د. زياد العوف - سعيد حورانيّة ناقداً

للأديب و المثقّف الملتزم سعيد حورانيّة إسهامات أدبيّةوفكريّة وثقافيّة متنوعة، أهمّها بالتأكيد، دوره الرياديّ في فنّ ( القصة القصيرة) . لقد تجلتْ هذه الإسهامات في المقالات الهادفة ، والخواطر اللاذعة، وبعض الترجمات الأدبية، وكذلك في قراءاته النقديّة المتمثّلة أساساً في تقديمه لعدد من الأعمال الأدبيّة لبعض الكتّاب المرموقين . نذكر منها على سبيل المثال مقدّمة رواية" الشراع والعاصفة" لصديقه الروائي الشهير( حنّا مينة) ، ومقدّمة المجموعة القصصيّة " أُحبُ الشام" للأديبة الدكتورة( ناديا خوست) ، وكذلك مقدّمة المجموعة القصصيّة " عود النعنع" للفنان الكبير( فاتح المدرّس) ، ومقدّمة رواية" ... وبعض من آيام أُخر" للنّحات( عاصم الباشا ) .
لا يمكن أنْ نصنّف الآراء والمواقف النقديّة التي انطوت عليها تلك المقدّمات في باب الدراسات النقديّة المنهجية الأكاديمية المنظّمة، لكنها أقرب إلى أن تكون قراءات نقديّة حيّة أنتجتها خبرة إبداعيّة واعية ، ومعرفة نظريّة عميقة، وقراءات أدبية وثقافية وفكريّة خصبة ومتنوعة .
لقد وقع اختياري على مقدّمة رواية
" ...وبعض من أيام أُخَر" التي أصدرتها وزارة الثقافة السورية ضمن سلسلة " الرواية" .
يدور محور الرواية حول الخيبة المريرة التي استشعرها المغترِب العائد إلى وطنه ( محمّد علاء الدين واسطي) إثرَ صدمته بالوقائع اليوميةالمزرية في مدينته (يبرود) بعد سنوات طوال أمضاها في مغتربه( الأرجنتين) :" وفكّر محمد علاءالدين واسطي العال بمرارة الغربة في بلاد الغربة والغربة في الوطن" .
جاء في تقديم سعيد حورانية للرواية: *
" عندما رأيتُ أول معرِض له دُهشْتُ، كيف يمكن لهاتين اليدين الناحلتين أن تُخضِعا المعدِن ، أيّ معدِن، وتحيله إلى كائن آخر أكثر حضوراً من كثير من البشر ، وتنفخ فيه روحاً متجددة باقية كأي عنصر من عناصر الطبيعة ؟
ولكنّ عاصم الباشا النحات الموهوب، صاحب اليد الذهبية وسيّد المعادن..كان يخشى أنْ يقترب من ذلك المعدن الغريب، الصعب تجميعه كما أشعة الشمس، المنهِك تفتيته، كما الماس النقيّ.. المعدن الهلاميّ الصلب، الأليف النافر، الهارب المقتحم، البارد الملتهب، النادر كالكبريت الأحمر، المشاع كحصى البرّيّة . لقد كان يخشى الاقتراب من الكلمة التي هي أهمّ جَدارات الإنسان .
وإنه لخوف مبرّر وكريم، فالأكاديمية تعلّم الفنان كيف يذلّل المعادن، ولكنّ أعرق الأكاديميات لا يمكن لها أنْ تعلّم أيّاً كان أنْ يذلّل اللغة .
الماء في الصحراء، والشمس في القطب أقلّ عزّة من شحن ألفاظ استعملها البشر منذ آلاف السنين وأغنوها بتجربتهم ومعرفتهم ، وها نحن نرثها لنصبّ فيها شخصيّتنا ،
لتصبح ملكاً لنا .
ذلك أنّ المادة دون تاريخ، تاريخها تاريخ صانعها...............
وليست كذلك اللغة، ضعفها وقوتها أنها ليست حيادية، إنّها ثمرة حكمة آلاف الأجيال، وعيهم وحسّهم الجمالي، وهنا الصعوبة في أن يُخضع النّحات المُجيد هذه المادة.
وإنّه لنحتٌ استثنائي.
وإنّه لدرب يكتشفه مبدعو الكلمة كلّ مرّة، وكلّ منهم رائد بمعنى من المعاني . ..........
........ . ...........
وعاصم الباشا ليس غريباً عن الكلمة، لقد كان يجد الوقت دائماً ليترجم قصصاً لكتّاب من أميريكا اللاتينيّة، وفصولاً من مذكّرات ( نيرودا) وأشعاراً ل( ألبرتي) ورسائل ل( فان غوخ)...............
.............. ........
أقول إنّ هذا كلّه هيّأ الجو لعالم روائي غنيّ بالتجارب والمعاناة، وهو العالم الذي" نحته" لنا عاصم الباشا في روايته المدهشة هذه .
......... . ............
..... ...........
...
لكنّ اللغة تنشر شباكها الماكرة أمام النحّات الموهوب؛ فبينما تراها مشرقة، بل وغارقة في الفصاحة، تجدها تتعثّر في غرابة متعِبة وتعقيد مربِك، حتى لتظنّ أنّك تقرأ ترجمة حرفيّة من لغة أخرى ، ولكنّ عاصم يرفض أنْ يعيد النّظر فيها: "هذا أنا، لا تنسَ أنني أفكّر بالإسبانية أيضاً وخاصة في مشاهد بلاد الغربة، وسأدعها كما هيَ، كجزء من العمل "
للفنان حريته، وللقارئ أيضاً حريته في أنْ يقرّ هذا أو لا يقرّه ، ولكنّه على كلّ حال عذر جميل " .
* سعيد حورانيّة ، عزف منفرِد لزمّار الحيّ، وزارة الثقافة، دمشق،١٩٩٤ .

# دكتور زياد العوف


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى