د. خديجة زتيلي - "هل ساهم تقدّم العُلوم والفُنون في إفساد الأخلاق أم في تَطْهيرها؟"

في صيف عام 1749م انتقل جان جاك روسو من ''باريس'' إلى ''فانسين'' لزيارة صديقه دنيس ديدرو Denis Diderot (1713 – 1784) الذي كان يومها يقبـع في السجن، ولما غلبهُ الحَـرّ والتعب اسْتلقى على الأرض ليأخذ قسطاً من الراحـة، وفي الأثناء عمدَ إلى قـراءة بعض الكتب التي كان يحملها معه، وبينما كان يتأمّلها وقعتْ عينـاه على السؤال الذي اقترحتهُ أكاديميّة ديجون l’Académie de Dijon لجائزتها السنويّة القادمـة، وقد جاءتْ صياغته على النحو التالي: ''هل ساهم تقدّم العلوم والفنون في إفساد الأخلاق أم في تطهيرهـا؟'' ‘’ Si le rétablissement des sciences et des arts a contribué à épurer les mœurs’’.
اشْترك روسو في المسابقة وفاز مقاله بجائزة الأكاديميّة في عام 1750م، وهو المقال عينه الذي سيكون، لاحقا، مضمون كتابه: مقال/خطاب في العلوم والفنون، Discours sur les sciences et les arts الذي فتح له باب الشهرة على مصراعيه وهو في أواخر الثلاثينيات من عمره. لم يَقْتَف روسو في إجابته أثر زملائه الذين ينتمي وإياهم إلى عصر التنوير، فقد كان رهانه أن يُغرّد خارج السرب غير آبهٍ بالانتقادات التي وُجّت له، وبنبرة واثقة قال مَوْقفه من الحضارة الحديثة، بلا مُواربة، واعترفَ بأنّ أنفسنا ازدادتْ فسـاداً بقدر ما تقدّمتْ علومنـا وفنوننـا نحو الكمـال، وأنّه لا يمكن الاطمئنان لواقع حال العلوم والفنون نظرا لماّ انجـرّ عنه من نتائج كارثيّة على الصعيدين الأخلاقي والاجتماعي.
لقد أدان روسو الحضارة الحديثة ومنظومـة القيّم التي أفرزتهـا، ووقفَ ضدّ التقدّم الذي كان وهمـاً كبيراً أطلقه القرن الثامن عشر في أوروبا، فالعلوم والفنون، في تقديـره، أسهمتْ في تعاسـة الإنسان وشقائه، ولا يمكن اعتبار التقدّم المادّي والتقني هما هدف البشر وحسب. إنّ الواقع المريب أفصح عن التناقض الصارخ بين حياة الإنسان وسعادته، ولتسويغ هذه الفكرة راح روسو يتأمّل في التاريخ الإنساني في الشرق والغرب، على حدّ سواء، ويستشهد بأحداثه في مراحـل زمنيّة مختلفـة كالتاريخ المصـري وتاريخ رومـا وأثينا والصيـن والقسطنطينيّة وبـلاد فارس، لكي ينتهي إلى موقفه الرافض للحضارة التقنيّة، في صيّغهـا المطروحة، وللتقدّم الذي أدّى إلى التناحـر والحروب والأنانيّـة والتملّك والاحتيـال والغش والكذب والاضطراب والفساد والانحطاط والبشاعـة والكفـر والفوضى والإبادة والموت وغيـرها من تعاسات هذا العالم. مؤكّدا أنّ الإنسان أساء استخدام الحضارة لأنّ منجزاته الماديّة العظيمة لم يرافقها تهذيب الأخلاق وتطهيرها، بل على العكس من ذلك تماما صاحبها انتشار المفاسـد والرذائل والرياء الاجتماعي وتوطين التفـاوت بين الناس والافتقار إلى الموَاطَنَـة الصالحـة والفعالة. وهو ما يبرهن عن وجـود تعارض صارخ وصريح بين الحضارة الحديثة ومُنجزاتهـا التقنيّة والعلميّة وبين الأخلاق.
يُرسِّخُ روسو في مقاله ذاك فكرة التضادّ الموجـودة بين الحضارة والفضيلة: ففي القسم الأوّل منه يقدمّ جملـة من الأدلّة التاريخيّة عن فسـاد الدوّل في حقب زمنيّة معيّنة، ويوضّح أنّ العلوم والفنون قد ساهمت بشكـل فعليّ في انحـدار الأخلاق. في حين يعرض في القسم الثاني منه غـرور العلوم ومخاطـرِها الكبيـرة ونتائجها السلبيّة إذاَ لمْ تُعَلَّم بمـوازاة مع تعليم الفضيلـة والحكمة. واتّساقا مع هذا الطرح يَقْترح أنْ تضمّ مجالـس الملـوك والحكّـام أقدر الناس على النصحِ و تعليم الحكمة. إنّ التنوير الذي أسّس للرؤية الحديثة للعالم، في تصوّر روسو، لم يقدر على تطهير الأخلاق التي سارت نحو الانحطـاط واغتراب الانسان، وهذا المآل هو الذي جعله يحنّ إلى مرحلة الطبيعة والعودة إلى الماضي بدلا من التطلّع إلى المستقبل، وهو الشعور ذاته الذي يُفقد فكرة التقدّم مصداقيتها.
لا شكّ أنّ الناس تفاءلتْ بعصر التنوير وبـالتقدّم الذي حقّقـه العلم الحديث وخاصّة في مجـال العلم الرياضي والفيزيائي، لكنّ موقف روسو من التقدّم اتّسم بالتشـاؤم عندما تمّ الفصل بين الحضارة في جانبهـا المادّي والحضارة في جانبها الأدبي والأخلاقي، وهذا لا يعني أنّ الرجل كان خصماً لذوذًا للحضارة بوجه عام، بل للصيغة التي طُرحتْ بها في عصره وفي عصور أخرى. ففي القسم الأول من مقاله في العلوم والفنون يتّضح جليّا أنّ روسو يبدي إعجابا بالمشهـد العظيم والجميل للإنسان وهو يخـرج من العدم بفضل مجهوداتـه ليبدّد بنـور عقله الظلمات في الطبيعـة، فيتجـاوز بذلك ذاته ويندفـع بفكـره إلى السماوات ليخترق الكون ويعـود من جديد إلى ذاته ليعرف واجباتهـا وغاياتهـا. فالنهضة الحديثة، بلا منازع، مكّنتْ أوروبا من الانعتاق من التخلّف الذي كان سائدا في العصور الوسطى وساهمت في انتقال البشر إلى المرحلة المدنية والسياسية، لكنّ ما حدثَ من مزالق وما رافق النهضة من انحدار أخلاقي، هو الذي أثار اشمئزاز روسو وامتعاضه، وفي تقديره فإنّ قضيّة كهذه لا يمكن غضّ الطرف عنها.
إنّ سـؤال أكاديميّة ديجون الذي طُرح منذ أزيد من ثلاثة قرون لا يزال مواكبا لنا، ونحن في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين، محتفظا بزخمه وقوّة تأثيره وحضوره على خلفيّة التطوّر السريع للعلوم والتقنيات المعاصرة التي أنتجتْ الأسلحة النوويّة والكيمياويّة والبيولوجيّة التي باتت تهدّد البشر بالحروب والموت والانقراض، ألم يساهم التطوّر التقني وفق تحليل روسو في كتابه مقال في العلوم والفنون في انهيار الأخلاق والقيّم الانسانيّة وجعل حياتنا مملوءة بالفوضى والعبث والموت في زمننا المعاصر؟ ألا تستحقّ آراء روسو مزيدا من التأمّل والترهين والتحليل والاتّكاء عليها لفهم عالمنا وانقاد الإنسانية من الفناء؟ إنّ أصواتا ترتفع اليوم لتخليق الحياة والعلوم والتقنيّة ووضع حدود لهيمنتها وتشييئها للإنسان والعبث بقيمه النبيلة، وإلى الاحتكام إلى الضمير وهي محقّة، ولا تنقطع تلك الأصوات في مسعاها عن التنبيه إلى أنّ مصيرنا الأرضي مشترك، وعلينا أن نتعاون في إيجاد الحلول لكوكبنا بغضّ النظر عن اختلافنا اللغوي والعرقي والمذهبي والفكري.

د. خديجة زتيلي

تعليقات

أعلى