* قصة المرأة تُقْرَأُ في عينيها...
وإن كنت كثير الهلاوس والتهيؤات، أتذكر جيدا أنني، حين التقيتها أول مرة، بدا لي أنها مُتعَبة، كشف لي ذلك صوتها المرهق، وعيناها الحزينتان، وملابسها المبعثرة...
قلت لها مازحا: أتخيل أباك فظا قاسيا، يبرحك ضربا، من دون أن تعرفي السبب!
قالت: وكانت قسوة أمي المغلوبة على أمرها قسوة بلا حدود، تضربني ولازمتها: "أعرف أنك لن تكوني إلا بنت ليل، هذا ما تفشيه عيونك..."
وكما لو نكأتُ جرحا، واصلتْ: منذئذ، أتحين الفرصة لأختلي بالمرآة، لأرى هذا الذي يظهر في عينيي، ويوحي بأنني سأكون كما تقول أمي...
وكلما نظرت، أرى غبارا كثيفا يتطاير، يحجب الرؤية أو يكاد... يرافقه ضجيج آت من الأعماق، تسيخ الأرض، تظهر تشققات هنا وهناك...
أحيانا، تنبت جلبة تتردد أصداؤها بوتيرة تصاعدية... يعقبها زلزال، لم تشهد البلاد مثل قوته من قبل... تميد الأرض... تقوم القيامة...
في المدرسة، أدركت أن الدراسة وحدها تستطيع إنقاذي... ظل النفور من البشر مرافقا لي، طوال حياتي، كنت لا أحب الحشود، ولا الأماكن المزدحمة، أكره أن ترفع الستائر، وأحرص دائما على إسدالها والمكوث في الظلمة... لم أكن أحب الرد على الهاتف أيضا، ولا أستجيب لجرس الباب... أظل أسابيع كاملة في شقتي، لا أفتح لأي كان تجنبا لمخالطة الناس... أفعل ذلك وأنا موقنة أنه كلما قلَّ عدد الناس الذين أراهم، تتضاعف راحتي...
*** *** ***
مرة، اقتحمْتُ خلوتها، كانت تشبه متاهة، ليس لأنها مغلقة، بل لأنها ساحرة بخلائها، ببقع أنوارها، بأشباح ظلالها، بغرفها المتقاطعة حتى آخر الأفق... لم تتحدث طوال اللقاء عن معاناتها، فقط عن ريشتها، عن أصباغها، عن الأشباح التي تسكن عتمة مَحُوكها...
كانت المعروضات تتلألأ، وكنتُ في حالة انبهار... حين وضعتْ ريشتها، طفت على سطح اللوحة جثة ملقاة على الأرض، جثة امرأة فيها بعض من ملامحها، جثة تحفها دماء وذباب ويرقات، جثة تنبعث منها روائح... هممت بالمغادرة، فغمزت لي:
_ لا عليك، صديقي، المعاناة هي ما يجعل الفن فنا... غير أن أسوأ ما في الأمر هو الألم...
عَبَّتْ كأسها وأضافت:
يتقد الألم في الرأس أولا، ثم يندلق على الجذع، ويمتد إلى الأطراف... يتأجج خمسا وعشرين ساعة في اليوم، ستمائة يوم في السنة، على مدى الدهر...
كانت تتأنى في انتقاء عباراتها، شعرْتُ أنها ليست هي من تتحدث، بل الوجع الذي يسكنها...
استيقظت، ليلا، وجدتها عند رأسي، تمسد جبيني، ابتسمت لي وقالت:
أتذكر؟ حين التقيتك أول مرة، بدا لي أنك متعب، كشفت لي ذلك عيناك الحزينتان، وصوتك المرهق، وملابسك المبعثرة... قلت لك مازحة: أتخيل أمك فظة قاسية، تبرحك ضربا، من دون أن تعرف السبب...!
قلت: بل أعرفه...!
وإن كنت كثير الهلاوس والتهيؤات، أتذكر جيدا أنني، حين التقيتها أول مرة، بدا لي أنها مُتعَبة، كشف لي ذلك صوتها المرهق، وعيناها الحزينتان، وملابسها المبعثرة...
قلت لها مازحا: أتخيل أباك فظا قاسيا، يبرحك ضربا، من دون أن تعرفي السبب!
قالت: وكانت قسوة أمي المغلوبة على أمرها قسوة بلا حدود، تضربني ولازمتها: "أعرف أنك لن تكوني إلا بنت ليل، هذا ما تفشيه عيونك..."
وكما لو نكأتُ جرحا، واصلتْ: منذئذ، أتحين الفرصة لأختلي بالمرآة، لأرى هذا الذي يظهر في عينيي، ويوحي بأنني سأكون كما تقول أمي...
وكلما نظرت، أرى غبارا كثيفا يتطاير، يحجب الرؤية أو يكاد... يرافقه ضجيج آت من الأعماق، تسيخ الأرض، تظهر تشققات هنا وهناك...
أحيانا، تنبت جلبة تتردد أصداؤها بوتيرة تصاعدية... يعقبها زلزال، لم تشهد البلاد مثل قوته من قبل... تميد الأرض... تقوم القيامة...
في المدرسة، أدركت أن الدراسة وحدها تستطيع إنقاذي... ظل النفور من البشر مرافقا لي، طوال حياتي، كنت لا أحب الحشود، ولا الأماكن المزدحمة، أكره أن ترفع الستائر، وأحرص دائما على إسدالها والمكوث في الظلمة... لم أكن أحب الرد على الهاتف أيضا، ولا أستجيب لجرس الباب... أظل أسابيع كاملة في شقتي، لا أفتح لأي كان تجنبا لمخالطة الناس... أفعل ذلك وأنا موقنة أنه كلما قلَّ عدد الناس الذين أراهم، تتضاعف راحتي...
*** *** ***
مرة، اقتحمْتُ خلوتها، كانت تشبه متاهة، ليس لأنها مغلقة، بل لأنها ساحرة بخلائها، ببقع أنوارها، بأشباح ظلالها، بغرفها المتقاطعة حتى آخر الأفق... لم تتحدث طوال اللقاء عن معاناتها، فقط عن ريشتها، عن أصباغها، عن الأشباح التي تسكن عتمة مَحُوكها...
كانت المعروضات تتلألأ، وكنتُ في حالة انبهار... حين وضعتْ ريشتها، طفت على سطح اللوحة جثة ملقاة على الأرض، جثة امرأة فيها بعض من ملامحها، جثة تحفها دماء وذباب ويرقات، جثة تنبعث منها روائح... هممت بالمغادرة، فغمزت لي:
_ لا عليك، صديقي، المعاناة هي ما يجعل الفن فنا... غير أن أسوأ ما في الأمر هو الألم...
عَبَّتْ كأسها وأضافت:
يتقد الألم في الرأس أولا، ثم يندلق على الجذع، ويمتد إلى الأطراف... يتأجج خمسا وعشرين ساعة في اليوم، ستمائة يوم في السنة، على مدى الدهر...
كانت تتأنى في انتقاء عباراتها، شعرْتُ أنها ليست هي من تتحدث، بل الوجع الذي يسكنها...
استيقظت، ليلا، وجدتها عند رأسي، تمسد جبيني، ابتسمت لي وقالت:
أتذكر؟ حين التقيتك أول مرة، بدا لي أنك متعب، كشفت لي ذلك عيناك الحزينتان، وصوتك المرهق، وملابسك المبعثرة... قلت لك مازحة: أتخيل أمك فظة قاسية، تبرحك ضربا، من دون أن تعرف السبب...!
قلت: بل أعرفه...!