د. بهاء مزيد - تنبيه الأحباب للفرق بين النصّ والخطاب

الخطاب discourse هو كلّ مجموعة من العلامات اللغوية تضبط استخدامها قواعد وعادات لغويّة مرعيّة متعارف عليها وتنتج دلالات ومعاني تنتقل من مرسل إلى مستقبل في حقول معرفيّة وسياقات ثقافيّة واجتماعيّة. أصل الكلمة في الثقافة الغربيّة يفيد معنى "الجري هنا وهناك" – "اللفّ والدوران" حول موضوع، وانتقال رسالة من كاتب إلى قارئ أو من متكلّم إلى سامع أو مستمع. في أصلها العربي، ترتبط الكلمة بالشَّأن أَو الأَمْر، أي الخطْب بتسكين الطاء. والخَطْبُ هو الأمر الذي تَقَع فيه المخاطَبة والخِطابُ. والمُخاطَبَة هي "مُراجَعَة الكَلامِ، وقد خاطَبَه بالكَلامِ مُخاطَبَةً وخِطاباً، وهُما يَتخاطَبانِ" (لسان العرب).

أمّا النّص text – وأصله العربي يفيد معنى الرفع والإبراز أو التنصيب، ومن هنا كان "التنصيص"، وكانت "المنصّة" – فهو مجموعة من العلامات اللغويّة وغير اللغويّة – خصوصا المكتوبة أو المرسومة - التي ينتظمها نسيج مترابط – والأصل الغربي للمصطلح يفيد معنى النسج والنسيج، من هنا كانت texture وكانت textile - ففيه سبك وحبك، بعبارة سعد مصلوح، وله دلالة أو دلالات مقصودة أو محتملة، في سياق أو مقام معلوم، يتّصل بما قبله من نصوص من خلال التقاليد اللغوية والتواصليّة.
ارتبط النّص لعقود متعاقبة باللغة المكتوبة، والخطاب بالكلام أو اللغة المنطوقة، غير أنّ المصطلحين اليوم يتبادلان المواقع ويتداخلان وتتنقّل أدوات التحليل – ومنها أفعال الكلام والافتراض المسبّق والتضمين والتعدّي والسبك والحبك وما إليه - بينهما في حريّة ومرونة.
ما يجمع المصطلحين – بل ما يجمع كلّ المقاربات الوظيفية السياقيّة في علم اللغة - هو تجاوزهما مستوى المفردة والجملة، وخروجهما من ضيق التراكيب اللغويّة "منزوعة السياق" إلى رحابة العلاقة بين اللغة والموقف أو المقام أو السياق الذي تستعمل فيه، وانشغالهما بالوظيفة التواصليّة والغرض البلاغي لا البنى والتراكيب وحدها، وبالمعنى المتداول في مواقف ومقامات مختلفة لا المعنى المعجمي وحده.
قد يُقال إنّ الخطاب يستلزم وجود مخاطِب بكسر الطّاء ومخاطَب بفتحها. كذلك النّص يستلزم وجود ناصّ ومنصوص له – معلوم أو متوهّم - ومنصوص (عليه). وقد يرجع كثير من الخلاف والاختلاف حول تعريف النّص والخطاب إلى أنّ الكلام عن النّص يغلب أنّ تكون فيه اللغة – وغيرها من الأنظمة الإشاريّة الدلاليّة - هي نقطة الانطلاق، وفي الكلام عن الخطاب يغلب أن تكون نقطة الانطلاق من السياق الذي يحيط بالكلام أو غيره من العلامات.
الكتاب الذي بين يديك تقرأه الآن هو النًّصّ، أمّا العلاقات التي في النّصّ، والتي تحيط به - العلاقات بين الشخصيات، علاقة القاريء بالمؤلّف، والمؤلّف بالكتاب، السارد بالمسرود عليه، المتكلّم بالمستمع - فهي الخطاب. النّصّ ليس فيه تفاعل، أو ليس تفاعليًّا non-interactive، لكنّ الخطاب فيه، فهو تفاعليّ interactive. النّصّ منقول قابل للنقل، لكنّ الخطاب لا يكون إلّا مرّة واحدة. نستطيع أن نتذكّره لكنّنا لا نستطيع أن نستردّه (هابرلاند Haberland 1999). إذا كان هناك حدث تواصلي مسموع أو مرئي، دوّنه أحدهم بغرض التحليل، فالتدوين transcript هو النّصّ، لكنّه ليس الخطاب. يستعين الباحثون لوصف متغيّرات السياق بعد أن دوّنوا نصًّا مسموعًا بشروحات وإضافات تعرّف بالزمان والمكان والمشاركين في التفاعل وصفاتهم وعلاقاتهم وأغراضهم، وهكذا. وكذا يفعل أهل المسرح حين يريدون نقل نصّ مسرحي مكتوب إلى عرض مسرحي. كلمات على ورق تصير أداءً – يدخل فلان غاضبا، يقف بينهما، يقترب منها. تشمل هذه الإرشادات المسرحيّة كذلك الإضاءة وإعداد المسرح في كل مشهد من مشاهد المسرحيّة mise-en-scène. بهذه الإرشادات المسرحيّة، يصير النّص المسرحيّ أداء وخطابًا.
النّصّ - بعبارة هابرلاند - خطابٌ متجمّد frozen discourse (ص ص 912، 914). يضيف ماي Mey (1993) أنّ الخطاب هو ما يربط النّصّ بسياق (ص 187). قريب من هذا التمييز تمييز الجملة على الورق sentence من الجملة حين يتلفّظ بها أحدهم utterance. هذه الجملة على الورق "إنّها مدرّسة" تسري فيها الدّماء وتدبّ فيها الحياة حين ينطق بها أحدهم في سياق مُعيّن، لغرض مُعيّن، في حضور شخض أو أشخاض مُعيّنين. تكون الجملة خبرًا تارة، واستفهاما تارة أخرى وتعجّبا تارة ثالثة. ومن ينطق بها لا ينطق بها مرتين في الظروف والملابسات نفسها. "أنت لا تنزل في النّهر مرتين" – هكذا تكلّم هيراقليطس. والخطاب لا يكون إلّا مرّة واحدة.


د. بهاء مزيد / مصر



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى