أدب السيرة الذاتية فلاح الجواهري - وعيٌ على ذكرياتي: حبٌ في البصرة

(1)

.. " أنا أحب..إذاً أنا موجود"

دخلت عربة الحنطور ساحة المستشفى الجمهوري (..كان اختيار الحنطور جزءاً من استعادة ذكريات الطفولة في الجعيفر، فقد كان هنالك صف من سيارات الاجرة الى جانب العربات قرب محطة القطار حين وصل عند مطلع النهار)
..توجهت وانا أحمل حقيبتي الى العيادة الخارجية.. كان الرواق شبه خال من المراجعين، بعض المضمدين يمرقون بين هذه الغرفة وتلك على جانبي الممر..سألت احدهم عن الطبيب الخافر فدلني على غرفته.. حين دخلت الغرفة بعد أن نقرت على بابها مستأذنا، كان هنالك طبيب في مثل عمري تقريبا، بادي الوسامة معتدل الطول، رشيقا، بصدرية انيقة بيضاء، يجلس وراء طاولة معدنية خضراء غزت بعض اجزاءها بقع الصدأ، منشغلا بالبحث في ادراجها وعلى وجهه علامات الاستغراب، كمن اضاع شيئا كان يفترض ان يجده دون عناء..
وضعت حقيبتي على الارض وبقيت منتظرا أن يولي الزائر بعض الانتباه.
.. حين رفع راسه بعد لحظات نظر الي وابتسم مرحبا وكأنه راى شخصا يعرفه.
-طبيب مقيم اليس كذلك ؟..
حين راى ابتسامتي وهزة راسي ايجابا، نهض مرحبا وطلب مني الجلوس على كرسي معدني قريب..
- فلاح الجواهري!..مددت كفي فشد عليها بحرارة مصافحا..
-نعمان السامرائي..أهلا وسهلا..
بعد أن ضغط زر الجرس الى جانبه، أطل شخص كهل بزي عتيق متواضع، قدرت أنه معين العيادة الخارجية، وطلب منه استكانا للشاي، وان يخبر مسعود ليقدم ويحمل حقيبة الطبيب الجديد.
دار حديث قصير، اطلعني فيه على توقع قدوم وجبة الاطباء المقيمين الجديدة خلال هذين اليومين، والذي كان هو أول طلائعها.
- هل لديك مانع من أن نسكن سوية في غرفة واحدة ؟ سألني نعمان
- بل سيكون ذلك سروري البالغ.
قدم مسعود وأخذ الحقيبة فتبعته.
.. رجل في الخمسينات من عمره.. كرر وأنا اسير الى جواره :
-اهلا بعمي الدكتور..اهلا بعمي..عمي والله زارتنا البركة..
.. اعترضت.
-أنت عمي فانت اكبر مني بما يقرب الثلاثين عاما.. دعني احمل عنك ايها العم هذه الحقيبة الثقيلة..
حاولت أن اسحب الحقيبة من يده فشد على مقبضها بقوة.. ابتعد عني قليلا.. وضع الحقيبة على الارض.. نظر اليّ بعتاب :
-عيب والله عيب.. الطبيب ا ُبو..ا ُبو.. والله ا ُبو..
كنت في غاية الحرج وانا اسير بجانب الرجل الكهل وهو ينوء بالحقيبة الثقيلة.

كانت دار المقيمين مكونة من طابقين.. ثلاثة غرف في الطابق الارضي، الوسطى يشغلها الدكتور حسن السكافي لوحده فهو رئيس المقيمين وابن أخت شاكر توفيق السكافي رئيس الصحة..غرفتنا انا ونعمان على يساره بينهما حاجز خشبي يمكن فتحه على سعته.
أطلعني مسعود على تفاصيل الدار، وبعد ان وضع حقيبتي في غرفة نعمان، سألني إن كنت افضل قدح شاي او فنجان قهوة او شرابا مبردا، وحين شكرته معتذرا واطلعته أنني بشوق لاتعرف على مدينتي الجديدة مادام اليوم هو الجمعة، اي قبل موعد مباشرتي الرسمية بيوم واحد.. سالني عن موعد عودتي وعن ما اشتهيه للغداء والعشاء كي يقوم باعداده في المطبخ.
حين عدت ليلا وجدت نعمان قد أعد سريري ووضع حقيبتي بجانبه وعلى الكوميدي جوار السرير مزهرية صغيرة بها اضمامة ورد صغيرة ومصباح منضدة..
..شكرته على هذا اللطف الرقيق.
-كيف كانت جولتك في البصرة ؟
-لاتقلْ البصرة، بل قلْ جمهورية البصرة، إنها تختلف عن كل ما رأيت لا بين مدن العراق، بل ومدن العالم الاخرى التي عرفتها..شيء في غاية الجمال والتميّـز معالما واناسا.. لن ابرحها ما حييت يا نعمان.

في الصباح توجهت الى غرفة مدير المستشفى، أحد أمهر جراحي العراق وأكثرهم نبلا، الدكتور مصطفى الخضار.
قدّمت اليه الامر الاداري.. رحب بالطبيب المقيم الجديد، ومع فنجان القهوة اطلعني على بعض ردهات المستشفى الضخم واقسامه، وأنه يضع جدول التدريب واختيار الاقسام بين ايدي وجبات المقيمين انفسهم واختياراتهم قدر المستطاع، وهذا نظام قد اتبعه في السنين التي مضت واثبت نجاحه في تدريب الدفعات الجديدة وفائدته لمرضى المستشفى..
.. طلب مني أن ازور الردهات واعرّف نفسي على مسؤوليها من الاختصاصين وأن اجد ما يناسبني للاشهر الثلاثة الاولى من الاختصاصات لبدء الاقامة الدورية..
.. قمت بجولتي، وعرضت خدماتي وتدريبي على الدكتور مصطفى النعمة، اخصائي الامراض الباطنية المخضرم، زميل الكلية الملكية البريطانية وعميد كلية الطب لاحقا.
حين عدت بعد اقل من ساعة الى مدير المستشفى، مطلعا اياه على اختياري للامراض الباطنية كبداية لاقامتي الدورية وموافقة الدكتور النعمة على ذلك، سألني متى اريد البدء، وإن بامكاني أن ابدء من يوم غد اذا اردت،لاكمال اطّلاعي على اقسام المستشفى، رجوته أن يسمح لي بالبدء فورا.. ابتسم وهو يوقع الامر الاداري :
-يبين إنت كلش مستعجل عل التعب.
التحقت على الفور في جولة الدكتور النعمة الصباحية على مرضى ردهته وكان يرافقنا في الجولة محمد (ابوجاسم) اقدم مضمد في المستشفى واكثرهم خبرة وجهدا ووفاءا في عمله.. رجل اسمر الوجه، ضخم الجثة، منتصب القامة، وادع القسمات انيق الملبس بالصدرية والبنطال الابيض، خدم منذ اوائل تأسيس المستشفى وتدرب وعمل مع المجموعة الطبية البريطانية المنتدبة في اوائل العشرينات.
.. كانت ترافقنا في الجولة زهور، ممرضة سمحة الوجه في العشرينات من عمرها، مسؤولة تنظيم اوراق المرضى ومواعيد فحوصهم ومواعيد الطبيب الاختصاصي وجهاز تخطيط القلب في غرفتة.
.. مريض الربو في طور التحسن.. عجز في القلب.. فقر الدم المنجلي..تضيّق صمام القلب التاجي.. حين وصلنا الى المريض الثاني عشر-آخر الجانب الايمن من الردهة- والمختفي كليا تحت اغطية السرير، تجاوزه الدكتور النعمة.. سألته عن تشخيصه المرضي فاجاب :
-ضياع الهوية المزمن.
(اطلعني ابوجاسم بعد مغادرة النعمة، بأن هذا الرجل الملتحف وهو في الستينات من عمره، عامل على ظهر مركب هندي (بوم)، تخلّـف عن موعد اقلاع مركبه، فغادر المركب مرساه في البصره عائدا الى الهند، تاركا اياه دون جواز او اوراق ثبوتية هندية..
القنصلية الهندية في البصره ترفض استلامه والسلطات العراقية ترفض بقاءه.. راجع (الهندي التائه) الدكتور النعمة لمرض ألم به.. أدخله الردهة.. بعد شفائه لم يسمح ضمير الدكتور النعمة في رميه الى المجهول خارج الردهة، فابقاه عسى أن تحل قضيته وهذه هي السنة الثانية والقضية لم تحل بعد وهذا المصاب بمرض (ضياع الهوية المزمن) يأكل وجباته على السرير ثم يلتحف باغطيته ويعود الى النوم.

اليوم هو يومي الاول كطبيب ردهة خافر.
كان الليل قد اقترب من منتصفه.. أجلس في غرفة خفارة الردهة (هي غرفة الممرضات وغرفة ابو جاسم صباحا)، اراجع ملفات المرضى واحدا بعد الآخر واستعين بمرجع (ميرك) في التشخيص والعلاج.. سمعت جلبة وزعيقا وثلاثة رجال يقتحمون الردهة، حاملين معهم مريضا يرفس برجليه ويصارع الهواء بيديه وجسمه يتلوى بين أذرعهم وهم يحاولون بشق الانفس كي لا يفلت المصروع من بين ايديهم..
..أشرت اليهم أن يضعوه على طاولة الفحص في الغرفة.. نظرت اليه وانا أكثر منه ومن مرافقيه هلعا.. لم ار شيئا كهذا في مستشفيات موسكو او براغ..&
..حاولت أن أشم رائحة الاسيتون من فمه (كما هو عند صرع المصابين بالسكري) فلم استطيع حتى الاقتراب..حاولت الامساك بمعصمه الساخن لجس نبضه فرميت بعيدا..&
أقف حائرا.. ما هذا يا إلاهي.. صرع الحمى التيفوئيدية الشديد..صرع..
.. وجدت ابو جاسم الى جانبي (يأتي في الليل المتأخر لمتابعة عمل الممرضة وللتأكد من وجبات الادوية وساعاتها).
.. أمر الممرضة أن تحضر ادوات خزع النخاع الشوكي.
.. وقفت الممرضة الخافرة الى جانبي مع طاولة متحركة تحمل فوقها محقنة كبيرة وابرة طويلة وقنينة صبغة اليود وقطنا ووعاءا معدنيا وكفوفا مطاطية..
.. دفع ابو جاسم الرجال الثلاث جانبا وطوى المريض بيديه الجبارتين، بحيث اصبح تقوس ظهره امامي.
..طلب من الممرضة الخافرة قص كل ما يغطي الظهر، فبانت نتوءات الفقرات المقوسة.. سارعت الممرضة لمساعدتي في حشر كفي بالكفين المطاطيين.. مسحت جلد الظهر فوق منطقة اعلى الفقرات القطنية..
-هيّـا دكتور توكل على الله..اعرف انها اول مرة! قالها ابو جاسم مشجعاً
سحبت نفسا عميقا وتوكلت على الله وادخلت الابرة الطويلة دون عناء –لحسن الحظ-..إمتلا المحقن بسائل حليبي قذر.
.. التهاب السحايا الصديدي!
(لا تُجرى هذه العملية في الغرب إلا من قبل الطبيب الاختصاصي)
سارعت لحقنه بالمضادات الحيوية ومركبات السلفا بجرعات ضخمة ثم حقنة من اللومينال (للنوم).
.. نقل الى السرير وشدّ بأحزمة فوقه.
خلعت عني الصدرية وفانيلتي ومسحت العرق المتصبب على جسدي ووجهي رغم اننا في منتصف الشتاء.. شكرت ابا جاسم بحرارة.
-لقد مر علي عشرات الاطباء قبلك لاكون معهم في حالات مماثلة، قالها مبتسماً.
خفّـت حمى المريض عند الصباح.. بدا يتعافى مع استمرار العلاج..خرج من الردهة بعد اسبوعين بصمم جزئي وهو لا تسعه واهليه الارض من السعادة.
.. اعتقد اني كنت بسعة سعادته.. لقد انقذت أنا وابوجاسم انسانا من موت شبه اكيد.
.. حُملت اليّ – في دار المقيمين- اول صينية من اسماك الصبور المشوية المعدة على الطريقة البصرية ومعها صحن رز بالزعفران وحشوة اللوز والزبيب والبصل..وصحن كبير من (الحلاوة).. شارك كل المقيمين في الدار في تناولها.
التحق عدد آخر من الدورة الجديدة بالمستشفى، وبدأت الحياة تدب بل وتصخب احيانا في الدار.. ننشغل كل في ردهته نهارا ونتعاون في خفارات الليل في كثير من ألاحيان على انقاذ هذا المريض وتتبع حالة صعبة لمريض آخر..لا ننام إلا سويعات.. نلهو ليالي الجمعة ونهاراتها.. نصخب احيانا في حديقة الدار ليلا للحد الذي يرغم رئيس الصحة الطيب الوقور الذي يسكن لصقنا، وكلنا يدعوه بالخال لانه خال زميلنا الدكتور حسن، على طرق باب الدار في وقت متأخر سائلا ايانا بادب جم وقور أن نقلل صخبنا كي يستطيع أن ينام بقية الليل.

لا تزال ردهة النسائية دون طبيب خافر فلم يكتمل نصاب الاطباء المقيمين الجدد بعد.. نقتسم نحن القلة من الموجودين خفاراتها.
في اول ليلة لي هناك.. كانت الحالات عديدة..
.. نزف رحمي شديد لاسقاط غير مكتمل يستدعى عملية لجرف بطانة الرحم.
..نعيمة الشابة الجميلة السمراء كانت الى جانبي هذه المرة بدلا من المضمد الاقدم المخضرم ابو جاسم..
لقد كانت نعم العون حقاً
.. مع طاولة الادوات الطبية اللازمة وهي تقف الى جانبي في غرفة عمليات الردهة، أجريت اول عملية نسائية في حياتي الطبية.. كان جرف البطانة الرحمية ناجحا تماما.. توقف النزف الدموي المهدد للحياة بعده تماما&
.. لم نسترح إلا قليلا لتدخل حالة ولادة مستعصية.. مقعد الجنين هو المتقدم في فتحة المهبل..&
.. نعيمة تكرر وتشير باصبعها..
-قليلا الى اليمين دكتور.. دكتور اسحب أكثر.. اليك المقص واقطع العجان جانب المهبل الى اليسار، اعلى فتحة الشرج بثلاثة اصابع.. ها قد ظهر الجسد.. دوّره الى اليسار قليلا.. الى اليمين قليلا..،..
قلبت الطفل الوليد المغطى بالشحوم والسوائل والدم ممسكا به من كاحليه.. ضربت بكفي على ظهره.. اطلق اول صرخة بكاء في حياته (وليس آخرها).. تماسكتُ
كي لا ابكي انفعالا.. تذكرتُ زميلتي الروسية في السنة الخامسة وهي تجهش بالبكاء العنيف عند خروج اول طفل من رحم امه ونحن نتابع اول ولادة نشهدها في المستشفى التعليمي الكبير.
..حالة من حالات الارجاج الشديد (eclampsia)..&
..هيّـأت نعيمة الغرفة المظلمة.. تم زرق المراة الحامل المتشنجة بعقار للاسترخاء، ومخفّض للضغط، ومادة مدررة وتم وضعها بحذرورفق شديدين فوق السرير.
ما أن حاولنا ان نستريح قليلا من العناء آخر الليل، حتى اُدخـلت طفلة في الثانية عشرة من العمر بتمزق مهبلي ونزف شديد.
..طفلة عروس في ليلة دخلتها.
.. وقفت نعيمة من جديد الى جانبي في غرفة عمليات الردهة النسائية.. ناولتني مقرص الشرايين.. " إقرصْ على منطقة النزف اسفل المهبل! ".. " جيد! ".." وعلى الآخر اعلاه!".... " الآن وبعد أن خف النزف.. ابدأ بخياطة الانسجة الممزقة! "..،..
اوشك الفجر أن يجهجر..جلست لاستريح في غرفة الطبيبات بينما كانت نعيمة تعد الشاي.. جلبته مع بضع قطع من البسكويت..
..ونحن نسترخي على الكنبات الواسعة&
وبعد ان نعمنا ببعض الراحة والاسترخاء.. قالت والبسمة على شفتيها :
-هل تعلم يا دكتور باننا –نحن الممرضات- عقدنا اول أمس اجتماعنا الدوري الذي يجري بعد قدوم كل دورة جديدة من الاطباء المقيمين، وقد حُددت حصة كل ممرضة فينا – بالتفاهم والتشاور الودي – منطقة شباك صيدها المرمية على واحد بعينه من الوافدين الجدد.
.. لم يحصل سابقا اي تجاوز في المناطق المرسومة، لذا كانت كلمة الشرف الجديدة كسابقاتها أن نلتزم حدودنا هذه.. وان لا تتجاوز اي واحدة منا على حقوق صيد صاحبتها..
-وانا يا نعيمة كنت حصة شباك اي منكن ؟
-ومن تظن بربك ايها الدكتور العزيز ؟!!
(في دورتنا الحالية المكونة من تسعة اطباء افلحت شبكتان في صيدهما بزواج شرعي معلن.. الاول لعدنان الابيض الاشقر سليل عائلة غنية معروفة، بزواجه الموفق السعيد بممرضة زنجية السواد نوبية الجمال وقد احتفلنا بعد عامين، وهو عائد من وظيفته في الخليج، بقدومه خلال زيارة للبصرة مع زوجته الحسناء وطفلهما الجميل خلاسي اللون مجعد الشعر.. والثاني بزواج تعس مليء بالمشاكل والصدام والمنتهي بطلاق باهض التكاليف)&

كنت طبيبا خافرا في العيادة الخارجية للمرة الثانية منذ قدومي.
..أتت حالات بسيطة كثيرة، واخرى اكثر اهمية بقليل.
قرابة الثامنة ليلا، هرعتْ الى غرفتي إمرأة مرعوبة منشدهة، تحمل فوق ذراعيها صبيا في الخامسة او السادسة من عمره..يشهق فيصدر صفيرا حادا مع كل نفس عسير يأخذه..وضعته على طاولة الفحص وصرخت باكية :
-دخيلك دكتور..ابوس ايدك!
قفزتُ الى جانب الصبي المريض.. ضغطت بخافضة اللسان في فمه.. طبقة من غشاء ابيض تغطي مدخل البلعوم.. الطفل محموم وفي حالة من الاعياء الشديد
..الدفتريا دون ادنى شك..
.. " هل ساقوم بشق اسفل العنق طولا واعلى الرغامة وأضع على الفور انبوبا، لافسح المجال لدخول الهواء الى الرئتين.. لكن لماذا وهنالك الآن ولحسن حظ المريض يتواجد الدكتور احمد مصطفى السلمان والطبيب المقيم الاقدم في الجراحة معه في جولة مسائية لهما في ردهته الجراحية..".
.. لم ادع الوقت يمضي في طلب نقّـالة ومضمد ليأخذاه معي الى ردهة الدكتور السلمان..حملته على ذراعيّ وركضت كالمجنون تحت ابصار المضمدين والمعينين المستغربين وتوجهت عبر ساحة المستشفى الكبيرة فالممر الطويل المؤدي الى ردهة الدكتور السلمان..
.. اقتحمتها فاتجهت صوبي انظار المرضى والدكتور السلمان والدكتور حسن والمضمدين بدهشة تكاد تكون رعبا..
صرختُ وانا عند باب الردهة المشرع :
-دخيلك دكتور السلمان.. ارجوك!!.. حالة خنّـاق شديدة حرجة!!
طلبَ من الدكتور حسن ان يرافقني الى صالة العمليات الكبرى.
.. دخلناها وانا ادعوا الله شبه باك أن يتمكن زميلي وجاري وصديقي حسن من انقاذه بشق الرغامة السريع.
.. طلب الدكتور حسن من ممرضة الجراحة وضع المريض نصف المختنق فوق طاولة العمليات واعداد الصالة..
.. أخذ يغسل كفيه، ويعيد غسلهما وينظف اطراف الاصابع بفرشاة تنظيف الكفين..
-ارجوك اخي حسن!..ارجوك اسرع!..لا ضرورة في هذه اللحظة الحرجة للتقيد بوسائل التعقيم النمطية.. ارجوك!!
-اهدأ يا فلاح..اهدء كل شيء سيتم على ما يرام.&
اندفعتُ الى صالة العمليات بحذائي المتسخ.. توجهت الى طاولة الادوات الجراحية مبعثرا العديد منها بحثا عن مشرط..
أتاني صوت الممرضة :
-آىسفا يا دكتور..لقد توفي الصبي
جمدت في مكاني..لم ار شيئا غير ضباب ازرق لفترة غير قصيرة..ضياع في متاهة فراغ الروح والجسد..
.. صحوت على من يهز كتفيّ برفق..
-استهدي برحمانك يا صاحبي.. لقد بذلنا جهدنا يا صديقي..كان حسن يقولها وهو يحاول سحبي برفق عن طاولة الصبي الممدد التي كنت اتشبث بها.&
&


********************


(2)

تتضمن واجباتي لهذا الشهر مسؤولية السجن والسجناء، بين المسؤوليات الاخرى في الردهات والخفارات.&
.. معاينة الارزاق عند مطلع الصباح (لا استطيع رغم كل محاولاتي، من وضع حد لتلاعب مقاوليها.. أشهد اجود المواد الغذائية تعرض امامي، وارى اسوء الاطعمة تقدم للسجناء.. اشتكي الامر عند مدير السجن، فيشتكي هو الاخر منهم ويعد بمراقبتهم بنفسه.. الحال هو الحال..)
اقوم بجولتي الصباحية على العنابر والمرافق الصحية والمطبخ، اعطي توجيهاتي قبل أن اجلس في غرفة طبيب السجن.. يجلب الحارس فنجان القهوة.. يُدخل بعدها (المرضى) المنتظرين واحدا تلو آلاخر..&
حالات مرضية طفيفة عند الاقلية.. تمارض عند الاغلبية.. اتعاطف مع الجميع وانا اتذكر ايام المواقف والمعتقلات والسجن المركزي في الخمسينات..&
.. اكتب الوصفات.. ازرق بعض الحقن العضلية..&
-دَخَتورْ يرحمْ والديك إبرة من هاي اللي توجّعْ.. .. اُفـّـيشْ هايْ تَمامْ يرحم موتاك.&
.. يطلب البعض حمية غذائية خاصة (هربا من أكل السجن السيء).. يحصل مني على حمية غذائية متميزة.. يطلب البعض الاخر إجازة مرضية عن عمل السجن الالزامي.. يحصل مني على اقصى إجازة ممنوحة..&
في إحدى الليالي اُستدعى لحالة مرضية مستعجلة..&
.. يقودني احد الحراس الى مكان جانبي من ساحة السجن.. يفتح الباب امامي، ويضرب قدميه عند الباب المشرعة على الارض الخرسانية، ويرفع ذراعه وكفه في تحية عسكرية يهتز لها جسده، واهتز عجبا.. مدير السجن يجلس في صدر صالة طويلة وسيعة، مفروشة بابسطة جميلة نظيفة، صفت على جانبيها فرش وثيرة ووسائد يتكأ عليها رجال مهيبون في دشاديش وستر وصايات انيقة.. هنالك دلال للقهوة..&
" لابد انني قد وصلت الى مضارب بني حمدان "
.. اُلقي التحية على الجميع (أعلم لاحقا أن هذا الجمع الجميل المسترخي على الارائك..) هم السجناء السياسيون بعثيون وشيوعيون..&
"الغريم وغريمه.. السجان وسجناءه جنبا الى جنب في هذه المضارب الفخمة.. لاعجب يا صاحبي.. إنك في مضارب البصرة المسالمة السمحة "&
- من هو المريض فيكم؟.. أسأل وانا لا ازال منشدها مما اراه.&
.. رجل ضخم مهيب في صاية وعباءة ثمينتين.. هز برأسه مبتسما..&
-تفضل دكتور.. قالها وهو ينهض عن جلسته واقفا..&
.. صافحني بحرارة وطلب مني الجلوس الى جواره على الفراش الوثير..&
-فنجان قهوة دكتور؟.. قالها مدير السجن من صدر الصالة بلطف كبير.&
- اشكرك.. سوف اقوم بفحص المريض اولا بعد إذنك.&
أخرجت دفترا صغيرا وقلما من الحقيبة..&
-الاسم الكريم؟
-حافظ أحمد.&
- العمر؟
- واحد واربعون.&
- مالذي تشكو منه؟
صداع.. تمهل قليلا قبل أن يضيف،.. ألم في الجنب الايمن.&
طلبت منه التجرد من بعض ملابسه.&
وضعت المحرار في فمه.. تلمست نبضه.. وضعت خافضة اللسان في فمه.. قست ضغطه.. تسمعت رئتيه شهيقاوزفير وسعالا.. القلب ودقاته..&
(المريض).. لا تفارق الابتسامة شفتيه في كل مراحل الفحص، طلبت منه الاستلقاء وقمت بتلمس حواشي الكبد والطحال وبقية اعضاء البطن..&
-كل شيء على مايرام سيد حافظ.. لابد وانه ارهاق عصبي او شي طفيف مشابه.&
جلس وارتدى ملابسه.. نظر اليّ وتوسعت ابتسامته..&
-اعذرني، بل اعذرنا جميعا دكتور.. لقد تآمرنا مع ابي العباس (اشار برأسه الى مدير السجن)، كي نتعرف عليك.. أنت ابن الحبيب.. أنت ابن من قال فينا:

" سلامٌ على حاقدٍ ثائـرِ = على لاحبٍ من &دمٍ &سائرِ
يَخِبُ ويعلمُ أن الطريقْ = لابـد مُفـضٍ & الـى & آخـرِ
كأن بقايا دمِ السابـقـيـن = ماضٍ يُـمـهـدُ & للحـاضـرِ
وليسَ على خاشعٍ خانعٍ = مـقيـمٍ على &ذلـهِ & صابـرِ
عفا الدهرُ عن طللٍ داثرِ = وعـن &مَغنـمٍ كـاسـدٍ بائـرِ
يَغُـلُّ يد الشعبِ عن أن تُمدّ = لكسرِ يـدِ الحاكـمِ الجائـرِ
ويأمرهُ أن يقـرَّ النـزول = على إمـرةِ الفاسقِ الفاجرِ&
سلامٌ على مُثقَـلٍ بالحديد = ويشمـخُ &كالقاـئد الظافـر
كأن القيودَ على معصميه = مفاتيـح مستـقبـلٍ &بـاهـرِ&
أقول لِـمُـلقىً بتلك الجباب = هـزوءٍ باهـوالـها ساخـرِ&
سميرَ الأذى والظلامِ الرهيب = خلا الحيُ بعدكَ من سامرِ
سَلمتَ فإنكِ في ناظري = فإنْ غبتَ عنهُ ففي خاطري

" اين هم المثقلون بالحديد.. بالقيود.. المرمين بالجباب.. اين هو سمير الاذى والظلام الرهيب؟! نحن في مضارب سمّـار بني حمدان المترفة النّيرة.. "
أطلعته على تواجدي عند القائه القصيدة في نادي المحامين في البراضعية، وانا ابن الرابعة عشرة، وكيف أن القصيدة وتفاعل الشباب المثقف من الحضور كان مظاهرة صاخبة، ضجت فيها القاعة بالهتافات والتصفيق (بالطبع لم أطلعه على هتاف أختي الكبرى أميرة، وكانت في مطلع شبابها آنذاك، حين قفزت وقد أخذها الحماس والانفعال، واقفة فوق احد المقاعد لتهتف بصوت عال " يعيش أبويَّ! "..).&
سجين آخر ينشد مقاطع من دجلة الخير.. ثالث يتغنى بمختارات من (يا أم عوفٍ)
.. انهمرت الاسئله كالمطر..&
.. اين يعيش الآن؟.. كيف يقضي اوقاته هناك؟.. من يقابل؟.. ماهي آخر قصائده؟.. أما آن له ان يعود!.. متى تتوقع ذلك؟
.. كان للجلسة ان تستمر حتى ساعة متأخرة من الليل لولا اعتذاري بأن هنالك واجبات تنتظرني في الردهة الخافرة.&
- زرنا يا دكتور بين الحين والآخر!
- لقد زرت مكانكم هذا مرارا في الخمسينات..&
- ستختلف زياراتك لنا.. ستكون جلسة للشعر مع فنجان قهوة.&

التحقت بالمستشفى طبيبتان مقيمتان.. جنان ومريم.. سكنتا في دار المقيمات المجاور لدارنا.&
.. اهتممنا بظهرنا اكثر من ذي قبل.&

لا يزال عددنا لا يكفي ليلتزم كل بردهتة..&
كنت الطبيب الخافر في ردهة الدكتور سامي بني للاطفال.. حين هرعت أم مرعوبة شبه مجنونة.. بملابس لا تكاد تستر جسدها، حملت فوق يديها طفلة في الخامسة من العمر متوزمة، محمرّة الوجه.. تسيل رغوة حليبية من فمها، مع عسر شديد في التنفس. .. وضعتها الأم على سرير الفحص.. أخذت الأم تخمش وجهها باظافرها لتدميه.. وتنظر اليّ مستنجدة دون كلمة.. تحاول ان تقول شيئا فلا يصدر عنها الا فحيحا.&
استرعى انتباهي على الفور ازرقاق شفتي الطفلة.. تفحصت اصابعها واظفارها.. هنالك ازرقاق ملحوظ ايضا.. فتحتُ باصبعيّ جفنيها.. بؤبؤ ابري التضيق.. الصدر مليئ بخرخشة الوذمة الرئوية.. دقات القلب متباطئة..&
دخل رجل في اواخر العشرينات.. مضطربا، مبعثر الحواس.. قدّرت أنه والد الطفلة&
-خبرني وبسرعة وباختصار.. ما الذي حصل للطفلة؟..&
-لقد كان الاطفال يستحمون مع والدتهم في حمام البيت.. وحصل ما تراه يا دكتور.&
-اسمع يا رجل!.. قل الحقيقة!.. اني اشك بحالة تسمم، مالم تخبرني الصدق فورا ساعتبرها قضية جنائية واستدعي الشرطة للتحقيق.. قلت بغضب مهددا.&
لم تكن إلا لحظة تردد قصيرة ليردّ بعدها، وهو ينظر الى زوجته بين الحين والآخر:
-لقد ادخلتْ زوجتي اطفالي الثلاثة الحمام واستعملت لغسل شعرهم مادة لقتل القمل كانت متوفرة لدينا في البيت..&
-ماهي هذه المادة؟
- لا اعرف اسمها لكنها مادة من مبيدات الحشرات الزراعية، وانا اعمل في هذا المجال.&
طلبتُ منه الذهاب الى البيت باسرع ما يمكن وجلب علبة المبيدات التي استعملت.&
.. قمت بالاتصال بالدكتور سامي بني واخبرته عن وجود حالة مستعجلة قد تتطلب وجوده..&
.. تفحصت الطفلة المريضة من جديد..&
".. تضيق ابري في بؤبؤ العين!.. هنالك شيء في الجهاز العصبي المركزي هو السبب في هذا التضيق!.. ماالذي يوسع حدقة العين؟! الاتروبين.. الاتروبين متوفر تحت يديّ في غرفة الفحص!.. الاب قد يتأخر لجلب المادة التي أدت لهذا التسمم.. وحتى الطبيب الاستشاري بني قد يتأخر.. لن أنتظر.. لن أنتظر!! "
زرقتُ الطفلة بالاتروبين.. لا تحسن في وضع البؤبوء، ولا في الاحتقان والوذمة الرئوية.. ربع ساعة وقمت بزرقها جرعة ثانية.. وثالثة.. ورابعة..&
.. البؤبؤ يتوسع قليلا.. دقات القلب تتحسن بعض الشيء.. اواصل الزرق..&
حضر والد الطفلة وبيده علبة معدنية.. سارعت الى قراءة ماكتب على ظهرها:
(في حالة التسمم، المادة المضادة هي الاتروبين)!&
.. تفاءلت خيرا ودعوت الله وانا اواصل زرق الاتروبين..&
حضر رجل آخر- هوخال المريضة- يحمل على يديه طفلا جميلا كالفراشة، في الثانية من عمره، ممتليء الجسم ابيض البشرة، بشعر مفلفل اشقر، بعينين بزرقة البحر.. نفس الاعراض ولكن بصورة اشد بكثير..&
.. شبه اختناق (تشنج في الرغامة) وعسر تنفس شديد مع صفير في الشهيق والزفير ورغوة حليبية تسيل على جانبي فمه ووذمة رئوية.. إنه يغرق بسوائله.&
.. لم انتظر قدوم الدكتور بني.. رفعت سماعة التلفون واتصلت بصديقي وزميلي من ايامي في كلية الطب ببغداد، اخصائي التخدير الدكتور بدروس ديكران ورجوته أن يقدم على عجل لحالة تستدعي وضع انبوبة في الرغامة عن طريق الفم..&
.. يحضر بدروس.. يدخل انبوبة في الرغامة..&
.. يترك سامي بني عيادته ويأتي على عجل..&
ها قد أحضروا صبيا في الثالثة بحالة حرجة تشبه طفل السنتين تلك الفراشة الملوعة..&
.. قام الدكتور بني بمواصلة الزرق بالاتروبين للطفلة الاولى (ذات الخمس سنوات).. وكذلك الطفلين الاخرين الحرجين..&
فقدنا الطفل ذي الثلاث سنوات عند منتصف الليل..&
طفل السنتين، تلك الفراشة الجميلة، لايزال وضعه حرجا.. نجلس نحن الثلاثة بجواره.. يسارع الدكتور بني بين الحين والآخر بمحاولة لايقاف مظاهر العجز الكلوي والكبدي بالادوية.. يستمر بدروس بسحب السوائل الراشحة في الرغامة والرئتين..&
.. عند الفجر رفرفت الفراشة الجميلة وطارت في مجاهل الابدية.&
قمنا حزانا متعبين منكسي الرؤوس.. توجهنا لتفقد الطفلة التي كانت اول من استقبلها في الردهة.. بدت عليها بعض علائم التحسن.. لقد زال الخطر.&
.. قبل ان يخرج الدكتور سامي بني من ردهته.. امسك بكتفيّ.. نظر بعينيه العسليتين المجهدتين الى عينيّ الاكثر إجهادا:
-لولا مسارعتك بالتدخل قبل أن نحضر، لما عاشت هذه المريضة ايضا.. لقد اعطيتها عمرا جديدا.&
.. مرت سنين كثيرة، لالتقي بالدكتور سامي بني ليحدثني: " ما من دورة اطباء جديدة تأتي الى ردهتي، حتى اضرب بك مثلا على استعمال التقدير الشخصي السريع في الحالات الحرجة، حتى وإن كنت في اول طريقك الطبي.. "
.. في مطلع الثمانينات تحضر (سهام) طفلة التسمم المعنية، مع والدتها، الى عيادتي في البصرة لتدعواني لحضور حفل عقد قرانها..&

اليوم هو الاربعاء.. ردهة الدكتور يعقوب بني للامراض الباطنية هي الخافرة..&
.. شحاذو البصرة وجياعها يتوافدون باعداد غير قليلة، آملين عبر مظاهر الامراض المزمنة التي يعانونها، عدا مرض جوعهم الازلي، أن يسعفهم المرض وطبيب العيادة الخارجية الخافر، في دخول ردهة النعيم الموقت، ردهة الدكتور يعقوب بني&
.. لقد كنت انا ذلك الطبيب الذي تنعقد عليه الآمال.. كنت الطبيب الخافر لذلك اليوم.&
هولاء الجياع، مرضى كانوا أم متمارضين، يعرفون تمام المعرفة طيبة الدكتور يعقوب بني اللامتناهية.. هذا الانسان العظيم واسع العلم والنبل..&
.. عيادته متاحة مجانا لفقراء البصرة وشحاذيها، وردهته تحظى برعاية لهم لا مثيل لها حتى عند الاطباء الاختصاصيين الآخرين البارعين في اختصاصاتهم ورعايتهم.&
.. (عبدْ عونْ) الشحاذ المترهل المتوزم، الذي اراه في مكانه الثابت من جسر سوق المغايز، كان اول القادمين الى العيادة الخارجية، وليست هي المرة الاولى التي استقبله فيها أثناء خفاراتي..&
.. نفس الاعراض كسابقاتها، مظاهر ارتفاع ضغط الدم وعجز القلب مع الوذمة الرئوية..&
.. لابد من ادخاله ردهة الدكتور يعقوب، حتى وإن كنت اعرف انه يستحضرهذه الاعراض، بأن يلتهم حفنة كبيرة من الملح قبل قدومه بساعات.. فينتفخ ويغرق بسوائله.&
.. احيله الى الردهة فورا وسيتكفل الدكتور نعمان السامرائي، الخافر هناك، باسعافه بمركبات الديجتال، وادوية الضغط، والمدررات، وانبوبة الاوكسجين، وانا شبه واثق أنه سيفلح في انقاذه من هذه الازمة المتكررة، مثلما افلح في سابقاتها.&
.. سيحظى عبد عون ولمدة اسبوع على الاقل بمكان للنوم غير رصيف الجسر الاسفلتي وبسرير مريح بأغطية نظيفة، وافطار بعد زوال الخطر عند الصباح.. .. قطعة من الجبن، ومربى المشمش، وقطعة من الزبدة، ورغيفا من الخبز وقدحا من الشاي بالحليب.. يطلب عبد عون مزيدا، فلا ترد ممرضة الردهة طلبه.. ينعم بابتسامة الدكتور يعقوب وكلمته الطيبة اثناء الفحص الصباحي.. ثم يأتي الغداء بصحن الشوربة ومرق ورز وخبز.. في المساء سينعم بوجبة عشاء دافئة وممازاحات الدكتور نعمان، الحقن العضلية وبعض الادوية المرة سيجد فيها لذة الوخز وعسل المرارة.&
.. ادخلتُ آخرين من نفس شاكلته، حتى ولو كانت حالاتهم لا تستدعي بالضرورة الادخال العاجل، تاركا بضعة اسرة في الردهة للحالات الطارئة الحرجة الحقيقية المتوقعة.&
حقوق الشحاذين والجياع بادخالهم محفوظة عندي.. اسبوع من جنة الشبع ونعيم الراحة والتعامل الانساني محفوظة لدى الدكتور العظيم يعقوب بني في ردهته.&

ها قد قدم (موزان) الى ردهتي الخافرة.. ردهة الدكتور النعمة.&
موزان ملّاك بساتين صغيرة في منطقة البوارين، في مطلع الخمسينات من عمره، مصاب بتضخم القلب نتيجة ضغطه الدموي المرتفع.. الدكتور النعمة طبيبه المتابع
في العيادة والمستشفى.. يصاب بعجز القلب والوذمة الرئوية بين الحين والآخر..&
.. يدخل الى الردهة وهو بين الحياة والموت، فاسارع اليه، فمن زرق بمركبات الديجتال الى مخفّضات الضغط، فالمدررات وقناني الاوكسجين..&
.. تزول ازمته عند الفجر.&
حين اعود الى الردهة بعد استراحة قصيرة في الدار عند مطلع الصباح، اجد موزان، وكعهدي به في المرات السابقة، جالسا متكئا على استراحة السرير المرتفعة وعلى لوح الطعام امامه قنينة عطر شرقي صغيرة، وقنينة زيت للشعر، ومرآة صغيرة.. يسرّح شعره الاسود المزيت، فارقا اياه على جانبي رأسه، متأملا وجهه الاسمر الممتليء وعينيه المكحلتين وتسريحته، يميل برأسه قليلا شمالا ويمينا،.. تلوح بسمة اعجاب فوق شفتيه، وزهوٌ فوق ملامح وجهه..&
.. يأخذ بدندنة اغنية ريفية بصوت خافت، غامزا بعينه لمساعدة الممرضة الجديدة المتدربة..&
-اللهْ!! الله ْ.. فدوةْ أروحْ لهلْ الوجه الورِدْ.. بعدْ رويحتي ما تجيبيلي بإيديج الحلوه شوّية ميّه.&
.. يُخرج من كيس يضعه تحت وسادته عقودا حجرية ملونة واسورة فضية ظريفة وقنينتي عطر شرقي صغيرتين.. يبدأ بمغازلة الممرضات ومساعداتهن المتدربات ثم يمنحهن هذه الهدية او تلك.. ينظر يمينا وشمالا قبل أن يقرص واحدة من خدها او من حاشية خصرها.&
-صباح الخير موزان.. اللْيشوفَكْ اليوم مايصدْكَـ ذاكْ الليْ شفناه البْارحهْ..&
.. احييه وابدء بقياس ضغطه وتسمّع قلبه ورئتيه وارى شدة الوذمة عند كاحليه.&
- كَـِـلي موزان ما تِـزَوَجِـتْ بهلْ جم شهرْ الفاتَنْ
-موعيبْ دَخَتورْ، انا ابوك يا ريسان!! ليشْ آنَـه موْ رِجّالْ!!
-ومِنوُ هايْ المحظوظةْ الجديدة؟
-صْبيّـه والله وتضوي ضوي يادختور.. حْليوّهْ وبِنـْتْ العشرين.&
-وهاي شكد رقمه؟
- رقم سبعة ,, وعيني علَ الثامنه.&
- شلون يصير والشرع يكول اربعة.&
-تروح القديمة وتجي الرابعة الجديدة.. القديمات إلهنْ بيتهنْ ومصروفهنْ وكل ما يلزمهنْ.&
- ومينْ تْدْبّـرْ فلوس العُروس الجديدة؟
-ابيعْ جِريبْ لو جِـريبين من بساتيني وادفع المهر والشْبكةْ.. بربكْ دَخَتـورْ بستانْ بنخلات يابسهْ لو عُـروسْ ريانة تنْطيكْ عمرْ جديدْ؟!
-لا والله عٌروس ريانة يا موزان.&
قبل أن يغادر موزان الردهة وقد اجتاز بسلام ازمته الصحية، دعاني لزيارة بساتينه وزوجاته في البوارين.. وعدته بتلبية الدعوة الكريمة قريبا. &

كنت قد اكملت جولتي الصباحية حول اسرة المرضى.. كتبت تشخيصي للمرضى الجدد في الطبلات المعلقة على مقدمة الاسرة وتفاصيل تطور حالات المرضى خلال الليلة الفائتة والادوية والتعليمات للممرضات وللممرض الاقدم ونوع الحمية الغذائية للبعض.. اكملت جولتي الثانية مع استاذي، اخصائي الردهة الدكتور مصطفى النعمة، ليوافق او ليصحح ما كتبت بعد فحصه لهذا المريض او ذاك...&
. غادر الدكتور النعمة الردهة.. بدأت اراقب الادوية الموزعة او تلك التي ستوزع لاحقا بمواعيدها خلال اليوم..&
.. اخبرتني الممرضة زهور بأن الدكتور مصطفى الخضار قد اتصل تليفونيا اثناء جولة المرضى وطلب حضوري الى غرفة الادارة.&
.. حييتُ الدكتور الخضار تحية الصباح..&
-دكتور فلاح، لقد اتصل مدير السجن ليخبرني بضرورة حضور طبيب السجن المكلف بعد منتصف هذه الليلة لمتابعة عملية الاعدام هناك.. وحسب علمي انك انت طبيب السجن المكلف لهذا الشهر.&
-معذرة ابا رافد.. لن احضر عملية الاعدام.&
-هذه قوانين الدولة، إنها ليست قوانيني ولا قوانين الصحة، حتى ولا قوانين ادارة السجن.. يجب حضور طبيب مراسيم الاعدام.. أنا مثلك اكره هذا الامر، ولكن علينا اتباع قوانين الدولة.. اضف الى ذلك إنه مجرم عات قام بجريمة قتل بشعة لاسرة بكاملها.&
-معذرة والف معذرة ابا رافد.. لن احضر عملية اعدام.&
-ستعرض نفسك الى عقوبة ادارية!!
-عقوبتي الاشد هو زعلك مني لا العقوبة الادارية.&
-فكّـرْ مليا قبل أن تقدم على موقف غير سليم!.. لديك متسع من الوقت.&
غادرت الغرفة مهموما، لإزعاجي استاذي، هذا الانسان الكبير الطيب القلب.&
.. ما أن خرجت من رواق الادارة الى ضوء ساحة المستشفى المشرق، وهواءها الصباحي المنعش، حتى ومضت خاطرة كالبرق كشفت ظلامات همومي..&
.. عدت مسرعا شبه راكض الى غرفة المدير..&
.. نقرت على الباب مستأذنا.. دخلت وعلامات الفرح الطاغي على وجهي والتي احسها الدكتور الخضار فابتسم..&
-يبدو انك راجعت فكرك سريعا.. ونِعـمَ مافعلت.&
-ما هو تاريخ اليوم استاذي ابا رافد؟!
-الثلاثون من حزيران، اجاب بدهشة.&
-الذهاب الى السجن وحضور عملية الشنق هو بعد منتصف الليل اليس كذلك؟!.. اي أن تأريخ ذلك سيكون هو الاول من تموز لا الثلاثين من حزيران..&
.. لن أكون أنا في تموز طبيب السجن المكلف.&
حضر عملية الاعدام، طبيب السجن المكلف بعدي في الجدول، زميلي وصديقي الدكتور نافع جنو.


*****************************


حبٌ للبصرة (3): مدينة تستعيد صور ماضيها من على النطع

3

ألا هل تُـرجعُ الاحلام
ما كُـحلـت به المُـقَـلُ
.. ثم يبكي ويجفف دمع عينيه بمنديله.

صباح مشرق جميل.. وهل تغرب شموس البصرة!!.. الريح شمالية.&
أمام بوابة المستشفى، وعلى جانب حائط السجن المركزي المقابل، تصطف العديد من عربات الخيل وسيارات الاجرة للعبرية (الانفار) و بائعات الخبز والفاكهة وبعض الخضار.&
.. افضل السير.. عبر (البصرة القديمة) متوجها الى العشار.&
حين اصل ساحة باب الزبير، انعطف شمالا لادخل احد الازقة الضيقة المؤدية الى (محلة الباشا)..&
.. تظلل رأسي شناشيل البيوتات العريقة بمشربياتها وشبابيكها المزخرفة.. تتقارب من الجهتين فتكاد تصبح سقفا متعرجا للزقاق الضيق.. تهب نسمة صباحية عليلة.&
اجيل البصر عند نهاية الزقاق فتطل عليّ الشناشيل بخشبها الهندي العاتم وشبابيكها ومشربياتها وزجاجها الملون المتلامع مع اشعة الشمس.. على ضفتي نهر العشار جسور خشبية عديدة.&
.. اعبر الجسر امامي.. اقف مبهورا عند منتصفه وانا ارى النهر المتعرج بين هذه البيوتات العتيقة التي تحكي خلف شناشيلها ومشربياتها قصص الف ليلة وليلة ومرتع السندباد وهو يعد نفسه لابحار جديد.&
.. اتابع هذا التلامع الفيروزي، العقيقي، المرجاني على زجاج شبابيكها والنور الباهر فوقها، والظلال العاتمة بين مشربياتها وفي الازقة المنحدرة صوب النهر من الجانبين..&
انا على رصيف الضفة الشمالية للنهر اتهادى متوجها الى بيت الفنان محمد راضي.&
خلال الاشهر التي مضت على تواجدي في البصرة، انعقدت صداقات وصلات، بعضها متين ومشوّق مع اناس من طبقات واذواق متباينة، وذلك عبر جولاتي في مرافق البصرة ومعالمها وعبر خفارات العيادة الخارجية والعمل الصباحي والليلي في ردهات المستشفى المختلفة.. (موزان) العتيد بزوجاته المتعددة، (فرج) فلاح بستان الكويتي الاعمى (بستان فهد الفليج لو لم تخني الذاكرة)، (فؤاد) عازف العود في ملهى الفارابي، (احمد) زوج بنت الحجي، راقصة ملهى الوطني، أمل ذو النون ايوب صديق الصبى الحبيب والاستاذ المساعد في جامعة البصرة وآخرون كثيرون
.. يفتح محمد راضي لي باب بيته الشناشيلي الكبير.. ادخل الى (حوش) الدار المبلطة بالطابوق الفرشي العريض، تحيط بها من الجوانب الاربعة غرف وصالات جلوس.. شرفة مربعة في الطابق الثاني تقوم على أعمدة من الخشب الهندي العاتم بتيجان مزخرفة، وراءها غرف عديدة بشبابيك يعلوها زجاج ملون تطل على الساحة الوسيعة.. يبان القدم والتهالك على بعض اجزاء الدار.&
.. يسكن محمد راضي وعائلته، واخوه وعائلته، هذا البيت الوسيع.. يشكو محمد من الجرذان المتسللة من النهر الملاصق.. يعقّـب " لو كانت جيوش هولاكو من الجرذان تغزو هذا البيت فلن انسحب وابدل مواقعي الى غيره ".&
خلال تناولنا الشاي يعرض عليّ بعض اعماله المائية التي تحكي، وبمحبة ملونة، الازقة المتعرجة والبيوتات العريقة بشناشيلها العائمة فوق بقع النور والعتمة..&
اعرف عنه مسبقا، انه أحد اقرب الاصدقاء للشاعر الرائع البريكان، الساكن غير بعيد عنه، لكني اعرف في الوقت ذاته أن البريكان مختبيء في صومعة عزلته الشعرية..&
.. اقاوم رغبتي الشديدة وامتنع عن أختراق جدران اعتكافه.&
.. يخرج محمد معي في بعض جولتي..&
-على اليسار وكما ترى حشد السعاة والعرضحلجية (كتاب العرائض) والمعقبين، وأناس كثر آخرون معهم وبينهم.. إنها بناية محكمة البصرة.&
التفتْ.. لا تختلف المحكمة في بنايتها عن بيوتات الف ليلة السندبادية المحيطة.&
.. نتحرك قليلا الى اليمين، تطل علينا داران ضخمان لا تزال معالم العز القديمة عالقة باجزائهما..&
-هذا بيت المنديل القديم!.. وهذا الذي الى جواره –وهو خال من ساكنيه- هو بيت الوالي العثماني، وفي النية احالته الى متحف للبصرة القديمة.. يواصل محمد راضي تعريفي ببعض المعالم..&
.. يعود معي الى ساحة باب الزبير.. نعبرها متوجهين الى السوق الذي المحه عن بعد.&
-دعني اريك صرحا جميلا.. هذا الذي على يميننا هو قصر عبد القادر باش اعيان وبه اكبر مكتبة تراثية في البصرة، بل ولعلها الاكبر في العراق..&
قبل ان يغادرني كان لنا موعد آخر لنلتقي وسيكون بصحبتنا الفنانون التشكيليون فاروق حسن وسلمان البصري ومنقذ الشريدة (لو كان في حالة صحو).&
واصلت سيري لاتجول في سوق البصرة القديمة بسلسلة دكاكين عطاريها باعشابهم ومساحيق حبوبهم الطبية.. لا يزال العديد من البصريين يقصدونها بدلا من عيادات الاطباء، يليها سوق التوابل فباعة الخضر والسماكة..&
.. دكاكين عدة ونسوة يفترشن الارض بسلالهن.. هنا تجد انواعا لا تجدها في اماكن اخرى كالخرّيط والبمبر والجوافة والسمك المجفف والسمك المجفور (ذو الرائحة العطنة) وافاعي البحر والروبيان الضخم وبالطبع سمك الصبور الذي يعشقه البصريون والذي ارتعب من اشواكه اثناء تناوله (الإلزامي) وانا في ضيافة بيت من بيوتاتها)، ثم. ياتي سوق الخراف والماعز والدجاج والبط والبش والخضيري ودجاج الماء.&
انعطف عند نهاية السوق الى ازقة ضيقة.. أجد عند بعض عتبات دورها نسوة مبهرجات بمكياج صارخ بثياب قصيرة.. ينظرن ويبتسمن داعين اياك للدخول، دون ان يحركن شفاهن.. هنالك دور اخرى مجاورة او قريبة، بنساء ورجال ذوي مظهر محتشم.. العهر والطهر جنبا الى جنب.. كل يسعى على رزقه دون ايذاء.&
اخرج الى شارع بشار وعلى جانبيه خليط من دور عتيقة شبه خربة واخرى حديثة البناء.. انعطف يسارا لاعود الى رصيف شط العشار المظلل باشجار اليوكاليبتوس.. اواصل سيري صوب مركز المدينة.&
.. اتوقف عند تمثال الخليل بن أحمد البرونزي العاتم عند مدخل شارع الفراهيدي (او ما يسميه العامة شارع السعدي لوجود مستشفى الجراح محمد حسين السعدي عند مدخله)..&
.. الخليل بن أحمد في لحظة تأمل عميق.. لقد بث النحات نداء كاظم الروح في المعدن الصلب.. بعد بضع سنين سيبدع نداء مرة اخرى في تمثال السياب منتصبا فوق ضفاف شط العرب.&
الاشجار على رصيفي الشارع النظيف بممريه الممتد حتى نهر الخورة بجزرة وسطية مزروعة باشجار الدفلى بورودها البيضاء والبنفسجية.. حركة سير المركبات قليلة.. البيوتات الحديثة تزدان بحدائق امامية.&
.. اواصل سيري.. دائرة الاطفائية بسياراتها المتلامعة الحمراء بسلالمها وخراطيم مياهها على الجانبين.. الناقوس البرونزي في المقدمة.&
.. سينما الحمراء الجديدة الشتوية الآن على يميني.. لوح الدعاية الكبير فوق مدخلها يحمل صورة فلم نداء البراري Cry Of The Wild..&
بعد أن تجاوزت جسورا انيقة عديدة فوق شط العشار، اصل الى جسر سوق المغايز (او سوق الهنود).. على يمينه عمارة حنا الشيخ الحديثة بممري سوقها من دكاكين المصوغات الذهبية والفضية والعطور والاقمشة وباعة الاحذية.. هنالك دكان فخم لصباغي الاحذية.. اجتاز الجسر صوب سوق الهنود لاجد (عبد عون)، مزمن ردهة يعقوب بني وشحاذ الجسر المقيم.. أضع حفنة من العملة المعدنية في صحنه القصديري.. يرفع راسه ويتعرف عليّ
-شكراً دكتور.. يحفظك الله.&
ما أن اجتاز بضع خطوات من سوق الهنود المكتض بالمتسوقين والعابرين، حتى اسمع ألحان ناي واهازيج للاطفال.. اراهم يتراقصون ويصفقون وراء (تومان) الاسمر النحيف الضاحك الوجه ابدا.. أحدهم يحمل اعلانا لسينما الوطني.. كاوبوي يمتطي حصانه ومسدسان يتهدلان على جنبيه.. (من أجل حفنة من الدولارات)..&
.. تومان يضع الناي على احدى فتحتي منخريه عازفا الحانا شائعة وهو يتقافز بمرح ويدور من حين لآخر أمام جوقة الاطفال..&
.. اقف جانبا لأتأمل التظاهرة المرحة وهي تمر من امامي متجهة صوب سوق حنا الشيخ.&
.. اعبر محلات العِـدد و(الخردوات)، وباعة الملابس الجاهزة والقرطاسية ودكاكين الاحذية.. عند نهاية السوق ارى بهرجة الوان التوابل وهي تتدرج في مساحتها الخشبية المحيطة.. اقف مجيلا البصر بهذا المهرجان اللوني مالئا صدري بعبق عطوره.&
.. اجتاز تقاطع السوق بالسوق الآخر منتقلا الى شارع الصيادلة (او سوق الصاغة).. أتأمل البقرة الضخمة المعلقة فوق مدخل صيدلية المختار، وهي تهز رأسها وذيلها وامامها علبة حليب نيدو.. محلات المصوغات على اليمين واليسار وبينها عيادات اطباء... انعطف يمينا الى سوق الخضارة والسماكة.&
.. عند المدخل يقف رجل أمام حصيرة كبيرة تكدّست فوقها مئات من اسماك الصبور وهو ينادى..&
-كل هل الكوم بدينار واحد.. كل هل السمج بدينار..&
(اعود من جولتي بعد ساعات فاجده يحشرج بصوته) :
-كل هل الكوم بربع دينار.. كل هل السمج بربع دينار
.. إنه موسم الصبور في شط العرب (تباع سمكة الصبور الواحدة في الثمانينات بثلاثة دنانير.. فيما لو تواجدت اصلا).&
.. اعبر سوق المقام.. الى المقام ذاته، وهو جامع كبير متقادم ببوابات عباسية ضخمة مرصعة بمقاطع كروية نحاسية زخرفها الصدأ المتقادم.&
.. مقهيان خشبيان كبيران يقومان فوق نهر العشار بدعائم خشبية ضخمة.. عشرات الشبابيك الطولية بتيجان زجاج ملون.. أنهما سفينتان اسطوريتان تستعدان للابحار عبر المدخل القريب لشط العشار على شط العرب.&
.. أدخل الى المقهى الاقرب الى جسر المقام وشط العرب.. اليوم هو الجمعة والمقهى مزدحم بخليط من غتر وعباءات وصايات ودشاديش وعمم وسدارات فيصلية.&
.. ياتيني استكان (اللومي حامض).. ارتشفه وانا اجول ببصري بسعادة غامرة بين الجالسين على التخوت والكراسي.. هذان (افنديان) في حوار حار.. أثنان يلعبان النرد.. شابان يلعبان الشطرنج ويقف الى جانبيهما آخران يتابعان (المباراة).. كهل بعقال ضخم مقصّب يدخن النارجيلة وهو منشغل الذهن.&
.. اجتاز أسد بابل عند مدخل شارع الوطن.. انعطف يسارا.. امتار معدودة وانا الآن على رصيف شارع الكورنيش المشجر بالكالبتوسات الضخمة..&
.. مراكب هندية عديدة ترسو على الضفة الغربية التي اسير على كورنيشها.. اتملاها وانا اعبرها ببطء كبير.. بحار يعبر (الدقل) الخلفي للمركب الى قفص مربع مسيج.. يبان جزءه العلوي من فوق السياج.. يختفي نزولا.. يسقط من اسفل القفص حبل بدلو صغير الى مياه الشط.. يُسحب الحبل والدلو.. تتساقط دفعات من الماء من اسفل المقصورة الصغيرة.. أضحك.. صاحبنا يقضي حاجته تحت قبة السماء الصافية وفوق موجات الشط الخفيفة.. "لابد أنك سعيد الآن يا صاحبي الهندي".. استعيد بنشوة اللحن "يا مركب الهندي يابو دقلين.. يا ليتني كنت ربانك.. ".&
صف من المقاهي الصيفية المكشوفة على جانب الرصيف تشرف فوق مياه النهر العظيم.. المقاهي كلها مزدحمة بالرواد.. جانب منها مخصص للعوائل..&
.. على الرصيف مئات السابلة يتهادون بمشيتهم.. عوائل مع اطفالها.. ازواج من الشابات السافرات.. نساء بعباءات مهدلة من على الكتفين.. شاب وشابة يسيران شبه ملتصقين، هو يهمس شيئا في اذنها وهي تحمر خجلا.. زوج آخر غير بعيد عنهما يسيران على مهل، هو يتحدث دون أن يرفع بصره اليها وهي مطرقة برأسها تصغي بإمعان.. " يا للجمال!!.. عشاق جامعيون!! ".. اتجاوزهما..&
.. هنالك باخرة كبيرة وسط النهر، تلتصق على أحد جانبيها ابلام ومهيّلات وجنائب ودوّبْ.. البحارة منهمكون بتفريغ حمولاتهم من الاعالي، ونوتية القوارب يتلقونها من تحت.. قارب يحمل فاكهة وقناني مشروبات مبردة وسندويجات وعلب تمر ومأكولات اخرى.. يساوم البحارة.. يستلم نقوده اولا، ثم يناول المشتريات بسلة تتدلى اليه.&
.. اصل الى نهاية شارع الكورنيش.. قلة من المارة فقط.. " ليلة الامس.. ليلة الجمعة.. حشد من المتنزهين بمختلف الاعمار.. باعة المشروبات الباردة والدوندرمة والحَب والمكسرات يتجولون بين المتنزهين بعرباتهم.. المقاهي مزينة بالمصابيح الملونة.. النهر يصخب بعشرات الابلام (العشارية) الانيقة وراكبيها من الرجال والنساء وهم يسترخون على الوسائد والافرشة المعدة في الجوانب والخلف من هذه القوارب.. منهم من يسرح ويتأمل اضواء المدينة من الضفة الغربية الى ظلال نخيل الضفة الاخرى المتكاثف.. منهم من يغني موالا.. آخرون ينسجمون في غناء جماعي وسيدة تهز اعطافها وسط القارب.. وهل نسيت (الكسلة)؟! قبل اشهر.. عيد نوروز!، امسيته وليله.. مهرجان حتى ولا مهرجان رأس السنة في البندقية "
.. اعبر جسر البراضعية.. اصعد كورنيش النهر.. على يميني قصر بيت المنديل الجديد الفخم، الى جواره قصر الذكير.. بضعة قصور أخرى.. بعض ساكنيها يجلسون في الشرفات.. المتنزهون وهم من جديد من طبقات متباينة في العلو او الدنو تتنزه باسترخاء، معظمهم يقصد نهر السراجي القريب وقصرأغا جعفر (وكيل الشيخ خزعل أمير الاهواز سابقا) ذلك الصرح الفني الضخم بساحاته الواسعة المنحدرة الى النهر وشرفاته ونقوش اخشابه القديمة وحدائقه الغناء..&
(عند بداية الثمانينات قُطع الكورنيش ونهر السراجي وقصر أغا جعفر على المتنزهين ليصبح منطقة للقصور الرئاسية المخصصة للقائد (التاريخي والجغرافي المنتصر ابدا رغم هزائمه).&
اصل الى نهر السراجي وبدلا من أن انعطف يسارا الى قصرآغا جعفر، أنعطف يمينا فأدخل في عمق بساتين السراجي.. بعد بضعة مئات من الامتار اقف بحيرة امام بيت صغير من طابق واحد مبنيّ بالطابوق العادي (لا العقاري) من غرفتين ومطبخ.. بشباكين تمتد فوقهما قضبان حديدية سوداء يطلان على نهر السراجي.&
.. هذا البيت الذي تأنف عائلة متوسطة الدخل سكناه هو (قصر استراحة العائلة المالكة)، يأويها حين تأتي في زياراتها للبصرة.&
.. احسست بالجوع وقد قرب المساء.. معي ما يكفي مما تبقى من راتب الشهر، فنحن في اوله، لكي اتناول وجبتي في فندق البصرة (فندق المطار) في المعقل، والذي آتي اليه بين الحين والآخر.&

بعد تناول وجبتي في مطعم فندق المطار الفخم، جلست في الصالة الواسعة (اللوبي) لاتناول فنجان قهوتي.. مقاعد مريحة انيقة وطاولات فوقها مزهريات بباقات ورد صغيرة.. عدد كبير من علية القوم في انتظار طائرتهم.. آخرون يسترخون مثلي وراء فنجان قهوة اوقدح بيرة مبردة.&
.. المطعم مدخله من اللوبي، قاعة البار وصالة الحفلات والرقص مدخلها من الجانب الاخر لّلوبي.&
قدمت في احدى الليالي بدعوة من الصديق علي ناصر وزوجته (وهو نحات وصاحب محل للموبيليات) الى صالة البار والمرقص والتي لايسمح للعازبين دخولها دون رفقة عائلية.&
لقد كانت ليلة من ليالي العمر السارة..&
.. قاعة المرقص بمقصورات جانبية لجلوس العوائل.. انارة القاعة خافتة يضفي عزف البيانو عليها شاعرية مضاعفة.. بار كبير جميل في صدر القاعة جلس فوق مقاعده العالية ازواج من البصريين والاجانب.&
.. في التاسعة حضرت الفرقة الموسيقية، وبدأت في عزف الحانها الراقصة الهادئة.. الفوكستروت، فالس بوسطن، التانجو.. بعد نصف ساعة قام زوج من الراقصين، سرعان ما التحق بهم ازواج آخرون..&
.. رقص علي وزوجته.. شجعني لاطلب يد آنسة من الجالسات للرقص.. نهضت وتقدمت الى احدى الجالسات مع عائلة طبيب اخصائي في مستشفانا.. لم تعتذر.. نهضت واخذنا نرقص على الانغام الهادئة.. حادثتها اثناء الحركات الهادئة عن مواضيع خفيفة عامة.. رافقتها ونحن نعود الى مقصورة عائلتها وانحنيت شاكرا.. كنت وكأني في قاعة رقص راقية في لندن او براغ!&
".. لا تعجب يا هذا أنت في جمهورية البصرة المتحضرة "&
.. الوقت قد قارب الغروب.. اغادر لاعبر ساحة الفندق الى جسر خشبي جميل على تفرع غير كبير لشط العرب.. اقف متكئا عل سياجه ارقب شباك قوارب الصيادين المرفوعة، المتلامعة باصداف مئات اسماك الصبور العالقة بها.. كثير منها يعكس الوان قوس قزح من حزم الشمس الغاربة الساقطة فوقها.. بضع عشرات من سمك الزبيدي والشانك النهري تعلق بالشباك.&
.. اتجول في حدائق جزيرة السندباد المزدانة بالاشجار النادرة وساحات الورود الدائرية.. أناس كثيرون يتنزهون ومن مختلف الطبقات بمختلف الازياء.. عوائل يفترشون عشب الحدائق وامامهم زادهم البسيط.. اطفال يسرحون متراكضين هنا وهناك او معلقين على اراجيح ومنزلقات ودوارات ساحة العاب الاطفال.&
.. ازواج من شباب وشابات يتهامسون وهم في جلسة منعزلة في هذا الركن او ذاك من ضفاف الجزيرة.. من حافة الجزيرة ارقب الضفة الشرقية للنهر الوسيع بغابات النخيل والبيوتات الطينية الصغيرة بينها وبعض بيوت حديثة البناء.. اظل سارحا بمنظر الغروب يداعب برقة معالمها البعيدة.. أتذكر فجأة انني على موعد هام.&
.. الجمعة هذه هي يومي في القيادة.. أنا اليوم قائد لمجموعتنا من الاطباء المقيمين.&
.. كل اسبوع وفي عطلة الجمعة هنالك قائد يتحكم دون معارضة او نقاش بافراد المجموعة التي يرأسها، يقودها حيثما شاء، حتى الى دروب الجحيم.&
.. نعمان كان هو القائد الديكتاتور في الاسبوع الماضي.. لم يسمح لي باية كلمة اعتراض، حين اقترحـت ان نـدخل سينما الحمـراء لـنشاهد فلـم (نداء الطبيعة) Cry Of The Wild&
-لكنها قصة عن حياة كلب للكاتب العظيم جاك لندن يا نعمان..&
-لاكلب ولا بزونة.. سنشاهد فلما للكاوبوي ونخرج من السينما وقد ملئنا اكياسا من الرصاص.. (رنغو لا يتفاهم) هو فلم سينما الرشيد الذي سنراه.&
.. بعدها قادنا الى نادي الرازي الفخم لتناول العشاء.. لا عرق يقدم هناك!.&
اسبوع (عاطف) كان في نادي الجامعة ثم في مطعم علي بابا الراقي في شارع الوطن.&
خرجتُ بالمجموعة من دار المقيمين.. الانفار تحت قيادتي هم، نعمان المتأنق المتعطر،عاطف الارستقراطي الرقيق، عبد المطلب المواضب على مواعيد صلاته رغم أنّـا قد قدناه الى دروب البوكر بكل انواعه، المستور والمكشوف والهاري كاري (ظل لا يقرب الخمرة لسنين طويلة من معرفتي به.. فهي لديه (المنكر! الحقيقي).. البوكر ليس منكر جدأ.&
اوقفت عربة حنطور تعمدت ان تكون متداعية وطلبت من الحوذي ان يتوجه بنا الى ساحة أم البروم، اكثر ساحة شعبية في البصرة.. انظار السابلة ترنو الى الافندية المتأنقين.. البعض يعرفنا حق المعرفة من خلال عملنا في خفارات العيادة الخارجية وواجباتنا في الردهات.. اوقفت العربة.&
.. نحن على الرصيف أمام خمارة صغيرة في أم البروم، جدرانها الخارجية من الكارتون المقوى، تفتقر الى اي نافذة و بباب من (الجينكو) المصدأ.&
.. لم يصدقوا اعينهم حين فتحت باب الخمارة الحقيرة داعيا اياهم للدخول.. جمد نعمان في مكانه من الرصيف.. تراجع عاطف الى الوراء قليلا.. احنى عبد المطلب رأسه وابتسم..&
-اسمعوا لقد اقسمنا جميعا، ووعدنا بعضنا الآخر بكلمة الشرف أن لا نعصى أمر القائد الاسبوعي ، ".. حتى لو قادنا الى الجحيم "، اليس هذا ما اتفقنا عليه ومارسناه في الاسابيع الفائتة.. تنزهتم بنا نزهة الاكابر.. اليوم سنتنزه نزهة البسطاء من الناس.&
-أنا ادخل وامري الى الله.. قالها عبد المطلب وتقدم.&
.. تململ نعمان قليلا ثم تقدم هو الآخر.. لم يجد عاطف مناصا من الانصياع فدخل وقد زاد وجهه الابيض المحمر احمرارا..&
.. اتسعت اعين الصاحين وانصاف السكارى من الجالسين وهم يرون الافندية المتأنقين النظاف تقتحم عليهم خصوصيتهم..&
عشرة موائد خشبية متأرجحة يجلس وراءها عمال ببدلات زرقاء ورجال بناطلهم وقمصانهم مغطاة بسخام وشحوم السيارات، ريفيون بملابس عتيقة وغتر حائلة.&
.. أختار طاولة شاغرة.. الكراسي الاربعة الحديدية قديمة تقشرصباغها.. على الطاولة المشققة اربعة صحون قصديرية ثبتت بمسامير من وسطها الى خشب الطاولة.&
-مسّـاكم الله بالخير.. الله بالخير.. الله بالخير.. تتقاطر تمسّيات الله بالخير من كل فرد بالخمارة.. يرفع البعض كؤوسهم صوبناأثناء القاء التحية.&
.. ياتي صاحب الخمارة مسرعا ليمسح الطاولة والصحون بمنشفة صغيرة يضعها فوق كتفه.&
-اهلا ومرحبا.. شِـ ياُمرون الباشاوات..&
أنظر الى مجموعتي متسائلا..&
-واحد فريدة.. قال عاطف
-وانا كذلك.. عقّـب نعمان
-وأنا كذلك.. قلتها تضامنا..&
.. يصمت عبد المطلب فيسأله الخمار
-الباشا شيشرب؟
-واحد كولا!.. يحاول صاحب الخمارة أن يقول شيئا فابادره راجيا أن يجلبها من اي محل مجاور.&
.. يأتي صانع الخمارة بدلو صفيحي كبير مملوء بالسلاطة.. يغرف بكفه حفنة كبيرة ويضعها في كل صحن امامنا.&
يعود الضجيج والصخب الى الشاربين.. أحدهم يرفع صوته بعتابة لحضيري ابو عزيز.. آخر وفي الوقت نفسه يرددموالاً للـ(المنكوب) مغني الهور الشهير..&
سرعان ما خرج عاطف من صمته وهو يراقب هذا العالم الغريب عليه.. نعمان بدأ بسرد نكاته فضحك الجميع.. عبد المطلب الصموت تابع المشهد والأحاديث بكل جوارحه.. نرفع كؤوسنا بين الحين والاخر لنرد بها على كؤوس صحبنا السكارى المرفوعة.. نبادر نحن فنرفع اقداحنا تحية لهم.&
.. نخرج ضاحكين، عاطف اصبح وجهه قطعة من الشوندر المطبوخ..&
اعبر بهم الساحة التي ازدانت بالمصابيح الملونة وبهرة اللوكسات المعلقة على مناقل الكبدة المشوية (الفشافيش) وعربات قدورشوربة العدس والباقلاء المنقوعة والسمبوسة واللبلبي..&
.. سينما الحمراء الصيفي (القديمة) تقدم فلمان في عرض واحد.. احاول ان اشتري من شباك الاربعين فلسا.. ينظر اليّ عاطف معاتبا ومتوسلا.. اتحول الى شباك السبعين فلسا.. كنا قد لحقنا على النصف الاخير من الفلم الثاني (المهراجا الظالم).. بين الحين والآخر ترتفع الشتائم وصيحات الاستنكار و عفاط(زيكَـأت) المشاهدين وخصوصا من مقاعد الاربعين على مظالم المهراجا العجوز الاشوه الذي يختطف حبيبة (البطل) مهاندرا، الشاب الوسيم الذي يغني بين الحين والآخر شوقا الى حبيبته جاندرا..&
.. نشترك وبحمية في الصراخ والشتائم.. لانعرف للاسف كيف نطلق (زيكَـاتنا).. نعمان يجيد صفير الاستهجان احسن منا جميعا..&
نقف مع الواقفين ونصفق بحماس ونصرخ مشجعين (البطل) مهاندرا حين يفلت من قلعة سجن المهراجا الحصينة ويفتح الابواب للسجناء المظلومين ويتقدمهم ليلحق فيخلص والده من تحت اقدام فيلة المهراجا ويقتحم مخدع المهراجا الذي يحاول ان يغتصب حبيبته جاندرا، وبعد سجال بالسيوف يدفع به المهراجا حتى اعلى القلعة ويطعنه فيسقط من شاهق الى الساحة الحجرية المحتشدة بانصار البطل مهاندرا.&
.. نقفز مع عشرات المشاهدين الصاخبين القافزين فرحا.&
.. تبدء الحشود الهندية بالرقص بملابسها الفضفاضة البراقة وتنثر مساحيق باهرة الالوان في الفضاء فيغطي ساحة السينما كلها بين غناء مهاندرا وجاندرا المتعانقين..&
.. يخرج الجميع وهم سعداء فرحون يتناقلون فيما بينهم مآثر بطولات مهاندرا..&
انا وافراد مجموعتي فرحون ايضا..&
اقودهم فاعبر الساحة الى زقاق سوق المطاعم.. اختار مكانا في دكان الكوارع (الباجة).. أطلب رأس خروف كاملا.. يهشمه صاحب المحل.. اغرف باصابعي اجزاءه واضعها في صحن ثريد كل منهم.. ابدء بعاطف(الاحمر).. يعود قليلا الى الخلف حين اضع عين اقتلعتها من محجرها.. يصبح وجهه شوندريا.. الجوع غلاب.. يشارك في الاكل بحمية.&
انهي جولتي القيادية بأن اجلسهم على صفائح الجايجي في الساحة.. قرب بائع الفشافيش.. نشرب بضعة اقداح من الشاي.&
أرأف بهم فنعود بسيارة اجرة بدلا من الحنطور.&

وصلتني رسالة من صديق مقيم في الكويت ومعها حوالة بريدية بمبلغ كبير، يرجوني فيها أن اشتري له بستانا في البصرة للنزهة قبل التجارة يخبرني فيها ايضا ان البستان سيكون في عهدتي ومتعتي، حتى عودته الى العراق.&
لم اُضع وقتا، فقد طلب مني شيئا طالما تقت اليه،التجول في بساتين البصرة ولهدف رومانسي جميل.&
راجعت بضعة دلالين للعقار والبساتين، فلم أجد لديهم بغيتي.. قررت أن اتوكل على الله وابدأ المهمة بنفسي.&
بدأت بـ(السيد) وبستانه على نهر الخورة القريب.. كنت قد اسعفته وزوجته في المستشفى قبل حين.&
.. البستان يقع في منعطف من البراضعية، عند مدخل الطريق المتعرج الى ابي الخصيب.&
قطعت المسافة على قدميّ، عابرا نهر الخورة فوق جسر البراضعية عند نهاية كورنيش شط العرب.&
انعطفت يمينا في مدخل لبساتين نخيل غير معتنى بها.. اصل بعد خطوات الى صرح قد بني بآجرطيني، تعلوه قبة ضريح تهفّ فوقها سعفات النخيل المجاور.. سوره الامامي ترك القدم فيه ثغرات كبيرة.. أدخل عبر باب من خشب اسود متداع الى ساحة رملية ترابية واسعة.. اجتازها الى مدخل غرفة كبيرة نصف مظلمة يتوسطها ضريح يغطيه قماش حريري أخضر.. بقايا شموع على حواشي الضريح.. لطخات اكف من الحناء مختلفة التقادم.&
.. إنه مقام خليفة بن علي.&
(رغم بعثات وزارة الاعلام للتقصي، لم تعرف هوية الراقد في هذا الضريح الرومانسي)
.. ادخل بستان السيد واجتاز السواقي العديدة فوق جسيرات جذوع النخيل.. اصل الى ضفة نهر الخورة.. مجاميع من البش والبط تسبح في النهر المظلل بالاشجار.. مجاميع اخرى منها تسرح مع الدجاج والديكة على ارضية البستان.. اسمع صوت السيد :
-يا اهلا وسهلا دختور.&
وانا احتسي الشاي واتناول تمرات من صينية وضعة أمامي، اطرح عليه مشروع شراء بستان..&
.. يضرب بكفيه ويهز رأسه أسفا، فقد بيع البستان المجاور المشرف على شارع الفراهيدي من الضفة الاخرى قبل اسابيع لاغير.&
أغادره.. اوقف سيارة عبرية (كوستر) متجهة الى أبي الخصيب.. أجلس في مقعد شاغر في صدر السيارة.. يبدأ الطريق المظلل بالاشجار يتعرج.. تتبدل صور البساتين بتبدل اشجارها المثمرة.. على حاشيتي الطريق اشجار موردة.. ألوان البساتين وثمارها العالقة واوراد حاشيتي الطريق تجعلني أتوه عن مقصدي في البحث والسؤال.. اتنبه فأسأل السائق الى جواري عن اسماء المناطق والبساتين ومالكيها ممن يعرفهم.. يجيبني عن بعض اسئلتي.. أعبر جسر نهر السراجي الخشبي القديم.. وجسر مهيجران الذي تغطي اجزاء من سقفه قضبان خشبية.. النهر واسع والبساتين على ضفتيه تبهر الناظر باشجار المانغو وزينتها من الثمار الكبيرة الصفراء والبرتقالية والخضراء المصفرة المخترقة لخضرة الاوراق الشمعية السطوح.. اشجار الحمضيات تتلامع باوراقها من بين غابات النخيل.. لم يدّب الاصفرار بعد الى ثمارها المعلقة.. طيور مختلفة تسبح فوق صفحة النهر.&
.. اطلب من السائق التوقف عند مدخل ممر ترابي على يسار الطريق.. اتوقع انه لابد سيفضي الى ضفاف شط العرب.&
.. على الجانبين من الممر اسيجة طينية عالية.. ابواب البساتين مغلقة.. اطرق البعض منها فلا من مجيب.. تلوح لي مياه شط العرب.. هنالك قصر مشرف على النهر.. اصل الى منحدر الضفة.. اطرق باب بستان القصر.. أتنفس الصعداء، هنالك من يجيب على الطرق..&
يفتح بوابة البستان رجل عجوز بملابس فلاحية.. احييه واعرّف نفسي.. ادخل البستان واتوقف بعد مسافة قصيرة.. اسال الرجل العجوز عن معرفته لبستان يباع في منطقة قريبة.. اعرف منه أنه فلاح قديم في المنطقة وحارس في السنين الاخيرة لقصر الكويتي الذي يقدم في فترات من السنة هو، او هو وعائلته للاستجمام.. يسالني عن المبلغ الذي اريد وضعه للشراء.. حين يعرف بمقداره يخبرني أنني لن أجد على المناطق القريبة من النهر العظيم بستانا بهذا المبلغ حتى لو كان صغيرا.. يدعوني لقدح من الشاي.. أعتذر شاكرا واعود الى طريق السيارات.. أستقل كوسترا آخر متجها الى ابي الخصيب..&
.. اعبر نهر عويسيان.... اعبر نهر حمدان الواسع.. جمال الجسور الخشبية والنهر والبساتين على الضفتين لا يقل روعة عما مررت عليه.. اطلب من السائق التوقف.&
.. اجوس في الممرات الترابية المتعرجة يمين الشارع (بعيدا عن شط العرب).. اعبر جداول وانهرا صغيرة، جسورها من جذوع النخيل المربوطة احيانا الى جذوع اشجار اخرى.. أجد بضعة بيوتات طينية وسط بساتين صغيرة جدأ.. أسأل رجلا في الاربعينات، صاحب عربة حمل خشبية بحصان سمين، يقف عند بوابة احد البيوتات.. يجيبني بأنه يعرف انه هنالك بساتين تباع في المنطقة، لكنه لا يعرف من يملكها.. يطلعني بأنه يستأجر قطعة البستان الصغير هذا حيث أقام بيته الطيني ، وانه يجمع ما ييسره الله من نقله الاحمال في البساتين لعله يوفر المبلغ الذي يطلبه صاحب الارض.. يدعوني للدخول لبيته الطيني الصغير على قدح من الشاي او كأس من اللبن.. اشكره واعتذر.. (بعد سنتين يصبح حمدان ذو عربة النقل الخشبية صاحبي.. بيته الطيني الصغير غير بعيد عن بستان صديقي.. ادخل داره في وليمة محدودة يقيمها بمناسبة تحقيق حلمه وشراءه بستانه الصغير.. ادخله مرة اخرى بعدها بعامين آخريين معزيا زوجته بوفاته المفاجئة).&
.. اعود الى طريق السيارات.. أصل الى ابي الخصيب.&
.. بعد أن اتجول في المدينة الهادئة الصغيرة.. معظم بيوتها متوضعة في بساتين صغيرة وكبيرة، أو على جداول وقنوات.. كل بستان فيها لابد أن يكون فيه كوخ صغير للضيوف وجلسات الشاي في المساء و السمر وشرب الراح في الليل.&
.. وانا استرخي على ضفة الركن ما بين شط العرب ونهر ابي الخصيب، وقد بدأت احس ببعض الجوع، تذكرت صديقي الدكتور محمد صالح سميسم رفيقي في سجن بغداد المركزي في مطلع الخمسينات.. هو الآن طبيب قرى وارياف في السيبة غير البعيدة عني.. اتوجه الى مرسى القوارب.. اصعد الى (ماطور) قارب بمحرك.. اطلب منه الاتجاه بي الى السيبة.&
المسلك المائي يستغرق حوالي الساعتين.. استلقي فيها على الفراش المريح في آخر القارب واتابع بجذل غابات النخيل وبساتين شط العرب من الجانبين..&
.. نقترب –حيث ينشطر شط العرب الى شقين- من جزيرة عامرة بالنخيل واشجار فاكهة.. يجيبني النوتي بانها جزيرة أم الخنازير.. على اليسار مدينة المحمرة الايرانية وميناءها الواقع على ملتقى نهر كارون بشط العرب.. على اليمين بساتين عراقية تمتد حتى الفاو..&
.. نمخر الشق الايمن من النهر الكبير.. بعد فترة ليست طويلة يشير النوتي الى بساتين وقرية صغيرة :
-هذه هي المطوّعة.. وهذه بساتين الدكتور طلعت الخضيري.. نتجاوزها لنصل بعد اقل من نصف ساعة الى السيبة.. يرسو قرب مبنى صغير من الطابوق :&
- ها قد وصلنا.. وهذه هي العيادة الطبية.&
ارتقي سلالم من أحجار مكسرة.. باب العيادة مفتوح.. أطل على الشاب الاسمر الطويل الجالس وراء طاولة معدنية خضراء يقرأ في كتاب أمامه.. يرفع رأسه وتلوح على وجهة وشفتيه ابتسامة ترحيب.. يعانقني بحرارة.&
بعد اسئلة وحوار سريعين يسالني :&
-شاي؟، قهوة؟ او بارد؟
-لا هذا ولا ذاك.. أنا جوعان يا صاحبي.&
ينادي صادق، معين العيادة..&
-إعبر لذاك الصوب!.. كباب، شوية خضرة، فاكهة، وبالطبع بطل عرق!..، يتوجه اليّ متابعا.. صادق هذا، معين وبلام العيادة.&
.. نجلس ليلا على مقدمة العيادة.. تحتنا النهر المتلامع بأعمدة رجراجة متقطعة طولية هي انعكاس لأضوية معامل تكرير عبادان وصهاريج نفطها الضخمة.. تستمر جلستنا حتى ساعة متأخرة نستعيد فيها الذكريات ونحلم بمشاريع قادمة.&

بعد ايام من البحث غير المجدي، اتذكر موزان (ربيب الردهة المزواج) ودعوته لي الى بساتينه وبيته في (البوارين)..&
.. اركب العبارة من ضفة الكورنيش.. تنقلني الى التنومة.. استقل سيارة أجرة (تورن) واطلب منه التوجه بي الى البوارين.&
.. نسير بمحاذات (نفق) نهر الصالحية.. الاشجار من على ضفتيه تلتقي لتشكل بأغصانها واوراقها سقفا ظليلا للنهر، نفق مائي مشجّر.. نجتاز قصرا للدكتور الشمخاني على ضفته الشمالية.. بعدها ببضع مئات من الامتار اشاهد بيتا متواضعا على ضفته الجنوبية.. إنه بيت عبد القادر باش اعيان (.. تحكي الرواية : أن العائلة المالكة الهاربة من حركة رشيد عالي في مطلع الاربعينات، لجأت الى حمى هذا البيت واصحابه.. رتب عبد القادر باش اعيان انتقالهم الى المحمرة ليستقلوا طرادا انكليزيا اُرسل لانقاذهم).&
.. ننحرف عن النهر باتجاه الدعيج ذات البساتين العامرة الغناء (اجتث السيد الرئيس حفظه الله، في الثمانينات معظمها، إجتثاثا تاما وسوى اراضيها.. قطّع هامات ما بقي من نخيلها الباسق.. " خلوها ساحات فارغة نِتْكاوَنْ بيها جَيفْ ما نْريد! " ).&
.. على اليسار طريق الشلامجة (البوابة الحدودية).. ننعطف يمينا ونسير فوق سد ترابي.. على يميني شريط ضيق من البساتين المطلة على شط العرب.. على يساري نهير غير عميق تجلس على ضفتيه نسوة يغسلن صحونا وثيابا واطفالا ويتبادلن الحديث والضحكات وصرخات التنادي على اطفالهن.. بضعة ابقار تعبر من هذا الجانب الى ذاك..&
-هذا النهير الصغير بين البوارين والجهة الاخرى هو الخط الحدودي مابيننا وبين ايران.. يعلق السائق.&
.. السائق يعتذر عن مواصلة السير اكثر لضيق السد الترابي.&
.. أسأل إمرأة من الجالسات على الضفة عن بساتين موزان.. تنهض وتشير الى بستان غير بعيد.&
.. يستقبلني موزان بالاحضان.. لا يزال على مرحه ولا يزال شعره الاسود السبل المدهون بالزيوت مفروقا من منتصف راسه لينسدل على منتصف أذنيه.&
.. يدور بي في بستانه الرئيسي حيث بيته الطيني الواسع.. بط ودجاج وبش وديكة وأطفال ونساء ينتشرون.. كلٌ في مهمة خاصة به في ارجاء البستان.&
.. على الغداء الذي يُحضّر على عجل، والحاوي على الدجاج والاسماك وانواع الادام والرز، تدخل بين الحين والاخر إمرأة تضع صحن تمر.. اخرى تضع دورقا لّلبن.. ثالثة لسفط الخبز (رغم وجود خبز كاف).. الرابعة وهي اصغرهن سنا تأتي بصحن من الحلوى..&
".. موزان يستعرض جوقة زوجاته ممن على ذمته ".&
حين اطلعته على نيتي في شراء بستان اهتز جذلا وهو يخبرني بأن البستان جاهز.. " هنا بجواري " وهو احد بساتينه، وانه مستعد لبيعه بالسعر الذي يناسبني.&
شكرته كثيرا واخبرته انني لم أكن اعلم أن البوارين على مثل هذه المسافة عن العشار، واننا قاب قوسين من المحمرة، وأن صاحبي يرغب في أن لاتكون بعيدة عن مركز المدينة في البصرة.. واضفت :
-آسف يا صديقي موزان، فانا أدري أن حكمتك تقول " عروس ريانة تطوّل العمر أحسن من بستان بنخل يابس من خشب ".. آسف انني لن استطيع تسهيل أمر زواج جديد لك.&
.. حين غادرته في اليوم التالي كنت محملاً بعثوق التمر والحصران الملونة.&

بعد يومين قصدت بستان فرج، الاعمى، البصير بالمعنيين، (الاصح بستان وقصر الفليج، الذي يعمل فرج على رعايته).. لم تكن هذه زيارتي الاولى لفرج، فكنت أجيء اليه من حين لآخر لاجلس على منصة للقصر تشرف على شط العرب ومعي سناراتي وخيوطي والثقالات وطعم الاسماك.. أنا مولع بصيد السمك.. دائما يستقبلني بترحاب شديد.. يسارع فيتراكض دون عصى للعميان تساعده، حاملا حصيرة يفرشها، او زيرا من الماء يضعه على المرفع القريب، او صينية الشاي والتمر واللبن. لا اعرف والى يومنا هذا كيف يستطيع التقافز على الجداول الصغيرة والتعرج بين قامات جذوع النخيل للوصول اليّ، خصوصا حين يجتاز ممرا ضيقا يفصل بين جدار البيت والجدول العميق المتفرع من شط العرب.. أنا نفسي،ببصري الحديد، أكثر حرصا وتوجسا في اجتياز هذا الممر الى المنصة التي اجلس عليها للصيد.. ثم الاعجب أنه الوحيد في رعاية البستان والقصر.. كيف يتسلق النخل ويلقحه بغبار الطلع، كيف يغبّره ، كيف يلم عثوقه ، كيف يسعّفه، كيف يكرّبه، وكيف يجني ثماره؟؟!!.&
.. دققت البوابة الخشبية بقبضتي وصحت مناديا :
-فرج!
-نازِلكْ ركض دَختور..&
لمحته وهو ينزل كجرذ النخل من نخلة عالية.. اختفى ليظهر بعد اقل من دقيقة عند البوابة المشرعة
-كيف عرفت صوتي ونحن لم نر بعضا لاشهر؟
-صوتك ما يتوه عليّ لو بعد ميّة سنة.&
قدمت له قنينة العرق، فاحنى راسه خجلا..&
-ليش زحّمتْ نفسك دكتور.. جَيتكْ هي هدية.. تقدمني وهو يواصل حديثه.. دقيقة واحضر لك كل شي على مكان كَـعِدتكْ.&
شكرته واخبرته انني قد قصدته في مهمة قد يساعدني بها.. واخبرته قصة المبلغ المودع لدي والبستان الذي ابحث عنه.&
-والله جَنكْ جَيتْ بوَكتكْ يا دختور.. اصبر عليّ شوي حته ابدّل وآجي وياك.&
عاد بعد قليل بصاية وعباءة ونعل في قدميه، وقادني عبر الدرب الترابي.. عبر الشارع.. دخل في دروب البساتين المتعرجة من الجهة الثانية من الشارع.. إلتف على درب آخر.. عبر قنطرة.. مشي عبر نخيل غير ذي سور او سياج.. عاد الى درب ترابي ضيق آخر.. انا اتبعه محاذرا في سيري من هذه القنطرة الضيقة او سعف نخلة قصيرة تعترضني.. وقف فجأة امام سياج غير مرتفع من الاسلاك الشائكة..&
-هذا هو طلبك دختور..&
.. أنظرُ الى بستان محيّر بجماله.. صفوف منظمة من النخيل تمتد مسافة غير قصيرة تتعلق على جذوعها عرائش (سوابيط) العنب المحملة بعناقيدها بكثافة.. اشجار رمان وجوافة هنا وهناك بين صفوف النخيل.&
لم ينتظر سؤالي لكيفية دخول البستان.. توجه الى بوابة البستان المقابل على الدرب الترابي الضيق وصاح :
-ابو سليمة!!.. عيوني ابو سليمة!! جاييك ضيوفْ
.. خرج ابوسليمة معفّرا بالطين والاتربة، فقد كان يقوم بكراء جدول في بستانه.. طلب منه فرج أن يفتح بوابة البستان المعني.. دخل ابو سليمة معنا الى بستان الاعناب.&
.. النخل في احسن وضع، أكثره نشوٌ، قليل منه متقادم (عيطة).. حلاوي، اسود، بريم، خستاوي، عددغير قليل من نخل البرحي الثمين.. كل اربعة صفوف من النخيل يعقبها جدول.. يبدو أن الجداول مكريّة حديثا.. الاعناب كلها من افخر الانواع.&
مشينا على طول البستان.. صدر البستان يطل على نهير جميل مظلل بالاشجار
-هذا نهر الحنتوشية وهو فرع من حمدان، قال ابوسليمة.&
لم اصدق انني قد وقعت اخيرا على أكثر مما اريد.. سألت بلهفة لمن هذا البستان
-هذا البستان وعشرات البساتين جواره من الجانبين هي لفهد الراشد (اسم وكأني كنت اعرفه).. هذه البساتين كلها معروضة للبيع، حتى البستان المجاور الذي أعمل على رعايته، وأدعو الله ان يمكنني من شراءه بعد حين.. فهد الراشد يقيم في الزبير&
شكرت ابو سليمة كثيرا وعانقت فرج.. عدت معه وانا اطير فرحا.. ركبت الكوستر المتجه الى العشار، ووددت لو ان لي جناحين اطير بهما الى الزبير.. الوقت متأخر على ذلك.&

بعد أن تقصّيت عن الرجل من استاذي الدكتور مصطفى النعمة واعددت المبلغ المطلوب وهو اربعة ألاف دينار توجهت في اليوم التالي الى الزبير.&
.. استقبلني أحد اولاده.. عرفته بنفسي واطلعته على مقصدي من زيارة والده.. تقدمني الى ديوانية بالغة السعة صفّت على جوانبها تخوت بفراش انيق ووسائد عديدة.. تقدمني مرحبا وطلب مني الجلوس، فجلست على احد التخوت.. جلس الى جانبي مرحبا من جديد ومحدثا حديث الاستضافة المهذب.. اشار الى رجل يقف قرب احد ابواب الديوانية بكوفية حمراء.. سارع الرجل ال


تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
البورتريهات والمذكرات واليوميات والسيرة
المشاهدات
2,180
آخر تحديث
أعلى