سمير الفيل - إضاءة 77.. ذكريات عن الشعر، والعمر، والأصدقاء .

إلى الشاعر الجميل / حلمي سالم في أزمته



* حين تخرجت من معهد إعداد المعلمين سنة 1971 ، كانت مصر تستعد لجولة جديدة من الحرب مع إسرائيل لاسترجاع الأرض التي ضاعت منها مع هزيمة 5 يونيو 1967، وكان كل الخريجين يدفعون إلى الجبهة ، باستثناء دفعات محدودة من المعلمين الذين تم تأجيل دخولهم الجبهة لسد العجز الفادح من المدرسين، وكان منها دفعتي التي أجلت لعام 1974.
* وقعت الحرب ، وبعد أشهر قليلة جندت في سلاح المشاة ، سرية الهاون 82 مم ، وكانت فترة الأساس في ثكنات المعادي بالقاهرة ، وكان علي أن أحصل على تصريح ب24 ساعة كل اسبوع ، فضلت أن يكون هو موعد ندوة يعد لها الشاعر الكبير سيد حجاب .
* ندوة حجاب كانت بالدور العاشر في مبنى الاتحاد الاشتراكي العربي الضخم المطل على النيل ، حيث يأتي شباب الكتاب من شعراء وكتاب قصة، ومسرحيين ليقيموا ورشة عمل في الحجرة الواسعة التي يحتلها مكتب مدير تحرير جريدة " الشباب " .
* في هذه الندوة تعرفت على حلمي سالم ، جمال القصاص ، أمجد ريان ، طلعت شاهين ـ الدكتور فيما بعد ـ عبد الدايم الشاذلي ، علي قنديل ، ماجد يوسف ، رفعت سلام ، حسن طلب ، وكنا بعد انتهاء الندوة نتسكع في شوارع العاصمة ، نجمع قروشنا القليلة لنحضر " السندويتشات" ، ونشرب الشاي الغامق الذي يصر عليه أخواننا الصعايدة ،ثم نروح نبحث عن مأوى في ساعات الصباح الأولى فلا نجد سوى حجرة علي قنديل طالب كلية الطب ، فقد كانت بالدور الأرضي ، ويمكننا التسلل اليها بسهولة ، والنوم متراصين كأسراب السردين المجهدة حتى يأتي الصباح غير الكامل ، فنهرب في غبشة النور المعتم قليلا .
* أقوى الأصوات الشعرية ، وأقدرها جذبا للانتباه ـ في الندوة ـ كان حلمي سالم الذي يمتلك طريقة في الالقاء كنا جميعا نحسده عليها ، فهو يمتلك النص ، ويتحول معه إلى كتلة من المشاعر المتأججة ، ويبدو أنه فعلا كان النجم الأول لندوة الشباب ، وكان أجملنا هيئة ، فيما كان جمال القصاص هادئا ورعا كما لا زال هو عينه الشخص نفسه بعد انقضاء تلك الأعوام البعيدة .
* تمضي الأيام ، ونوزع على كتائب القتال ، ويكون حظي في منطقة " أبو صوير" بالقرب من الاسماعيلية ، ولم يعد باستطاعتي أن أعاود حضور ندوة حجاب ، وفي إحدى إجازاتي بمدينتي أفتح مجلة " الشباب " التي كانت تصدر عن منظمة الشباب الاشتراكي لأجد صورة علي قنديل تتصدر الغلاف .
كانت سيارة جيش مسرعة قد طوته تحت عجلاتها في حادث مأساوي على بعد أمتار قليلة من مبنى قصر الثقافة بكفر الشيخ.
علي قنديل كان من أبرز الأصوات الجديدة ، وقد تنبأ له الزملاء بمستقبل شعري عريض ، خاصة أستاذه المباشر الشاعر محمد عفيفي مطر الذي كان يصدر مجلة " سنابل " من كفر الشيخ .
مات علي قنديل في عز شبابه ، وكنت بعيدا ، ومعي رسائل له ، وقصائد لم تنشر ، سأتمكن بعد ذلك من نشرها عبر الاتصال بشقيقه ابراهيم قنديل المترجم والقاص المجيد.
* في سنة 1977 يكـّـون عدد من الكتاب الشباب جماعة " إضاءة 77" وتصدر بياناتها الشعرية ، وما نيفستو الحركة التي كانت أول خروج قوي على قصيدة التفعيلة التي اختط ريادتها في مصر شعراء مهمون منهم صلاح عبد الصبور ، أحمد عبد المعطي حجازي ، محمد ابراهيم أبوسنة، كمال نشأت ، حسن فتح الباب ، وتعلن الجماعة رفضها لمنظومة الشعر الحديث وتراتبياته المعلنة في مصر ، وبقروشهم الزهيدة يصدرون مجلتهم الغير دورية ، و يتحركون هنا وهناك ، وقد كنت وقتها ، وفور خروجي من الخدمة العسكرية همزة الوصل بينهم وبين الكتاب من جيلي في مدينتي الصغيرة ، وهكذا صار للجماعة موطيء قدم في المدينة الحرفية العتيقة دمياط .
* وأنا اكتب هذا المقال اتجهت إلى مكتبتي وأحضرت أعدادا مختلفة من " إضاءة 77" ، وسنقرأ سويا هذه المقدمة التي حملت عنوان ( صعودا إلى الشعر .. صعودا إلى الوطن :
هذا هو العدد الثاني من " إضاءة 77" يصدر في موعده حاملا معه اصرارنا الأكيد على تحدي سائر المثبطات والمعوقات من أجل مواجهة الواقع الذي نعيشه ، بسلاح نبي هو الكلمة ، ومن خلال قضية مقدسة : هي الشعر .
وإنا لندرك أن واقعنا الثقافي الآن ـ كجزء من الواقع العام ـ بات يشكل أدنى درجات الهبوط ، فهذه الحركة الثقافية المصرية الجادة قد تشتت في المهاجر ، أو طوت صفحاتها وأوراقها ـ في الوطن ـ تحت الضغوط الجهمة لذلك الواقع الذي تقوده أجهزة ثقافية راحت تخطط بشراسة ، لكي تشيع قيم الابتذال والسطحية في حياتنا الثقافية ، عن طريق إجهاض أي قلم وطني جاد ، أو عن طريق بعث رفات الأقلام الرخيصة أو الهابطة ، أو عن طريق احتواء الطليعة الشابة حتى تفوت عليها فرصة التفاعل والصعودإلى خريطة الوطن " (1(
وتستمر المقدمة في بيان توجه الجماعة الفكري والجمالي بما لا يمكننا أن نحيط به ، لكننا نشير إلى بعض محاوره ، ومنها :
" إن إضاءة ، إذ تدرك أنها تعبير عن حلقة أصيلة في تطور الشعر الجديد ، فإنها تدرك أيضا أن هذه الحلقة تدين بالفضل ـ بل بالوجود ـ إلى ما سبقها من حلقات في السياق التاريخي للشعر المصري الجديد ، بل وللشعر الجديد على مستوى الشعر العربي . فلا جدال في أن تجربة الشعر الجديد منذ أواخر الأربعينات وحتى الآن قد زكت مفهوم القصيدة العربية ، غير المتشرنقة بمحليتها الضيقة ، حيث تقارب الوعي الجمالي والفكري ، والهم التشكيلي فيما يختص بقوانين إبداع القصيدة العربية عموما " .
وتعود الجماعة للمانيفستو الذي دشن العدد الأول بقولها :
" حين أعلنت إضاءة في عددها الأول ( إن للشعر الصحيح يتضمن ضمن ما يتضمن الشعار الصحيح ، لكن الشعار الصحيح لا يتضمن ابدا الشعر الصحيح ) فإنها كانت قد أجملت ما يمكن بسطه كالاتي :
إن اللغة ـ بما هي كائن اجتماعي ـ هي أداتنا الفنية للخاصة ، وعملنا أن نعمد على تفجير الأمكانيات اللانهائية لها ، من خلال كشف الطواعية الجمالية للكلمات وامتلاك ناصيتها ، وهي طواعية تنظر إلى هذه الكلمات أو المفردات اللغوية ، على أنها كائنات قابلة ـ فنيا ـ لأن تنتظم في سياق من العلاقات الجمالية ، تتفاعل وتتناغم فيه مستوياتها الثلاث الرئيسية : الكلمة بوصفها جرسا موسيقيا ، والكلمة بوصفها دلالة اجتماعية ، والكلمة بوصفها قابلية تشكيلية أو تركيبية " .
* وتبين المقدمة عن إطار نظري متماسك تتبناه الجماعة بعمق ووضوح ، حتى أن القصائد المنشورة والدراسات التطبيقية تجذره بثقة وثبات :
" إن المعنى ، وبالتالي المضمون عندنا ليس إلا مستوى واحدا داخلا في نسيج العلاقات الجمالية ، ويترتب على ذلك ، أن أية عمدية دوجماطيقية متطرفة ـ على صعيد الأبداع أو علي صعيد التلقي ـ تتجه إلى الاجتزاء بهذا المعنى وابتساره عن نسيجه ، بهدف إبرازه والتأكيد عليه إن هي إلا خروج عن دائرة الفن الحقيقي كما نفهمه نحن وكما نرى أن مرحلتنا التاريخية تقتضيه.
فلا جمود لدينا لما يسمى بالمعنى أو المضمون مستقلا عن علاقاته الجمالية وقيمه التشكيلية . بل نحن نرفض مبدئيا ـ كما أشرنا في مقدمة العدد الأول ـ مصطلح) الشكل والمضمون ) ، من حيث أنه مصطلح ـ بكل ما يحمله من تراث ثنائي ضارب في القدم ـ بات غير صاح وغير قادر على العلى مواكبة القصيدة الجديدة بكل مافيها من قيم تشكيلية وإمكانية بنائية " .
ونختتم هذه الفقرات بما كشفته المقدمة من موقف حاد تجاه القضايا الجمالية التي كان يموج بها الواقع الثقافي المصري وقتها :
" أما من يبحثون عن المضمون ـ والمضمون وحده ـ في نسيج القصيدة ، متاحا بأقل مجهود ممكن لفعل التلقي ، عليهم أن يبحثوا عن مثل ذلك المضمون في
قصائد أخرى غير تلك التي نكتبها ونريد لها أن تكون .
وظننا أن ما سيجدونه ليس بالفن الثوري الحقيقي ، فإن هو إلا ضرب من ( أدب التحريض ) قد يكون له دوره وجدواه ، ولكنه يختلف عن دور الفن الثوري بالمعنى الذي نراه "
يتضمن العدد الثاني قصائد لكل من : حسن طلب ، جمال القصاص ، حلمي سالم ، عبد الدايم الشاذلي ، محمد الفقيه صالح ، ودراسة للدكتور عبد المنعم تليمة حول قصائد العدد الأول ، وأخرى لرفعت سلام حول ديوان محمد عفيفي مطر " والنهر يلبس الأقنعة " .
وهنا نتأكد من وجود مشاركة ليبية وأخرى يمنية وهو اتجاه متأصل خلال الأعداد الأولى كي يكون لجماعة إضاءة طموحها المنفتح على تيارات التحديث في شتى أنحاء الوطن العربي ، ووجهها التقدمي . (2(
* تستمر إضاءة في مسيرتها ، ويخرج من يخرج ، ويدخل من يدخل ، وتنتابها دورات ضعف وقوة ، انتشار وانكماش ، وأحضر في إتيليه القاهرة احتفالا بمرور عشرين عاما على إنشائها ، يحضره عدد كبير من كبار الكتاب أذكر منهم إدوار الخراط عراب الحركة .
ولو أننا القينا نظرة على الأعداد التالية التي تعثرت لأسباب تنظيمية وأخرى تمويلية لوجدنا أسماء هامة جدا ترفد في نفس المجرى .
على سبيل المثال سأتوقف أمام العدد التاسع ، ونجد فيه قصائد لكل من :
زين العابدين فؤاد ، محمد سليمان ، أمجد ريان ، عبد المنعم رمضان ، عادل أحمد ، محمود نسيم ، حلمي سالم ، جمال القصاص ، ماجد يوسف .
ودراسات لعدد من الشعراء الذين قاموا بدور نقدي مثل :
حلمي سالم ، محمود نسيم ، أمجد ريان، محمد خلاف . (3)
كذلك سأفر صفحات العدد الثاني عشر ويتضمن قصائد لكل من :محمد خلاف ، حسن طلب ، جمال القصاص ، حلمي سالم ، نوري الجراح ، أمجد ناصر ، محمود نسيم ، محمد سليمان ، وليد منير ، ماجد يوسف ، أمجد ريان .
أما الدراسات فهي لكل من :
مروان سعد الدين ، عبد المقصود عبد الكريم ، محمد سليمان .
ونلاحظ عودة المشاركة لأصوات سورية وأردنية كما كان الأمر في الإصدارات الأولى ، وهو ذات التوجه الذي استمر مع صعود وهبوط تجربة " إضاءة 77" ..
ساتوقف عند العدد الثالث عشر الذي قدم قصائد لكل من :
سيد حجاب ، ماجد يوسف ، حسن طلب ، أمجد ريان ، محمد خلاف ، محمود نسيم ، وقصيدة مترجمة لتيد هيوز ، ترجمها محمد هشام .
الدراسات قام بها حلمي سالم ، أمجد ريان ، جمال القصاص ، محمد خلاف ، عمر جهان .
وقد قام أمجد ريان بتقديم مدخل لقراءة الشعر البحريني المعاصر، فيما قدم جمال القصاص " ثلاث تجارب شعرية جديدة من عمان " فتناول تجربة كل من : سماء عيسى ، سيف الرحبي ، زاهر الغافري .
* استمرت صلتي بجماعة إضاءة ، وقدموا إلى محافظة دمياط في ندوات لتأكيد التواصل بين تجربتهم ، وتجارب مجموعة الشباب من جيلنا ، وأذكر أن آخر زيارة قام بها شعراء " إضاءة " لدمياط كانت قبل سفري مباشرة للعمل في السعودية وحضر كل من جمال القصاص ، حلمي سالم ، حسن طلب ، ،ماجد يوسف ، وقد حصلت من الصديق حسن طلب على مخطوط ديوانه الرائع بل المهيب " آية جيم "( 4) وحملتها معي إلى الدمام فقرأها أغلب الشعراء هناك ، وأهداني حلمي سالم ديوانه " دهاليزي ، والصيف ذو الوطء " ( 5)
وكتب على صفحته الأولى :
)إلى سمير الفيل :
الصديق العذب
والشاعر الجميل ،
تعبيرا عن مودة حقة .
في درب يأكل العمر :
درب الشعر
ذكرى لحظات جميلة في رأس البر ودمياط .
حلمي سالم أغسطس 1991 . دمياط (
* في 31 أغسطس 1991 كنت أهبط من الطائرة في مطار الظهران ، وكان معي ديوان حلمي سالم ، ورائحة يود البحر المتوسط ، وجلسة الصحبة على المكعبات البازلتية عند التقاء النيل العذب بالمالح الإجاج .
فمن يعيد لنا تلك الأيام الجميلة .


..........................

هامش

( 1) العدد الثاني / كتاب شعري غير دوري . جماعة الشعراء الشبان . القاهرة . الكتاب الثاني . ديسمبر 1977 . حلمي سالم . رفعت سلام . حسن طلب . جمال القصاص . الغلاف والرسوم عمر جهان .

(2) عدد كبير من مؤسسي " إضاءة 77 " يعدون من كتاب اليسار المصري ، ومن كوادر العمل الجبهوي التقدمي ، وهذا يبين أن تحديث النص كان مرتبطا برغبة عارمة في تثوير الواقع العربي ، وتخليصه من عاديته ورطانة التقليد .

( 3) إضاءة 77 ، العدد التاسع ، يناير 83 . الأشراف الفني عمر جهان .

(4) تركت المخطوط مع زملاء لي بالمنطقة الشرقية بالسعودية ، في نسخته المخطوطة باليد ، وتناهى إلى علمي أن الديوان قد صدر بعد ذلك عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ، وواجهته أصوات متحاملة مما استدعى جمعه من الباعة ، وهي رواية لم أتأكد منها .

(5) " دهاليزي والصيف ذو الوطء " ، حلمي سالم ، رياض الريس للكتب والنشر ، لندن ، 1991.


سمير الفيل

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
الجماعات والمدارس والحركات والصالونات الأدبية
المشاهدات
506
آخر تحديث
أعلى