د. محمد عبدالبديع - الأدب القضائي

الأدب القضائي هو الأسلوب القضائي‏,‏ أي أسلوب صياغة الأعمال القضائية التي تشمل‏:‏ الأحكام‏,‏ التقارير‏,‏ صحف الدعاوي‏,‏ صحف الطعون‏,‏ مذكرات الدفاع‏,‏ المرافعة الشفوية والفتاوي‏.‏

والأسلوب لغة هو: الطريق, أما المعني الاصطلاحي للأسلوب: فقد جاء ثمرة لتطور تاريخي طويل في الغرب والشرق علي السواء, حيث تطور مدلول الأسلوب إلي مفهومين هما: المفهوم الشكلي, والمفهوم الذاتي.
والمفهوم الشكلي للأسلوب هو طريقة التعبير عن الأفكار باستخدام البلاغة والإيقاع, أي القيم الصوتية للفظ وقواعد التركيب اللغوي باستخدام المفردات والتعبيرات بمعانيها الوضعية والمجازية. أما المفهوم الذاتي فهو أن الأسلوب: هو طريقة التعبير الخاصة بأديب من الأدباء حيث الصلة منعقدة بين التعبير وشخص الكاتب, كما هي منعقدة أيضا بين التعبير وموضوعه والبيئة الطبيعية والاجتماعية التي يصاغ فيها, فالأسلوب هو الألفاظ التي تنتظمها الجمل التي تعبر بدورها عن المضمون, وطريقة نظم الكلام هي جوهر الأسلوب, وبها يتميز الأديب عن سائر الأدباء. وقد تنوع الأسلوب في العصر الحديث بتقسيم علمي إلي أنواع ثلاثة هي:
الأسلوب الأدبي, والأسلوب العلمي, والأسلوب العلمي المتأدب.
والمميز للأسلوب الأدبي هو العاطفة, فالأديب ينشيء الأدب متأثرا بعاطفته ومخاطبا عقل القارئ ووجدانه, وتأتي الأفكار في هذا الأسلوب مفعمة بعواطف الكاتب وموجهة إلي وجدان القارئ في صياغة زاخرة بفنون التعبير حيث الخيال والصور وسائر فنون البلاغة التي تتضمنها ألوان المعاني والبيان البديع.
أما الأسلوب العلمي فهو عقلي صرف يخاطب العقل لا غير فلا دور للعواطف والوجدان في صياغته ولا وجود لفنون البلاغة لأن الأسلوب العلمي يعرض الحقائق مجردة مطلقة, وتكتب العلوم البحتة وعلوم الحياة بالأسلوب العلمي حيث السهولة والوضوح, فضلا عن الدقة المتناهية إذ لا تجوز الصيغ الفضفاضة ولا تستخدم فيه المترادفات.
ويأتي الأسلوب العلمي المتأدب وسطا بين الأسلوب الأدبي والأسلوب العلمي فهو أسلوب علمي يتسم ببعض سمات الأسلوب الأدبي, وتصاغ دراسات العلوم الاجتماعية بالأسلوب العلمي المتأدب حيث تعرض الحقائق عرضا واضحا دقيقا مع الاستعانة ببعض فنون البلاغة كاستخدام الأسلوب الإنشائي وبعض فنون البيان كالتشبيه والاستعارة وبعض فنون البديع كالطباق والمقابلة.
والأسلوب القضائي هو أسلوب علمي متأدب يتسم بسمات ثلاث هي: الوضوح, والجزالة, والرصانة. والوضوح أخص سمات الأسلوب القضائي لأنه يفصل في نزاع أو يبدي رأيا في مشكلة قانونية أو يبدي اتهاما أو دفاعا في قضية ما, ومن ثم تكون حاجة أطراف النزاع ماسة إلي استيعابه وفهم دقائقه وإعمال شأنها فيه.
ولوضوح الأسلوب روافد ثلاثة هي: فهم المحكمة أو المدافع أو جهة الرأي للنزاع فهما عميقا, وتمكن هؤلاء من اللغة العربية وقدرتهم المتميزة علي التعبير ليسهل استيعاب العمل القضائي. وتبدو المشكلة في عدم تمكن كاتبي الأسلوب القضائي من اللغة العربية, وتواضع قدرتهم علي التعبير وهي مشكلة عسيرة تبلغ حد المعضلة. وعدم التمكن من اللغة العربية ظاهرة عامة لدي المثقفين المصريين والعرب, ترجع هذه الظاهرة إلي تخلف نسق التعليم العام ونسق تعليم اللغة العربية بصفة خاصة.
هذا عن الوضوح كصفة أساسية من صفات الأسلوب القضائي. أما الرصانة فتعتمد علي استخدام فنون البلاغة, وليست كل فنون البلاغة, مما يجوز استخدامه في الأسلوب القضائي, والذي يمكن أن يستخدم فيه, مثلا, بعض فنون البيان كالتشبيه, فقد جرت المحكمة الإدارية العليا بمجلس الدولة علي تشبيه الطعن أمامها بالطعن أمام محكمة النقض, كما جرت علي تشبيه المخالفة التأديبية بالجريمة الجنائية في وجوب الثبوت القاطع لها قائلة: إن المخالفة التأديبية كالجريمة الجنائية لا تقوم علي الظن والتخمين, بل تقوم علي القطع واليقين, كما شبهت ذات المحكمة القرارات الصادرة من مجالس تأديب بعض الفئات الوظيفية بأحكام المحاكم التأديبية في أن الطعن عليها يكون أمام المحكمة الإدارية العليا التي قالت: إن هذه القرارات بمثابة أحكام تأديبية.
ويجوز استخدام الاستعارة صريحة كانت أو مكنية, ولكن الحذر في ذلك واجب بأن يكون استخدامها محددا ومرتبطا بوقائع النزاع بعيدا عن الصور الخيالية والتمثيلية. أما الكناية فلا يستحسن استخدامها في الأسلوب القضائي, فالكناية بطبيعتها لا تستقيم مع طبيعة الأسلوب القضائي الذي يتسم بالوضوح ويقوم علي حقائق ثابتة وعلي تطبيق مباشر وصريح لأحكام القانون.
وتشمل فنون البديع المحسنات اللفظية كالجناس والمحسنات المعنوية كالطباق والمقابلة والتورية والمبالغة. والجناس نادر جدا في الأسلوب القضائي وربما كان وروده محدودا في الأحكام الجنائية. وقد يرد الطباق والمقابلة دون تكلف في الأسلوب القضائي كأن يقول القاضي: إن الشاهد لم يقل الحقيقة متناسيا أن الحق مستور والزور مفضوح. والتورية من فنون البديع التي لا تصلح للأسلوب القضائي الذي يتوخي الحقائق ويعبر عنها بأسلوب واضح صريح.
هذا نزر يسير من أمثلة البلاغة ما يصلح منها ومالا يصلح للأسلوب القضائي حيث لا يسع المجال عرضا مفصلا لها ولكنها مع ذلك موفية بالغرض.
بقي أن نشير إلي أن استيعاب الأدب القضائي واجب يتعين علي كل قاض أن ينهض به, فالأحكام هي الأهم بين سائر الأعمال القضائية وغاية الأعم الأغلب منها فضلا عن خطورة ما ترتبه من آثار, لذا وجب أن تصاغ الأحكام بأدب قضائي عال. وأخص ما يلزم القاضي لبلوغ ذلك هو التمكن من اللغة العربية التي هي وعاء الأدب القضائي, وليس ذلك بالأمر العسير فاللغة العربية كما قال الدكتور طه حسين ـ يسر لا عسر ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها. أما الأدب القضائي فهو أحدث العلوم الأدبية قاطبة وأصوله يسيرة المنال بجهد ليس بالشاق فهو مرتبط بعلوم البلاغة التي يدرسها الطلاب في المرحلة الثانوية ويجب من ثم التدريب المستمر علي تطبيقاتها. وصياغة الأحكام هي الأنسب لهذا التدريب لتنوعها مع فروع القانون المختلفة وانشغال القضاة بها يحرك وجدان كل منهم للإبداع في هذا الأدب والرقي بمستوي ما يصدر عنه من أحكام.


د. محمد عبدالبديع

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى