئام إلى معاول هدم و تدمير لكل نبت جميل و محرقة لكل عرف يافع مزهر، و لعل الفقرة التي تقول: " فتح السلام عينيه على كلمة صغيرة اسمها "الحرب" تحمل كل أنواع الخرب، و الطاولة المستديرة التي يجلسون حولها سيحدد مقاعدها جهات لم تخسر شيئا، خاضت حروبا بأيدي الذين لم يعلموا أن انحناء الرؤوس لبعضها مثابة الفوز العظيم.
في يوم ما، ستسأل البراءة هذه الحرب، حتما ستصمت و سيجيب عوضا عنها ابنها )الخراب(.." ".
و وفقا لذلك، تصبح "على خط النار" ليس نصا يجدر قراءته بغية المتعة الفنية فحسب؛ أسلبة و تأثيثا وإبداعا للشخصيات، و لكن يجدر بقارئه أن يترصد في قراءته له مكامن البعد الوجودي للإنسان عموما و العربي على وجه الخصوص. و ذلك بسبب انطماس كل معالم الخير و جبر الخواطر و حسن المواءمة ما بين بني البشر، و استبدل، كل ذلك بافتنان، فيالق الطاولات المستديرة و الغرف المغلقة الذين باتوا يتفننون في إفناء سلالة الرحمة و الشفقة و التوادد من بيئة بني الإنسان و من قلوبهم.
و حين أرى ذلك، فإني أجد بأن هذا النص قد يتجاوز الحيز الجغرافي للفضاء الجزائري ليعبر إلى كل الفضاءات المقهورة و المغتصبة الأخرى، لأني ،حقيقة، حاولت جاهدا التدقيق في وضع اليد على بصمة أو إحالة تفيد بخصوصية ذلك إلى الفضاء الجزائري وحده فما استطعت إلى ذلك سبيلا، ما عدا الفقرة التي تقول:"..اليوم نحن معزولون عن العالم.." "، كما كانت هذه الفقرة معبرة فعلا عما عاشه و عايشه الفرد الجزائري اثناء محنة سنوات التسعين، حين كانت الدول، حتى الصديقة و الشقيقة، تصف الفرد الجزائري بالإرهابي، وكانت كل الدول العربية والصديقة ى تسمح بدخول أي جزائري أراضيها إلا بعد كد و بعد تعب، فمالك بالدول العدوة. و نجد إلغازا و تلميزا لكل ذلك في فقرة "الرد على الرسالة..ص 85".
و لعل أكبر رامز على عموم ابتلاء الفضاءات العربية و الإسلامية و بقية العالم المقهور، بمثل ما ابتليت به الأمة الجزائرية، و التي باتت تعيش ما عاشته الجزائر في الفترات المتأخرة، الجملة الأخيرة من الفقرة التي تقول: "..في يوم ما، ستسأل البراءة هذه الحرب، حتما ستصمت و سيجيب عوضا عنها ابنها) الخراب(" "، و هو السياق الذي وجدته شاعريا من حيث الصياغة و النسق اللساني لكنه مغتبط و غارق في دسم المحيطات الفلسفية من حيث الدلالات و الأبعاد، و هو ما نعايشه فعلا ليل نهار في تلك المناطق التي اجتاحتها يد التخريب بإمرة من أصحاب الطاولة المستديرة، و التي يبدوا للعيان و التعمية الإعلامية، أن الحروب فيها قد انتهت شكلا و ظاهرا، لكن ابنها الخراب ما زال يكبر و يتمدد و يزهوا بعمره و بشبابه.
7 ـ التناص بالشفرة:
إن قراءة "على خط النار" تحتاج إلى إلمام أو على الأقل على اطلاع معتبر على مجموعة من النصوص الأخرى و على دراية كبيرة ببعض الإحالات في المصطلح المعجمي أو في السياق السردي العام، و ذلك بسبب ابتعادها عن الإغراق و عن التفصيل في كثير من اللقطات و اكتفائها بإحالات تناصية يجتث منها القارئ ما يريد وفق ما تملكه من معارف من مساره الوجودي.
و ذلك على اعتبار أن "التناص" آلية أو وسيلة :"..نعبر من خلالها على ما هو غير أدبي و نأخذ بعين الاعتبار كلية الخطابات الاجتماعية، مع فرضية الحركية العامة للكينونات والاستراتيجيات المتصلة بكل خطاب..." ". و ذلك فعلا ما وجدته اثناء قراءتي للنص، مثلا؛ يصعب جدا أن تجد العلاقة الأدبية بين مصوغات "على خط النار" و بين قصة "سيدنا يوسف" مع أبيه و إخوته، حسب ما جاءت في القرآن الكريم إذا لم تكن ملما بمرجعيات و بمعطيات السياق القرآني و مصوغاته المعجزة. كما يصعب جدا أن نفهم سياق النص القائل: "..دخلت قريتي كدخول صاحب الحمار.." " الذي جاء ذكره في القرآن الكريم مع سيدنا إبراهيم.
و لا نبتعد كثيرا عن مثل ذلك إذا ما عجنا على تزيين نص "على خط النار" بنصوص و ملفوظات لسانية تتقاطع مع الشعر الشعبي أو مندسة في خطابات ممتزجة برؤى فلسفية مثل قول "لافيق":
أما آن الأوان
لتسمعي صراخ صمتي
و تقيمي علي الحد
لتكوني بطلة المشهد
إني منهم
من المهد إلى اللحد
أما آن الأوان
لتقفي على قبري
لتكتبي على الشواهد
أنني لست خائنا للعهد؟
و إني في انتظارك
ليكون الشهود ملائكة
على بصمة العقد..." "
أو مثل المقطوعة التالية التي ليست شعرا نسقيا و لسانا، و لكنها خطاب فيه إقرار بحالة و التزام بوضع لن يتغير تحت بقاء عزيمة البطولة و فتوة الصناديد: "
الأرض أرضنا
و الزرع زرعنا
و الحرف حرفنا
و الماء ماؤنا
و الذكريات لنا
و المستقبل لنا
و لنا هو لنا
يعيش الوطن و تحيا الأمة...." ".
8 ـ ذاكرة الذات وحرقة الهوية:
بما أن المتفق عليه، مبدئيا، بين كل المشتغلين على الحقل الأدبي بأن الأدب يكاد يكون هو النص الإنساني المبدع الوحيد الذي يعبر فعلا و حقيقة عن مكنون الأوجاع أو المسرات المسكونة في مكبوتات الشرائح المهمشة و الغالبية الساحقة من الأمة و المجتمع. كما أن المتفق حول سيادة المبدعات السرديات تأتي في أوليات هذه المبدعات، فإن النص الروائي يكون يكون سيد حامل عرش منظومة "الوعي" بجميع تفرعاتها و جزئياتها، وفق ما ترشح به معظم المدونات النقدية عبر المعمورة.
و قد لاحظت، طبعا وفق ذائقتي القارئة، بأن مفاصل "على خط النار" و شرايينها السردية، مترعة بكم هائل، و بزخم منقطع النظير من إلماحات فنية و سياقات دلائلية على "غبن مخبأ في الذات" و على "خوف من ضياع" على "الذات"؛ فردية أو متعددة، و كذا على دق نواقيس خطر القدوم الهادر على "مسخ هوية هذه الذات" بقصد تدميرها نهائيا.
و إذا كانت العلاقة الجدلية بين "الذات"؛ أي ذات و بين "ألاخر"؛ أي آخر، سلوك و إحساس طبيعيان في سلوك جميع الأمم و البشر فإن مثل هذه العلاقة بين "الذات العربية" و "الآخر الغربي" كانت دائما محل تصادم و تنافر في سياقات مختلفة و متعددة؛ تارة وفق تنافر عرقي و أخرى عقائدي و ثالثة مصلحي، و ذلك ما جعل المبدعات الأدبية لدى المبدعين العرب تنشغل بهذه العلاقة مثل ما تشير الفقرة القائلة:"..لقد بدا الروائي العربي ..متمحورا حول الذات الفردية و القومية.. ) حين( بدا الكاتب ينظر إلى الآخر من خلال ذاته؛ فيراه جنسا، إلحادا، خيرا مطلقا أو شرا مطلقا.." ". حتى بات هذا الآخر شرا كله في الفترة الأخيرة منذ نهاية الحرب الكونية الثانية و حرب 67 و تحطيم العراق و إنشاء خلايا الإرهاب و التدمير في كل الدول العربية.
و وفق ما أشرت إليه باقتضاب، جاءت رواية "على خط النار" و كأنها تقصد إلى سرد مسارات الذات الجزائرية تلميحا و سياقا التي عاشتها في محطات العطوب و الجراح و المآسي، لكنها في كواليس النص كلها و في متاهاته المفترضة لدى القارئ، كانت تسعى للقبض على "هوية هذه الذات" التي قدر لها أن تكون عربية إسلامية عرقا و عقيدة و أفريقية جغرافية و طبيعة، و هي تعيش الأهوال الواقعية و المفترضة؛ بعضها من صنع الآخر، و الآخر من بمباركة و بتزكية من هذه الذات نفسها.
نعم لقد تتبع "شرقي" في خطه على النار هذه الذات و هي تتلاقف ـ بضم التاء الأولى ـ بين أيدي العابثين، حتى بين أيدي بني جلدتها، فنجدها تتلظى احتراقا بشواظ التآمر و الدسائس التي تنسج خيوطها في دوائر مغلقة و على طاولات العار و الدمار، و لعل فقرة الغلاف الأخير من الرواية التي تقول:"..فتح السلام عينيه على كلمة صغيرة اسمها "الحرب" تحمل كل أنواع الخراب، و الطاولة المستديرة التي يجلسون حولها، سيحدد مقاعدها جهات لم تخسر شيئا، خاضت حروبا بوكالة أيدي الذين لم يعلموا أن انحناء الرؤوس لبعضها مثابة الفوز العظيم..".
9 ـ و رغم ذلك فإن "على خط النار" لم تقل كل شيء:
بدون شك، و حسب ذائقة كل قارئة و وفق قدرة حساسيته، فإن مسرودات "على خط النار" كانت قد شرحت مجمل المسائل ذات الوضع بالحال المؤلمة التي عايشتها الأمة الجزائرية في سنوات النار و الدمار، بأسلوب تغلب عليه أسلبة كثافة المضمون في السياق العام، رغبة من المبدع في ترك مسافة احترام لذائقة المتلقي/ الذي يجب أن لا يقدم له كل شيء في طبق من ذهب، بل تفترض مشاركته في تكملة هوامش النص و بواقيه وفق ترسيمات ما يختلج في نفسه و تحت إلماز تقييمه لما يقرأ و لما تستهلكه عيناه من المعمار اللساني المبني به النص.
و ذلك بالضبط هو ما نجده بالضرورة لدى شرائح كثيرة عند قراءة النص، حين تختلف، بالتوازي مع أحداثه و تحركات شخصياته و معاني صيغه الأسلوبية، تقييماتهم لكل ذلك. و ذلك على أساس أن الحدث المركزي في النص، على الرغم من أنه يعني الفتنة الإرهابية التي وقعت في الجزائر، غير أن المبدع أصر على تسميتها "الحرب" رغبة منه و قصدا فنيا دقيقا منه أيضا، بأن المبتدأ و لمنتهى مما وقع هو "حرب على القيم الإنسانية" تشنها أنظمة و مؤسسات تقصد الاستحواذ و السيطرة على الغير بغير وجه حق.
لكن ما لم تقله مسرودات هذا النص هو كوامن و خصائص و هويات" الجالسون على الطاولة المستديرة، و تلك نفحة فنية تبقى عواقبها و تحديد متجلياتها مفتوحة كانفتاح الأزمنة و تغير الأمكنة و المصائر. وهي نقطة تحسب للنص رفقة كثير من المحسنات التأثيثية للنص الذي كان حقا يلامس عمق ما اشتغلت عليه النصوص الأدبية العالمية ذات الكعب العالي في محاورة تلك البؤرة الحارة و المقدسة جدا لدى جميع البشير و هي "حوار الذات مع الوجع حالة الإحساس بالظلم و بالغبن"


المراجع :
- و للمزيد في توضيح هذه المسألة يمكن قراءة مدونة " العنوان في الرواية العربية" عبد المالك أشهبون، محاكاة للدراسات و النشر، النايا للدراسات و النشر و التوزيع، سوريا، طبعة أولى ، سنة 2011.
- في أصول الخطاب النقدي الجديد، ترجمة وتقدي؛ أحمد المديني، دار الشؤون الثقافية، بغداد، طبعة أولى سنة 1987، ص 109.
- وعي الذات و العالم؛ دراسة في الرواية العربية، نبيل سليمان، طبعة أولى، سنة 1985، ص 6 .
- شعرية الفضاء؛ المتخيل و الهوية في الرواية العربية، حسن نجمي، المركز الثقافي العربي، بيروت، طبعة أولى، سنة 2000، ص 29.
- علم النص، جوليا كريستيفا، ترجمة؛ فريد الزاهي، مراجعة؛ عبد الجليل ناظم، دار توبقال للنشر، طبعة أولى، 1991، ص 28.
- المتخيل المختلف؛ دراسة تأويلية في الرواية العربية المعاصرة، محمد معتصم، منشورات ضفاف، دار الأمان، منشورات الاختلاف، طبعة أولى سنة 2014، ص 59.
- جماليات المكان، غاستون باشلار، ترجمة؛ غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر، بيروت، طبعة ثالثة، سنة 1978، ص 41.
- رواية للأديب "شرقي رحو، دار خيال للنشر و الترجمة، بورج بوعريرج، الجزائر، السداسي الثاني 2020 .





1616001855743.png



د. محمد بشير بويجرة
وهران 15/03/ 2021.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى