حسام المقدم - أبجدية أخرى للماء.. قصة قصيرة

إهداء: إلى فكري عمر،
صُحبة الأيام والكُتب والقلق.


...


يا ليل، يا عين، يا نهار، يا عالم..
انفلتَ تليفوني من يدي. راح في النهر، بعد رَبكة لحظيّة وأنا أُخرِجه من جيبي لأَرد على الرقم المجهول.
تجمّدتُ مُنحنيا فوق سِياج الكوبري، راشقا عينيَّ في البُقعة التي غاصَ فيها. انزلقَ في لمحة، مثل سمكة تعرف ما تفعل جيدا. لا أثر سوى فُقّاعَتين أو ثلاث، صعدت لتخبرني أن التليفون نائم في الأعماق بأمان (!) يفوق استقراره معي طوال أربع سنوات.
استمرَّ تيار النهر في الجَريان، بنفس المِزاج غير المُبالي. شمس العصاري لا تزال حامية، ومن ورائي حركة العربات والناس فوق الكوبري القديم. في الأسفل لمعت المياه أكثر مع تواصل تدقيقي العَبثي. انفجرت خَمس أو سِت فُقاعات جديدة دُفعة واحدة. بعدها رأيتُ الموج الهادئ يتلَوَّى في دوّامة. فركتُ عينيَّ للتحقق ممّا يحدث: فقاعات كثيرة مُتلاحقة تفور نحو السطح ثم تنطفئ، لتتوالى وراءها أعداد كثيرة. هل تنفَّسَ فجأة كائن خرافي؟ لكنني رأيتُ الملابس المُلونة المنفوخة تحت الماء، وعرفتُ أصحابها الذين يُصارعون الغرق، أصحابها المُسجَّلون عندي.. كل الأسماء المُدوّنة على تليفوني، تغرق أجسادها الآن.
يا أنا، يا أي قَشّة قريبة.. أستميتُ في الإمساك بحديد السِّياج، أُحسّ به يتخلخل ويميل بي، أرجع بجسدي للوراء قليلا خوفا من مصير "الطَّشّة" الكبرى في الماء الرائق. لماذا شفَّ لهذه الدرجة؟ رغم عينيّ الغائمتين أقدر على تمييز طين الأعماق والسمك الصغير والكبير والأعشاب والقواقع الراقدة. هذه الأجساد المُتشنّجة، العيون المُقفَلة، والشفاه المزمومة بشدة، والخُدود التي تُقاوم ضغط الماء بطردِه في دَفقات عصبيّة. الأذرع والأرجل الهائجة الضاربة في ماء ثقيل. في المقابل تُفاجئني أجساد خفيفة بقدرتها على العوم والانفلات. مشهد مثالي الرعب والعبث، يتبدَّى لي وأنا في عجزي الكامل. دماغي يلفّ بي، والكوبري نفسه بدأ يدور. أُغمض عينيَّ بشدة، وعلى الفور أفتحهما باتساع، بعد فزعة الخاطر الصاعِق: صحيح توجد أسماء وأجساد لا أتذكر ملامحهم، لكن هناك أهلي، أبي وإخوتي وأعزّ الناس. فعلا أرى أبي يُعافر تحت الماء. أبي.. لماذا استطالَ وجهُه وتَضخّم هكذا؟ هو بجلبابه دون العَباءة البُنيّة، التي انسلتت وتَكوّمتْ هناك في القاع. قُم وخُذ عباءتك يا حاج. أعرف أنك لا تستغني عنها. ضعها على كتفيك في صباحات الفجر الباردة، وفي مشاوير الزيارات والأفراح. يا حاااااااج. سكنت حركته، واستسلمَ على بطنه بفَم مفتوح يُخرِج الفُقاعات الهاربة. أبي.. كيف تموت، وأنتَ بكل سنواتك السبعين لا تُعادِل حَقَّ طفل في العاشرة؟ أيامك هي الآلاف من أوقات الشروق والغروب والزرع والقلع، شمسُكَ لم تُغادر المساحة الصغيرة في الغيط والدَّار والجامع. آخرتها تموت هذه الميتة الرخيصة، وتُغلَق صفحتك البيضاء الشاهدة على أيامك. قُم واكتب فيها، أيها الأُمِّي، أي شخبطة. اضرب بيدك العفيّة على باب الدنيا الواسعة. لماذا أنتَ ساكت، أتموت راضيا؟ يا أبي.. إنّ بعضي يأكلُ بعضي. أتصلَّبُ وأكزّ على أسناني. هيا خُذ مِني هذه الموجَة المرئية، موجة قوية من ضباب أو دُخان، مزَّقت صدري وهي في طريقها إليكَ. إنها تتسرب برفق إلى فَمك، تجعلك تنتفض في نبضات حيّة. في هذه اللحظة أبعث لك السلام والسلامة يا حاج.
أُريحُ عينيّ المُتعَبتين. تلزمني لحظات كي أتمكن من تخليص كياني الذائب. أبتسم بِشَجن، للخلاص الذي لاحَ مع الوجه الأسمر لصاحبي الغالي. تكبُر ابتسامتي حين أشاهد جسده يسبح ويتجول باحتراف. خَدّاه سينفجران من كَتم ضحكة مُختزَنة. يُشير نحو زجاجات كثيرة متناثرة فوق الطين، وكلها مختومة لم تُمَس. يُمسِك واحدة ويرفعها في مُواجهتي. عيناه مفتوحتان تحت الماء. أنا واثق إنه نظر لي. بسطتُ يدي لأتناول الزجاجة الفخمة. تمايلتُ في سَلطَنة. أنا أعرف وهو يعرف. معًا رأيناهم منذ سنوات بعيدة، في ذلك البلد الجار، وهم يرمون في النهر كل هذا العدد من زجاجات الخمر. رئيسهُم في أُبهَة يقف، وحوله التهليل والتكبير، بعد قرار تطبيق الشّريعة. ظلّت الزجاجات المسكينة يدفعها التيار، وتزحف ببطء طوال ذلك الزمن حتى وصلت إلى هنا، مُعتّقة وباردة أيضا! أَغمضَ صديقي عينيه، وعَبّ من الخمر الحلوة. انثنَى جسده الثعباني برشاقة. ما هذا؟ إنه يفتح زجاجة وراء الأخرى، ثم يتركها تُفرِغ نفسها. أرى السائل الغامق يسري في الماء، يتوغل بلا حساب في أفواه الأجساد المُشتاقة، ترشُفه الأسماك النشوانة.
كنتُ أشرب دون شُرب، أَسكرُ في مكاني. بقيتُ وقتا لا أُحدد شيئا. أحاول أن أفيق لأُفرِّق بين باقي الوجوه. صِحتُ: مَن؟ "حَسن م"؟ تذكرتُ أنني كتبت اسمه من سنوات، دون أن أتصل به. إنه أمامي لا يريد أن يغرق، يعفق باستِماتة في رِجْل واحد يعوم بمهارة. والله زمان يا "أبو علي". صُدفة أفضل من ألف ميعاد من مواعيدك غير المُتاحَة، وفرصة كبرى أن أُذَكِّركَ بشريط حياتك: خمس وعشرين سنة في الخليج، وعقارات وأراضٍ وعِيال في مدارس أجنبية. زياراتك القليلة للبلد، ومِشيتك بالجلباب الأبيض الذي يشرب من عليه العصفور. صحيح، القلم المُذهَب الظاهر دائما في أعلى الجيب، وحين يُلقون عليك السلام المعروف السريع: "سَمُو عليكو" أو "سَلامو عليكو"؛ ترد بالسلام الكامل: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. في مرّة وحيدة سِرتُ معك، وسمعتُ لسانك الطّلِق يرمي السلام الطويل ويرد بِمِثله دون مَلل طوال الطريق. هل تذكر أيام المدرسة؟ أنتَ أساسا لم تنسها، رغم قدرتك الفذّة على التخطّي، وطمس ذلك العدد الكبير من لسعات "الخرزانة" على كل سنتيمتر في جسمك. هل أُضيف شيئا آخر؟ أبوك (هو صاحب أبي لو تذكر) قال لي مَرّة، في ساعة صَفا، إنك بعد تلك السنوات، لم تُرسل فيزا واحدة أو عَقدا لأحد من إخوتك. تعال يا حسن، قُل معي، أقصد قُل ورائي، ورَدّد الحروف بصوت واضح: أَلِف أَغْرَق، باء بِسُرعة، تاء تِمسااااح! لا تخَف، كُلنا لها. نهايتك سهلة جدا. كل ما في الأمر أنني سأصرُخ في الرجل الذي يسحبك وراءه: اتركه، ارفُس ذلك الذي نجا بنفسه من سنوات طويلة، ويريد أن ينجو الآن.
تَلوَّنت الدنيا بالرمادي. اصفَرَّت مرة أخرى، ثم ازرَقَّت في لون الباذنجانة. استبدَّتْ بي الهلوسَة. تركتُها ترفعُني وتُنزِلُني، إلى أن أبصرتُ بصعوبة أربعة أشباح أو خمسة، مضوا يسبحون في سِرب واحد. عرفتُ منهم "ولاء" التي تقودُهم كالسَّهم، بوجهها الجميل المُصمّم. لا، انتظري، أعرف دماغكِ الصّعب، المُمتلئ بأمرين لم أرهما يجتمعان، والأعجب يتعادلان بهذا القَدْر: أعظم حُلم وأكبر يأس! هل يُجدي صوتي المكتوم في إرجاعها؟ للأسف غطسوا جميعا في منتصف النهر. عُودوا، ارجعوا عن انتحاركم، قُولوا: أَلِف أَرنب، باء بطّة..
هل تسمعون؟
يا أنتَ، يا أنتِ، يا تليفوني الغريق..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى