د. محروس بريك - ثقافة الضجيج: كيف استطاع هشام الجخّ أن يخدع النقاد ؟!

كنت أظنّ – وبعض الظن إثم- أن الشاعر إن استطاع أن يخدع جمهورًا ساذجًا لا يعرف الشعرَ عروضَه وقوافيَه وسبكَ أبياتِه وحبكَ معانيه وبلاغةَ صوره وأخيلته – فإنه لن يستطيع أن يخدع الناقد المتمرس الذي عايش الشعر وتكسّب من نقده رِدحًا من الزمن!!
استمعت مؤخرًا لقصيدة للشاعر هشام الجخّ ألقاها في مسابقة أمير الشعراء عام 2011، فنالت القصيدة استحسان النقاد والجمهور على حدٍّ سواء!! أو قل نال إلقاء الجخّ لما يمكن الادعاء بأنه شعر ذلك الاستحسان!
لم أطّلع على القصيدة في حينها لأنني أرى أن بعض مسابقات الشعر إثمها أكبر من نفعها؛ إذ كيف يُعدّ شعرًا مثلُ ذلك الكلام الساذج الذي يفتقد إلى أدنى مبادئ الشعر؟! وكيف يحصل مُنشئ مثل هذا الكلام على المركز الثاني في مسابقة كبرى كتلك المسابقة؟! وأستميح القارئ عذرًا في أن أنقل إليه هنا تلك القصيدة، ثم أُردِفُ ببعض ملاحظاتي حولها، يقول هشام الجخّ:
خبئ قصائدك القديمة كلها ** مزق دفاترك القديمة كلها
خبئ قصائدك القديمة كلها ** واكتب لمصر اليوم شعرا مثلها
لا صمت بعد اليوم يفرض خوفه ** فاكتب سلاما نيل مصر وأهلها
عيناك أجمل طفلتين تقرران ** بأن هذا الخوف ماض وانتهى
كانت تداعبنا الشوارع بالبرودة ** والصقيع ولم نفسر وقتها
كنا ندفئ بعضنا في بعضنا ** ونراك تبتسمين ننسى بردها
وإذا غضبتِ كشّفت عن وجهها ** وحياؤنا يأبى يدنس وجهها
لا تتركيهم يخبروك بأنني ** متمرد خان الأمانة أو سها
لا تتركيهم يخبروك بأنني ** أصبحت شيئا تافها وموجها
فأنا ابن بطنك وابن بطنك من أراد ** ومن أقال ومن أقر ومن لها
صمتت فلول الخائفين بجبنهم ** وجموع من عشقوك قالت قولها
إن من يبني تلك القوافي ذلك البناء لا يدري ما القافية؟ لا يدري أننا نعلّم طلابنا في الجامعة أن هاء الضمير إذا تحرَّك ما قبلها لا تصلح لأن تكون رويًّا؛ لذا نجد الشعراء الحقيقيين من لدن امرئ القيس حتى أصغر شاعر في عصرنا يلتزمون قبل تلك الهاء بحرفٍ واحد يتكرر في الأبيات جميعها، ولا يجوِّزون لأنفسهم -ولا يجوِّزُ النقادُ ولا العروضيون لهم – أن يغيّروا ذلك الحرف، لأنه حرف الرويّ الذي تبنى عليه القصيدة العمودية، وإليه تُنسب، فعروة بن أذينة -على سبيل المثال- في قصيدته التي يقول فيها:
إنَّ التي زَعَمَتْ فُؤَادَكَ مَلَّها ••• خُلقت هواكَ ، كما خُلقتَ هوى ً لها
فِيكَ الذي زعمتْ بِها ، وكلاكُما ••• يُبْدِي لصاحِبه الصَّبابَة َ كُلَّها
وَيَبِيتُ بينَ جَوانِحي حُبٌّ لها ••• لو كانَ تحتَ فِراشِها لأَقَلَّها
ولعمرها لو كان حبّك فوقها ••• يومًا وقد ضحيت إذًا لأظلّها
وإِذا وَجَدْتَ لها وَساوِسَ سَلْوَة ٍ••• شَفَعَ الضميرُ إلى الفؤادِ فَسَلَّها
بَيْضاءُ باكَرها النعيمُ فَصاغَها ••• بلباقَةٍ فأَدَقَّها وأَجَلَّها
لمَّا عَرَضْتُ مُسَلِّمًا لِيَ حاجَة ٌ••• أرجو معونتها وأخشى ذلّها
حجبت تحيَّتها فقلتُ لصاحبي ••• ما كان أكثرَها لنا وأقلّها
فدنا فقال : لعلّها معذورة ٌ••• من أَجْلِ رِقْبَتِها ! فَقُلْتُ : لَعَلَّها
التزم باللام قبل هاء الضمير، ولابد له أن يلتزم بها كي تطَّردَ قوافيه، وليس هذا من لزوم ما لا يلزم؛ إذ القصيدة رويّها اللام، فهي(لامية) لا (هائية)، لذا يدرج أهل التحقيق أبياتها في حرف اللام لا الهاء.
فإذا عدنا إلى قصيدة الجخّ السابقة سنجد أنه لا يدرك أن الهاء هنا وَصْل لا رويّ (والوَصْل في اصطلاح العروضيين هو الألف أو الياء أو الواو أو الهاء التي تلي حرف الروِيّ)؛ لذا نجده مرة يأتي بالحرف السابق لها لامًا (كلّها – مثلها – أهلها)، ثم يغيرها –مخطِئًا- إلى تاء (انتهى – وقتها) ودال (بردها) وهاء (وجهها) وسين (سها) وجيم (موجّها) ثم يعود إلى اللام مرة أخرى (لها – قولها)!
ليس هذا فحسب، بل إن هناك كسرًا جليًّا في قوله: (وإذا غضبت كشّفت عن وجهها)
فقد حوَّل التفعيلة الثانية لبحر الكامل من (///0//0 متفاعلن) إلى تفعيلة بحر الرجز (//0//0 متفعلن)، وربما اعترض عليّ أحد العروضيين بأن ذلك يسمى (الوَقْص: وهو حذف المتحرك الثاني من متفاعلن)، والوقص في اللغة: كسر العنق؛ فكأنه بذلك قد كسر عُنُق التفعيلة، وهو زحاف قبيح لا يستحسنه العروضيون، ولقبحه لم يشع في الشعر العربي، وأنّى لشاعرٍ لا يعي ما القافية أن يدرك (الوقص) ونحوه من الزحافات الغريبة؟!
وإذا عرَّجنا على الصور والأخيلة والبناء الفني للقصيدة وجدنا كلَّ ذلك ساذجًا إلا في موطن أو موطنين؛ فلست أدري ما معنى أن مصر إذا غضبت تكشّف (هكذا!!) عن وجه الشوارع؟! وما تلك السذاجة والسطحية في الاستعارة المبتذلة (فأنا ابن بطنك) وإمعانًا في تأكيد ذلك الابتذال يكررها (وابن بطنك ..)؟! ما كان أجملَ الاستعارةَ لو قال: (فأنا ابن نِيـلِكِ) أو نحو ذلك!
إنّ ما قاله الجخّ أبعد ما يكون عن مفهوم الشعرية، وأقرب ما يكون من الخطابة، بل هو الخطابة الزاعقة بعينها! سوى بيت واحد هو قوله (عيناك أجمل طفلتين تقرران /بأن هذا الخوف ماض وانتهى) ويكمن جماله في ذلك التشبيه (عيناك أجمل طفلتين) الذي أفسده بأن عاجَ إلى خطابيته المعهودة بقوله (تقرران بأن هذا الخوف ماض وانتهى)!
إن الذي أعجب له حقًّا ألا يدرك النقاد الجالسون على طاولة الحكم مثل ذلك الاضطراب الواضح في الوزن والقافية، بلهَ السذاجة والخطابية وافتقاد روح الشعر!! لقد راحوا يكيلون المدح لصاحب القصيدة؛ ومن ثم حكموا له بأنه يستحق الصعود إلى المرحلة الأعلى من المسابقة على حساب آخرين، ربما كانوا أفضل منه، لكنهم لا يجيدون فنّ التمثيل والتباكي عند الإلقاء!
لقد استطاع الجخّ ببراعة الممثل أن يستغل أحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير آنذاك، فراحَ يدغدغ عواطف الجمهور بالتباكي وادّعاء الثورية، فضلا عن استعماله الجيد للغة الجسد عند الإلقاء، وطلبه المتكرر قراءة الفاتحة على أرواح الشهداء، أو الوقوف حدادًا على أرواح شهداء بقية الثورات العربية ليضمن مزيدًا من مساحة التعاطف على خريطة الوطن العربي. كل تلك المهارات التمثيلية لا علاقة لها بفن الشعر، لكن للمسابقات التليفزيونية قوانين أخرى، لعلها قوانين الربح والخسارة التي تضمن أكبر قدر من المشاهدين، لا قوانين جودة الأعمال الفنية ورداءتها!!
لقد نجح هشام الجخ فيما لم ينجح فيه شعراء كبار؛ فقد حاز المركز الثاني، في حين حاز شاعر كبير نحو أحمد بخيت المركز الثالث في دورة سابقة للمسابقة نفسها!! وتلك لعمري من الأعاجيب!!
ليست تلكم هي المشكلة فحسب، بل هناك بُعد أشد خطورة يتمثل في أنّ النقاد بحكمهم للجخّ بهذه المكانة قد جعلوه مثالًا يُحتذى من لدن الشداة من الشباب الذين يخطون خطواتهم الأولى في عالم الشعر!



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى