د. سيد شعبان - الصفحة الرابعة والعشرون.. ابن جادو يحكي!

تعرف الأماكن روعة السرد في حكايات ليل متدثر برداء الظلام، إنه يناغم بتفاصيل الأحداث يستوعبها كأنما تمثل أمامه حية لم يمض عليها ما يقارب ثلاثة أرباع قرن استوعبه بكل تفاصيله.
تمعنت في خطوط وجهه الذي يبدو مثل البدر في تمامه، كانما هي سطور نص، ياله من بارع في تمثل الحكاية فهو صانعها لا راويها الذي يناغم بوقائعها.
حين يضرب الحنين جذره العميق في مسارات المكان يتسع الزمن ليشمل كل الذين عاصرهم.
يحلو له من هذا كله وصف الماضي؛ القطار الذي حمل الأهل إلى البراري، الثأر الذي خمدت نيرانه يوم أن روت الدماء طريق الدلتا.
أرهفت إليه سمعي، أغمضت عيني گأنما أستعيد معه شريط حكاياته التي وعيت تخيلاتها حيث أمضي متصعلكا وراءها لا أبقي على شيء.
مثل سحابة الشتاء تلقي بفيضها يحمل عبق الخير، لا أنكر أنه جذري الذي يضرب في الأرض لألف عام بل يزيد.
بدأ يجمع الخيوط في براعة لا يحسن غيره أن بنسج من كل هذا النثار حكاية بارعة، ومن يقدر أن يمتع الصغير - الذي يحتويه جسدي المرهق بعبء السنوات -غير أبيه.
مرت بي حكايته كلما اشتقت إليه سيرة تعانق خيالي المتسع.
يخترق قطار الدلتا القرية التي تغفو تحت رداء الظلام، يتصارع الجوعى على العمودية، الفقر والجهل يضربان في غير هوادة.
تدور الساقية والهزال يراقص الماشية العجفاء، صرخت النداهة: نزف دم العمدة وقد سقط من فوق جواده الأبيض.
تراقصت العداوة وانتشت بخمر الحقد، اندلع حريق كاسح ،ارتدت النسوة ثياب الترمل وقد كانت لشعورهن جدائل مثل أعواد الصفصاف.
يبست الأثداء التي حفلت يوما باللبن يغدو البراعم الغضة،لقد جاب الشيطان الأزقة، غادر الحمام أبراجه وسكنتها الغربان.
تساءل في عجب: كيف تدفعني لكل هذا الحكي؟
تشارك أمي في الحديث إنهم أخوالها الذين يعرفون بالطيبة رغم بعض سذاجة تخايل ملامحهم، يطعمون الغريب، دوارهم ما خلا يوما من طعام ولا جفت ضروع الأبقار.
جاء اللواء حماد إلى البلدة، زغردت النسوة، ألقى النخيل بالجني من الرطب.
أدار أبي الثور الهلالي في ساقية أرضنا، جرى الماء في المجرى يتهادى عروسا تختال في مشية يحفها الدلال؛ كانت أمي هناك تحمل سلة الطعام زادا، هنا استدارت الحياة، نبتت الطيبة، وقف اليمام يسبح ربه، ولأن الغربان تنذر بالشر جالت تلك الوساوس في جنبات قرية ظالمة، أطبقت بأجنحتها السوداء، سفحت دم تلك الفراخ الوادعة ألقت بها مهاوي الردى، البرص يخايل بتلك الحناجر التي هتفت له يوم ثمل في نزق.
غابت ذاكرة أبي بل توقفت عندما حضر اللواء حماد.
تعود للمكان بعض ألوانه، النخلة الباسقة ترمي أوكار الغربان يوم هتفت القلوب بعودة قطار الدلتا يوزع الرغيف المحشو بزوجين من حمام محشو بالفريك، تناول أبي ثلاثة أرباعه جاء الولي الصالح وأطعم الدراويش.
تجملت بالثياب الزاهية فالعيد على الأبواب، يعلف التبس الأحمر حبوب الذرة، تحينت ساعة الأصيل، يحلو السمر عند مدخل الميدان، السمسمية على وقع الفرحة يوم دحرت البغال والجمال.
أوصاني أبي أن يكون زفافي يوم تزهو النخلة مجددا.



1616235384732.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى