أين نحن؟ سألني والدهشة صوته.
رفعتُ عينَيَّ عن صغيري، الذي انتابته نوبة صراخ منذ ثوانٍ، نظرتُ إلى الطريق من حولي؛ فلم أتعرَّف معالمه. نظرتُ إلى زوجي؛ فوجدتُ الذهول على وجهه والحيرة، لمحتُ ساعة السيارة فوجدتها تشير إلى السادسة وعَشْر دقائق؛ وقت مغيب الشمس.
لم يكن هذا امتدادًا لطريقنا الذي نسافر عليه منذ ما يقرب من الساعتين، ليس طريق مدينتنا، الذي نحفظه كما نحفظ رائحة أمهاتنا.
بَدَا الهواء خارج السيارة كثيفا، ضبابيا ومعتما رغم أعمدة الإضاءة الخارجية، كأن هناك من أوثق يدَيه وكمَّم فمه.
يسألني وكأنه يحدِّث نفْسه: كيف حدث هذا في لحظة؟ أفي طرفة عين نجد أنفسنا في طريق آخَر غير الذي كنا نتحرك عليه؟ كيف جئنا هنا، ومتى؟
أنظر على جانبَي الطريق، فتحط الغربة على روحي، أين الحقول التي أعرف مواعيد نوَّارها، مواسم روائحها؟ أين مساحات الأرز الشاسعة؟ أين الترعة الواسعة المتفرعة من النهر؟ قطعان الأبقار؟ كان من المفترض الآن أن نكون أمام مبنى الجامعة على أطراف المحافظة، كيف أصبحنا على هذا الطريق الذي نجهله تماما؟
نتساءل: هل اخترقنا حاجزا لا نعرفه؟ أمررنا من صدْع لم نشعر به؟ هل حَمَلَ السيارة شبحٌ وألقاها على هذا الطريق؟ كيف وصلنا إلى هذه المنطقة؟
شعرت أنني أحيا داخل أحد القصص الغرائبية التي أقرأها، لم أرَ تلك المحال من قبل في الطريق الموصل لمدينتي، لا أعرف ما هي تلك الحلوى التي يعرضونها للبيع، ولا هذه الفاكهة! ذكَّرتْني - ربما - بزهور كبيرة رأيتها بساحات الجوامع في تركيا وميادينها، لماذا تبدو وجوه الناس بلا ملامح؛ الوجه مثل الرأس من الخلف! أبحث عن وجوه البائعين الواقفين بالعربات على جانبَي الطريق؛ فأجد رؤوسهم مغطاة بالشَّعر وصولا إلى الرقبة من الناحيتين.
شعرتُ لوهلة أنني أعيش في وجه آخَر من الوجود الذي لا أعرفه، كيف انتقلنا من حال إلى آخر في لمح البصر.
يسألني زوجي: هل أنتِ بخير؟ تحسَّسي نبْض الوليد واحتضنيه جيدًا، شعرتُ لوهلة بأننا نجتاز بوابة ما، بدت هزَّة وكأننا نمُرُّ بمجال آخَر غير ما نعرفه، ترددات تعبر جسدي وتتركه دون مقاومة.
دعوتُه للوقوف على جانب الطريق وسؤال أحدهم عن موقعنا، وإلى أين يوصلنا؛ لم يستجب، أظنه ظَلَّ لعَشْر دقائق أخرى يحاول التعرف بنفْسه، البحث عن أية لافتات ترشدنا، ربما خَشِيَ أن يطأ هذا الوجود البرزخي الذي لا يعرفه بقَدمه، أو ألا يجد جسده.
ظَلَّت السيارة تسير في فضاء ثقيل من حولنا، إلى أن لمحت ضوءًا يأتي في مواجهتنا مباشرة، خشيت من اصطدامه بنا، وفزعت منبِّهةً له، اهتزت السيارة كما لو أن شيئًا صفعها بعنف، يعاود صغيري الصراخ؛ حتى خشيتُ ضياع صوته.
حين نظرت للخارج ثانية تبيَّنتُ حطامًا لأكثر من خمس عربات، وأجسادًا مغطاة بورق جرائد، ملقاة على أسفلت الطريق في حادث مَأْسَوِيٍّ، من حولهم صراخ عربات الإسعاف والشرطة، من خلف هلعي؛ لمحتُ مبنى الجامعة محاذيًا لنا تماما، نظرتُ إلى الساعة؛ فوجدتها السادسة وإحدى عشرة دقيقة. كأننا كنا خارج الزمن، خارج المكان أيضا!!
عَشْر سنوات مرَّت ولم أَزَلْ أشعر بتلك الرجفة التي بين عالمَين ووُجُودَين، عَشْر سنوات والأجساد التي على الطريق الأسفلتي، الطريق الذي بمحاذاة الجامعة التي على الأطراف، تعبر أمامي في حزمة ضوء لا أعرف مصدرها!
د. أماني فؤاد / مصر
رفعتُ عينَيَّ عن صغيري، الذي انتابته نوبة صراخ منذ ثوانٍ، نظرتُ إلى الطريق من حولي؛ فلم أتعرَّف معالمه. نظرتُ إلى زوجي؛ فوجدتُ الذهول على وجهه والحيرة، لمحتُ ساعة السيارة فوجدتها تشير إلى السادسة وعَشْر دقائق؛ وقت مغيب الشمس.
لم يكن هذا امتدادًا لطريقنا الذي نسافر عليه منذ ما يقرب من الساعتين، ليس طريق مدينتنا، الذي نحفظه كما نحفظ رائحة أمهاتنا.
بَدَا الهواء خارج السيارة كثيفا، ضبابيا ومعتما رغم أعمدة الإضاءة الخارجية، كأن هناك من أوثق يدَيه وكمَّم فمه.
يسألني وكأنه يحدِّث نفْسه: كيف حدث هذا في لحظة؟ أفي طرفة عين نجد أنفسنا في طريق آخَر غير الذي كنا نتحرك عليه؟ كيف جئنا هنا، ومتى؟
أنظر على جانبَي الطريق، فتحط الغربة على روحي، أين الحقول التي أعرف مواعيد نوَّارها، مواسم روائحها؟ أين مساحات الأرز الشاسعة؟ أين الترعة الواسعة المتفرعة من النهر؟ قطعان الأبقار؟ كان من المفترض الآن أن نكون أمام مبنى الجامعة على أطراف المحافظة، كيف أصبحنا على هذا الطريق الذي نجهله تماما؟
نتساءل: هل اخترقنا حاجزا لا نعرفه؟ أمررنا من صدْع لم نشعر به؟ هل حَمَلَ السيارة شبحٌ وألقاها على هذا الطريق؟ كيف وصلنا إلى هذه المنطقة؟
شعرت أنني أحيا داخل أحد القصص الغرائبية التي أقرأها، لم أرَ تلك المحال من قبل في الطريق الموصل لمدينتي، لا أعرف ما هي تلك الحلوى التي يعرضونها للبيع، ولا هذه الفاكهة! ذكَّرتْني - ربما - بزهور كبيرة رأيتها بساحات الجوامع في تركيا وميادينها، لماذا تبدو وجوه الناس بلا ملامح؛ الوجه مثل الرأس من الخلف! أبحث عن وجوه البائعين الواقفين بالعربات على جانبَي الطريق؛ فأجد رؤوسهم مغطاة بالشَّعر وصولا إلى الرقبة من الناحيتين.
شعرتُ لوهلة أنني أعيش في وجه آخَر من الوجود الذي لا أعرفه، كيف انتقلنا من حال إلى آخر في لمح البصر.
يسألني زوجي: هل أنتِ بخير؟ تحسَّسي نبْض الوليد واحتضنيه جيدًا، شعرتُ لوهلة بأننا نجتاز بوابة ما، بدت هزَّة وكأننا نمُرُّ بمجال آخَر غير ما نعرفه، ترددات تعبر جسدي وتتركه دون مقاومة.
دعوتُه للوقوف على جانب الطريق وسؤال أحدهم عن موقعنا، وإلى أين يوصلنا؛ لم يستجب، أظنه ظَلَّ لعَشْر دقائق أخرى يحاول التعرف بنفْسه، البحث عن أية لافتات ترشدنا، ربما خَشِيَ أن يطأ هذا الوجود البرزخي الذي لا يعرفه بقَدمه، أو ألا يجد جسده.
ظَلَّت السيارة تسير في فضاء ثقيل من حولنا، إلى أن لمحت ضوءًا يأتي في مواجهتنا مباشرة، خشيت من اصطدامه بنا، وفزعت منبِّهةً له، اهتزت السيارة كما لو أن شيئًا صفعها بعنف، يعاود صغيري الصراخ؛ حتى خشيتُ ضياع صوته.
حين نظرت للخارج ثانية تبيَّنتُ حطامًا لأكثر من خمس عربات، وأجسادًا مغطاة بورق جرائد، ملقاة على أسفلت الطريق في حادث مَأْسَوِيٍّ، من حولهم صراخ عربات الإسعاف والشرطة، من خلف هلعي؛ لمحتُ مبنى الجامعة محاذيًا لنا تماما، نظرتُ إلى الساعة؛ فوجدتها السادسة وإحدى عشرة دقيقة. كأننا كنا خارج الزمن، خارج المكان أيضا!!
عَشْر سنوات مرَّت ولم أَزَلْ أشعر بتلك الرجفة التي بين عالمَين ووُجُودَين، عَشْر سنوات والأجساد التي على الطريق الأسفلتي، الطريق الذي بمحاذاة الجامعة التي على الأطراف، تعبر أمامي في حزمة ضوء لا أعرف مصدرها!
د. أماني فؤاد / مصر