جميل كاظم المناف - الثورية والانتقائية.. الجزء الثاني عشر

.... ان اللاثقة واللاتحدد في الواقع وانغمار الشخصية والاستخفاف بالطاقات والملكات وعدم التوافق الاجتماعي الا على اساس المساهمة في تيار الضوضاء والمظاهر والنفاق والكذب والتزويق والدوران حول محور الانتفاع – المادة – يجعل موقف الانسان مشابها لموقف الجندي الذي يقتل كي لا يقتل . تلك هي الحالة التلقائية في الاشياء البديهية الفاسدة المصممة للظروف بقدر ما تكون الاحوال زائفة بقدر ما يساهم الانسان الذي يجب ان يتلائم معها اجتماعيا في صياغة السيئات ونفخها واحياء غرازها . وبما ان الواقع العربي يعيش واقعات دنسة واحداث غاية في التهرؤ فأن الطريق امام الفكر العقائدي الذي وقع في الارهاق والانهاك اصبح وعرا شاقا . والارهاق والانهاك ينفجران آخر الامر بعد أن فقد العقل وفقدت الحرية كل سيطرة على الواقع . بيد ان استمرار النضال القومي الجماهيري في سيره اوجد اوضاعا فكرية جديدة بلورت تحديات واستجابات على مستوى تغذية والنضوج وجعلت الانسان العربي الذي يساهم في صنع واقعه الفاسد يتلمس التحولات الحقيقية التي تأتلف فيها حياته الذاتية والإنسانية على ان هذا الاستمرار عجز عن تعريف الموقف كليه وعجز عن اطلاق مفهومات نظرية واقعية تجوهر الفهم الصحيح في الاحداث والوعي الكامل للشروط التي يجب ان تتوفر في الانسان العادي والمفكر الذي تقع عليه تبعة خلق الظروف, فقد ظل الفكر العربي يتوهم ان قد فرغ من معالجة البديهيات في الفترات المرحلية الماضية كما انه لا يزال يتوهم انه ينطلق من قواعد فكرية تعتبر مسلمات . وطبيعي ان الفكر لا يزال في جزيئات والجوانب يبحث عن مفاهيم عقائدية الوقعات الوحدة العربية والاشتراكية العربية والحرية الا انه لا يبحث في مضامير الواقع بسبب الاستعارات النظرية والمبادئ المأخوذة من الخارج والبعيدة كل البعد عن الوقائع التي نعيشها وهذا ما جعل التناقضات غير ذات فعل في واقع الحياة العربية المعاصرة . ساهمت في ذلك النزعات العقائدية المغلوطة في الوحدة القومية والنزاعات التي لا تستند على تراث فكري منبثق من واقع الامة ولا على دوافع رئيسية يمكن ان تجعل طاقات النمو العقلاني في الحياة الفكرية تسير باستمرار نحو صياغة عقائديتها من واقع التجارب ودوافع النظريات . والسبب في ذلك هو ان الازمة هي ذاتها منبعثة من واقع الازمة الحياتية التي يعيشها الشعب العربي . يفيدنا علم الاجتماع ان هنالك استعدادا مسبقا – الازمة – لدى كل امة تعاني عدم الاندماج مع واقعها . لقد ارغم الوجود المشوه الأنسان العربي ان يتقلص ويتبخر في تجريد من الانسانية شأنه شأن الذي يخاف الحياة فينكمش في الحدث بكل اصرار وعناد على الظروف المخزية والاوضاع الفاسدة . نقول هذا ونحن نرى الشعب العربي الذي تسوده النزاعات الشكوكية والدعايات المقرضة والافكار الداخلية يتمسك تارة هنا ويتشبث تارة هناك محاولا حل الازمة ولكن دون جدوى . ان الذي يرى هوة اليأس التي ينزلق في مهاويها واقعنا وردة الفعل الساخط لدى الجماهير لا يفهم ثورية وجودنا وعنف انساننا العربي النبيل ولا يدرك التحولات والتقلبات في الحوادث الافتجائية ومن ثم لا يفرق بين جموح الغريزة وانطلاقة العقل وما تقدمه من ولادات مستعدة لتجاوب مع متطلبات الحقب النضالية . وهذه العملية لا مدركة تمثل جزءاً كبيرا من جوانب حياتنا وتفوق في حيويتها - اذا كانت لها حيوية – تحدي البيئة وظروف الزمن والا فما الذي يجعل الانسان العربي المدرك ينفر من الوعي والمسؤولية متشبثا بالهروبية والاتكالية .

جميل كاظم المناف

* جزء من مقالة نشرت مطلع الستينات في مجلة المعارف اللبنانية


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى