اقترح عليها أن يكون لقاؤهما في "براغ"، المدينة التي يعشقها، كان يريد أن يشاركها أجمل ما رأت عيناه؛ قالت: أنت أجمل الأماكن، أنت كلها أيضا.
تعانقت أيديهما منذ أن وصلا، رفع أناملها إلى شفتيه ولثمها، ثم ضمَّها ناحية قلبه، انغمست روحُ كلٍّ منهما في الآخَر منذ زمن.
كانا قد انتظرا طويلا ليكونا معًا، انطلقا تجاه نهر "فلتافا"، فرأى كما لو أن مجموعاتٍ من عصافيرَ وفراشات ملوَّنة تحمل الجسر الذي حلم بصحبتها عليه. شَعَرَ بالأمطار أنغامًا ترسلها السماء، إيقاعات تعزف لهما سيمفونية الجمال النوراني، أتلك مدينته المفضلة التي خبَرَها مرَّات؟ كيف صارت أبهى وأجمل على هذا النحو!؟
في أول زياراته لبراغ، أحبَّ موجاتِ النهر الصغيرةَ، التي تتهادى لتُلامس شاطئ قلبه، راقتْه الأزقة والساحات القديمة، التماثيل التي تحاكي الحياة، تماهى مع شلالات الموسيقى التي تصُبُّ في ميادينها؛ فتُحِيلها غاباتِ شوق ومحبة، عَشِقَ عراقتها ومقاومتها لخراب الحروب، ليكتشف الآن - وهي تسير بجواره - أن الأقمار التي بعينَيها انعكست على كل الأماكن، فزادتها بهاءً وأَلَقًا.
أحبَّ موسيقى صوتها وهي تنطق اسمه بلهجتها، تلك التي عَشِقَها في الأفلام المصرية القديمة، مِرارًا درَّبها أن تنطق اسمه بلهجته، شُغف بروحها الرقراقة، التي بلا أضلُع حادة، كانت شفافة كأن النهر الذي ينبع من قلبها يصُبُّ في روحه مباشرة.
كان كلما أراد أن يحدِّثَها عن معالم المدينة من حولهما، عادت عيناه تعدو إليها بشوق، تأبى الكلمات أن تخرج من شفتيه إلا عنها، عن حبهما، يقول: "ماذا فعلتِ بي؟" تضحك حَيِيَّةً وتهمس في أذنيه: أنا المرأة التي تولد وفي قلبها ورقة بردي، مدوَّن فيها بحروف ذهبية: إن العشق الحقيقي هِبَةٌ من رَبِّ السماوات، حين يباغتنا؛ تزفُّه الشمس من قُدس الأقداس، أبصرتُكَ نورًا وطلَّة كبرياء، جبيني بيت الحب، ويداي تَمْرٌ، وسلسبيل ماء.
تسأله: "كيف غمستَني أنت في الحياة ثانية بكل هذا الفرح!؟"
مَشَيَا طويلا، كانت أقدامهما لا تكاد تلامس الأرض، شَعَرَ كأنه يَوَدُّ لو ضَمَّها إلى صدره طيلة الوقت، تعلَّقت بذراعه وروحه.
تجوَّلا في الأزِقَّة القديمة، توقَّف مِرارًا ليراها، أراد أن ينقشَ ملامحها على قلبه، لا يصدِّقان أنهما معا. تجذبه لتنظر إليه، تستعذب ضحكات عينَيه اللماحتين، كانت تسكب كيانها فيهما.
لم يشعرا بالطُّرُق، إلى أن وَصَلَا لبوابة قديمة، مزيَّنة برؤوس منحوتات لحيوانات ضخمة، وجوه تجسِّد لوحة هَلَعٍ عارم، حين اجتازاها؛ حوَّمتْ فوقهما لدقائق طيور رمادية كبيرة، ثم اختفت خلْف أسوار كنيسة تاريخية، شَعَرَا برهبة، ودَاخَلَهما الخوف، ثم سريعا ما تناسيا، اشترى لها شَالًا حريريًّا، مشغولة أطرافه بالفِرَاء، من محل صغير لسيدة عجوز، ومظلَّتَين للمطر، أصرَّتْ أن يحتميا بمظلة واحدة؛ فقبَّلها، وامتدت يده تمسح عن شَعرها بعض قطرات الماء. اختار لعشائهما مطعمًا له طقوس البيوت الحميمية. أطعمتْه بيدها، تعمَّدتْ أن يلامس باطن أناملها شفتَيه، لاحَظَ توجُّهها إليه، لم تكن ترى سواه، استرسلا يسترجعان حكايتهما منذ التقيا، ضحكا من جرأة مشاكساته لها أول تعارفهما، كل منهما يريد اكتشاف تلقِّي الآخَر له منذ البدايات، شَعَرَ بتلقائيتها؛ فالتقط قُبلاتٍ خاطفةً من وجنتيها، ورَتَّبَ خُصلاتِ شَعْرها المنسكِب نحوه، رَاقَهُ وَعْيُها، وهذا التدفُّق الذي يتدافع من مخيلتها وإرادتها، انشغل أيضا بأنوثتها التي تفيض بعفوية لتطوي المسافات بينهما كالبَرْق.
قصَّتْ عليه كيف أنها رأتْ كيانًا هائلا، يرمي بظلال كثيفة عليها؛ حتى أنها رَجَتْه رِفْقًا، لكنه لم يبرح مكانه إلى أن ابتلعها، وحين أفاقت؛ وجدتْ نفْسها في زاوية ساحة كبيرة أثرية، حين تبيَّنتْ أنه معها في الحلم؛ انمَّحى خوفها وهدأتْ.
استفاض هو الآخَر، شيء فيها دَفَعَه للبوح، حكى لها عن تعلُّقه الأول، طريقه اليومي من الجامعة إلى بيت زميلة دراسته لمدة عام، دون أن يبوح لها بكلمة عِشْق واحدة، قَصَّ عليها رغبته أن يكتب التجربة؛ لئلا تضيع من ذاكرته، كانت هذه السَّنةُ بعْضَه المندهِشَ الذي شُغف بعالَم آخَر، بعْضُه أيضا سَكَنَتْه الغربة والاختلاف؛ فاختار الصمت.
قال: إنهما في حاجة إلى استراحة قصيرة، وتبديل ملابسهما قبل أن يذهبا للحفْل الموسيقي الذي حجزه منذ أسابيع.
حين اقتربا - في عودتهما - من بوابة الوحوش المفترسة؛ أشاحت عنها بوجهها، عندما لمحت العنف العارم على الملامح الصارخة؛ فانكمشت فيه، سألها: أتخافين من المنحوتات؟ قالت: الفن بعضُ الحقيقة، كأنهم في حلبة نزال نارية.
عادا إلى الفندق من نفْس الطُّرُق الصغيرة الملتوية، استهوته الدائرة الصغيرة للمظلة الواحدة التي أصرَّت عليها، كان كلما وَجَدَ مسافة بينهما؛ جذَبها من خصرها، فترفع يده وتقبِّلُ أصابعه واحدًا بعد الآخَر.
تشعر بمسافة بينها وبين ما يحدث حولها، بالرغم من أنها تخيَّلتْ لقاءهما كثيرًا، بَدَتْ كأنها نجمة وليدة، لم تَزَلْ تتعرَّف السماء، تَرَكها تبدِّل ملابسها، ودخل ليتحمم، التقط أنفُها عطره؛ فاستعذبته، حين خرج سألها: هل ذقنه بحاجة لمعاودة الحلاقة؟ رفعت أصابعها لتلمسها، فأمسك بيدها وقبَّلها، ثم همس: شَفَتاك تعرفان أكثر، ضمَّها إلى صدره؛ ليُسكِنها فيه، ويغلقه عليها.
استعدا للحفل، وكل منهما يرى في الآخَر طاقة فرح ونور، حين وصلا؛ هالها أن المسرح في مواجهة لوحة وحوش البوابة تماما، كانت أضواء أعمدته الشاهقة تنعكس على وجوههم الغاضبة، اندهشت وتعثرت خطواتها، سقطت حين رأتهم يقفزون من الإطار الحديدي، ويتدافعون نحوها، لم تشعر إلا وحوافرهم تُدمي جسدها، لم تشعر أيضا بيده، تبحث عنه؛ فلا تجده، حلَّقت به الطيور الرمادية بعيدًا، لحظات واختفى تماما!
حين عاودت النظر لورقة البردي التي وُلدت بها، قرأت ضمن تعاويذها الذهبية: إن النار التي تُحيل كل الأشياء رمادًا، لا تقوى على الذاكرة، قد تنجو الأحلام أيضا.
د. أماني فؤاد / مصر
تعانقت أيديهما منذ أن وصلا، رفع أناملها إلى شفتيه ولثمها، ثم ضمَّها ناحية قلبه، انغمست روحُ كلٍّ منهما في الآخَر منذ زمن.
كانا قد انتظرا طويلا ليكونا معًا، انطلقا تجاه نهر "فلتافا"، فرأى كما لو أن مجموعاتٍ من عصافيرَ وفراشات ملوَّنة تحمل الجسر الذي حلم بصحبتها عليه. شَعَرَ بالأمطار أنغامًا ترسلها السماء، إيقاعات تعزف لهما سيمفونية الجمال النوراني، أتلك مدينته المفضلة التي خبَرَها مرَّات؟ كيف صارت أبهى وأجمل على هذا النحو!؟
في أول زياراته لبراغ، أحبَّ موجاتِ النهر الصغيرةَ، التي تتهادى لتُلامس شاطئ قلبه، راقتْه الأزقة والساحات القديمة، التماثيل التي تحاكي الحياة، تماهى مع شلالات الموسيقى التي تصُبُّ في ميادينها؛ فتُحِيلها غاباتِ شوق ومحبة، عَشِقَ عراقتها ومقاومتها لخراب الحروب، ليكتشف الآن - وهي تسير بجواره - أن الأقمار التي بعينَيها انعكست على كل الأماكن، فزادتها بهاءً وأَلَقًا.
أحبَّ موسيقى صوتها وهي تنطق اسمه بلهجتها، تلك التي عَشِقَها في الأفلام المصرية القديمة، مِرارًا درَّبها أن تنطق اسمه بلهجته، شُغف بروحها الرقراقة، التي بلا أضلُع حادة، كانت شفافة كأن النهر الذي ينبع من قلبها يصُبُّ في روحه مباشرة.
كان كلما أراد أن يحدِّثَها عن معالم المدينة من حولهما، عادت عيناه تعدو إليها بشوق، تأبى الكلمات أن تخرج من شفتيه إلا عنها، عن حبهما، يقول: "ماذا فعلتِ بي؟" تضحك حَيِيَّةً وتهمس في أذنيه: أنا المرأة التي تولد وفي قلبها ورقة بردي، مدوَّن فيها بحروف ذهبية: إن العشق الحقيقي هِبَةٌ من رَبِّ السماوات، حين يباغتنا؛ تزفُّه الشمس من قُدس الأقداس، أبصرتُكَ نورًا وطلَّة كبرياء، جبيني بيت الحب، ويداي تَمْرٌ، وسلسبيل ماء.
تسأله: "كيف غمستَني أنت في الحياة ثانية بكل هذا الفرح!؟"
مَشَيَا طويلا، كانت أقدامهما لا تكاد تلامس الأرض، شَعَرَ كأنه يَوَدُّ لو ضَمَّها إلى صدره طيلة الوقت، تعلَّقت بذراعه وروحه.
تجوَّلا في الأزِقَّة القديمة، توقَّف مِرارًا ليراها، أراد أن ينقشَ ملامحها على قلبه، لا يصدِّقان أنهما معا. تجذبه لتنظر إليه، تستعذب ضحكات عينَيه اللماحتين، كانت تسكب كيانها فيهما.
لم يشعرا بالطُّرُق، إلى أن وَصَلَا لبوابة قديمة، مزيَّنة برؤوس منحوتات لحيوانات ضخمة، وجوه تجسِّد لوحة هَلَعٍ عارم، حين اجتازاها؛ حوَّمتْ فوقهما لدقائق طيور رمادية كبيرة، ثم اختفت خلْف أسوار كنيسة تاريخية، شَعَرَا برهبة، ودَاخَلَهما الخوف، ثم سريعا ما تناسيا، اشترى لها شَالًا حريريًّا، مشغولة أطرافه بالفِرَاء، من محل صغير لسيدة عجوز، ومظلَّتَين للمطر، أصرَّتْ أن يحتميا بمظلة واحدة؛ فقبَّلها، وامتدت يده تمسح عن شَعرها بعض قطرات الماء. اختار لعشائهما مطعمًا له طقوس البيوت الحميمية. أطعمتْه بيدها، تعمَّدتْ أن يلامس باطن أناملها شفتَيه، لاحَظَ توجُّهها إليه، لم تكن ترى سواه، استرسلا يسترجعان حكايتهما منذ التقيا، ضحكا من جرأة مشاكساته لها أول تعارفهما، كل منهما يريد اكتشاف تلقِّي الآخَر له منذ البدايات، شَعَرَ بتلقائيتها؛ فالتقط قُبلاتٍ خاطفةً من وجنتيها، ورَتَّبَ خُصلاتِ شَعْرها المنسكِب نحوه، رَاقَهُ وَعْيُها، وهذا التدفُّق الذي يتدافع من مخيلتها وإرادتها، انشغل أيضا بأنوثتها التي تفيض بعفوية لتطوي المسافات بينهما كالبَرْق.
قصَّتْ عليه كيف أنها رأتْ كيانًا هائلا، يرمي بظلال كثيفة عليها؛ حتى أنها رَجَتْه رِفْقًا، لكنه لم يبرح مكانه إلى أن ابتلعها، وحين أفاقت؛ وجدتْ نفْسها في زاوية ساحة كبيرة أثرية، حين تبيَّنتْ أنه معها في الحلم؛ انمَّحى خوفها وهدأتْ.
استفاض هو الآخَر، شيء فيها دَفَعَه للبوح، حكى لها عن تعلُّقه الأول، طريقه اليومي من الجامعة إلى بيت زميلة دراسته لمدة عام، دون أن يبوح لها بكلمة عِشْق واحدة، قَصَّ عليها رغبته أن يكتب التجربة؛ لئلا تضيع من ذاكرته، كانت هذه السَّنةُ بعْضَه المندهِشَ الذي شُغف بعالَم آخَر، بعْضُه أيضا سَكَنَتْه الغربة والاختلاف؛ فاختار الصمت.
قال: إنهما في حاجة إلى استراحة قصيرة، وتبديل ملابسهما قبل أن يذهبا للحفْل الموسيقي الذي حجزه منذ أسابيع.
حين اقتربا - في عودتهما - من بوابة الوحوش المفترسة؛ أشاحت عنها بوجهها، عندما لمحت العنف العارم على الملامح الصارخة؛ فانكمشت فيه، سألها: أتخافين من المنحوتات؟ قالت: الفن بعضُ الحقيقة، كأنهم في حلبة نزال نارية.
عادا إلى الفندق من نفْس الطُّرُق الصغيرة الملتوية، استهوته الدائرة الصغيرة للمظلة الواحدة التي أصرَّت عليها، كان كلما وَجَدَ مسافة بينهما؛ جذَبها من خصرها، فترفع يده وتقبِّلُ أصابعه واحدًا بعد الآخَر.
تشعر بمسافة بينها وبين ما يحدث حولها، بالرغم من أنها تخيَّلتْ لقاءهما كثيرًا، بَدَتْ كأنها نجمة وليدة، لم تَزَلْ تتعرَّف السماء، تَرَكها تبدِّل ملابسها، ودخل ليتحمم، التقط أنفُها عطره؛ فاستعذبته، حين خرج سألها: هل ذقنه بحاجة لمعاودة الحلاقة؟ رفعت أصابعها لتلمسها، فأمسك بيدها وقبَّلها، ثم همس: شَفَتاك تعرفان أكثر، ضمَّها إلى صدره؛ ليُسكِنها فيه، ويغلقه عليها.
استعدا للحفل، وكل منهما يرى في الآخَر طاقة فرح ونور، حين وصلا؛ هالها أن المسرح في مواجهة لوحة وحوش البوابة تماما، كانت أضواء أعمدته الشاهقة تنعكس على وجوههم الغاضبة، اندهشت وتعثرت خطواتها، سقطت حين رأتهم يقفزون من الإطار الحديدي، ويتدافعون نحوها، لم تشعر إلا وحوافرهم تُدمي جسدها، لم تشعر أيضا بيده، تبحث عنه؛ فلا تجده، حلَّقت به الطيور الرمادية بعيدًا، لحظات واختفى تماما!
حين عاودت النظر لورقة البردي التي وُلدت بها، قرأت ضمن تعاويذها الذهبية: إن النار التي تُحيل كل الأشياء رمادًا، لا تقوى على الذاكرة، قد تنجو الأحلام أيضا.
د. أماني فؤاد / مصر